هيّا بنا نتوجّع مع إسراء
حسن عبادي/رام الله-حيفا
تاريخ النشر: 20/09/23 | 12:23بدايةً اسمحوا لي أن أنقل لكم تحيّة مرح بكير وحرائر الدامون: “باسمي وباسم أسيرات الدامون نقول لإسراء: نحن فخورات بك وبإنجازاتك، علّمتِنا الصبر والإرادة. ألف مبروك”.
التقيت بالأسيرة إسراء رياض جميل جعابيص للمرّة الأولى يوم 17 آب 2021 في قلعة الدامون، ومذاك زرتها 8 مرّات من خلال مبادرتي للتواصل مع أسرى ومع حرائر الدامون، مبادرة تطوعيّة دون مقابل، لا تمويل قطري ولا تمويل تركي ولا حتى تمويل فلسطيني (ويوم الأحد كان اللقاء رقم 227 في السنوات الأخيرة).
حدّثتني مطوّلًا عن وضعها الصحيّ ومعاناتها، الإهمال الطبي وحرمانها من تلقّي العلاج لسنوات طويلة، دون أصابع ووجه مشوّه يتوق لعلاج، وجع وتشنّجات متواصلة،
حدّثتني عن التعلّم في جامعة القدس المفتوحة وبحثها حول الإهمال الطبي وفرضيّتها أنّ هناك عقوبة تُمارس ضد الأسرى والأسيرات وعلاقة جدليّة بين الإهمال والعقوبة.
تكرّرت لقاءاتي بها، وفي كلّ لقاء صرخت في وجهي “من حقّي أحصل على العلاج”، وقالت بحِرقة أنّها لا تسعى لعمليّات تجميل، فلا تستطيع رفع ما تبقّى من أصابعها التي خسرتها، والكتلة داخل الأنف تُغلق مجرى التنفّس والدِمّل في الإصبع والآخر في الأذن، وفصل اليد/ الذراع عن الظهر ليس بعمليّات تجميل كما يصوّرها البعض.
قرأت على مسامعي نصوصاً كتبتها وقالت لي ذات لقاء: “نحن الأحياء في قبور أسّسها السجّان لتكون وِفق استطاعتنا في تحويل هذه القبور إلى جنان، نهرب من واقع الضجر إلى واقع الأحلام لنبني ونؤسّس جنّة الصمود”.
حلمت إسراء بإصدار لها وتناولنا تفاصيل “موجوعة”؛ كولاج يشمل رؤيتها للإهمال الطبي داخل السجون، خواطر وأناشيد، ورسومات ولوحة غلاف – لوحة تعبيريّة لمعتصم، وحلمها الكبير/الصغير أن يكون هديّتها لعيد ميلاد معتصم؛
وها نحن نحقّق لها الحلم، بمساعدة صديقي الفنان ظافر شوربجي الذي عمل على التصميم والمنتجة تطوّعاً، ورغم تبخّر رجل الأعمال الذي وعد بالمساعدة بتمويل الإصدار ولكن حين صارت المخطوطة في المطبعة تلاشى وتهرّب من تنفيذ وعده، حاله حال كُثر سبقوه (وإحداهم وعد أسير بتمويل إصدار له، ولكنه تبخّر وتلاشى حين الدفع، لم أعلِم الأسير حتى اليوم بذلك، وهو يتصّل به في الأعياد والمناسبات ليعايد عليه ويشكره، ورجل الأعمال يفتخر بذلك بين معارفه!).
إسراء، كباقي حرائر الدامون، جرح دامٍ، أوجعني وآلمني كثيراً، صورتها تلاحقني ليل نهار منذ اللقاء الأوّل بها، وقلّلت زياراتي لسجن الدامون خجلاً من لقائها.
سُئلت مرارًا وتكرارًا: ما هو هدفك من وراء مشروعك التواصليّ مع أسرى يكتبون ومبادرتك “من كل أسير كتاب”؟
أقولها بصريح العبارة: أؤمن بما قاله جبران خليل جبران عن العطاء (نحنُ نُعطي لنحيا، لأنّ الامتناع عن العطاء سبيل الفناء)، والمحرّك الرئيسي من وراء الفكرة والمبادرة وتمويلها هو زوجتي سميرة، ولا أيّ تمويل من أيّ مصدر كان غير زوجتي وشريكتي سميرة.
يكفيني رسم ابتسامة على وجه أسير رغم عتمة الزنازين!
تكفيني ابتسامة إسراء جعاييص، أحمد عارضة، عنان الشلبي، منذر مفلح، أماني حشيم، أيمن الشرباتي، حسام زهدي شاهين، رائد الشافعي، ثائر حنيني، هيثم جابر، قتيبة مسلّم، خليل أبو عرام، معتز الهيموني، عمّار الزبن، أحمد الشويكي، رأفت البوريني، سائد سلامة، وغيرهم كُثُر.
إنّها رحلة صعبة ووعِرة؛
قمت في السنوات الأخيرة ب 227 لقاء، وكلّ لقاء أصعب من الآخر، أحمله معي عدّة أيام، وكما قال لي الصديق الأسير حسام شاهين (بوخذ لي يومين ثلاثة أحمّض الفيلم)، وفكّرت بالاعتزال وأخبرت ابنتي شادن وزوجتي سميرة بالفكرة، فعارضت ابنتي قائلة: “مش من حقّك”! وإذ بمكالمة هاتفيّة من سجن ريمون الصحراوي من صديق أسير فأخبرته بما يدور على مائدة الإفطار فكتب قصيدة بعنوان “نزق الظباء” وجاء فيها:
“سيقول لي حسن – الصديق
بأنّ شادن قرّعتهُ
لأنه اعتزم التوقف
عن زيارات السجون…
وينزوي وقتاً ليكتب
عن علاقته الوثيقة
بالثقافة والأدب…
وعن الذين نمَت علاقته بهم…
وأمدّهم بالعون…
حتى أظهروا إبداعهم…
……………
فقرّعي هذا الشقيّ…الخاطئ…المرتدّ…
هذا الخارجيّ…
وأنّبيه وعاتبيه…
بكلّ ما أوتيت من عفويّة،
وبكلّ ما أوتيت من غضب جميل…وادلقي كأس النبيذ حميّة…
صوناً لهاتيك المبادئ والسمات…”
هناك محاولات تشويه وشيطنة وعرقلة للمبادرة، وجاءتني أكثر من مرّة مقولة جيفارا “أنا لا ألوم الذين لا يعملون… ولكنني ألوم الذين يحز في أنفسهم أن يعمل الآخرون”، وتلك المحاولات تمدّني بالعزيمة للاستمراريّة في هذا المشروع علّني أنجح في رسم ابتسامة على وجه أسير أو أسيرة، ولو للحظة.
إسراء تستحق الحياة بحضن معتصمها وأهلها، وشمس الحريّة تتوق لعناقها.
صمتُنا عارُنا!
الحريّة خير علاج لإسراء ولكافّة أسرانا
***مداخلتي في حفل إشهار “موجوعة” في معرض فلسطين الدولي للكتاب يوم السبت 16.09.2023