وَحِيدْ قِصَّةٌ قَصِيرةْ
بقلم أ د / محسن عبد المعطي محمد عبد ربه
تاريخ النشر: 24/09/23 | 19:45وَحِيداً أَجْلِسُ فِي شَقَّتِي الْمُكَوَّنَةِ مِنْ ثَلَاثِ
حُجُرَاتٍ وَالَّتِي بَنَاهَا أَبِي-رَحِمَهُ اللَّهُ-وَبَيَّضَهَا
وَدَهَنَهَا بِالزَّيْتِ وَشَطَّبَهَا وَدَهَنَهَا(لُوكْسْ)كَمَا
يَقُولُونَ.
كَانَ أَبِي رَجُلاً مُكَافِحاً عَظِيمَ الشَّأْنِ أَمِيناً يُحِبُّهُ
كُلُّ أَهْلِ بَلْدَتِي(مَحَلَّةُ زَيَّادْ) وَكَمْ حَدَّثَنِي أَهْلُ
الْبَلْدَةِ-كَمَا حَدَّثَوا إِخْوَتِي عَنْ قَصَصٍ تَفُوقُ
قَصَصِ أَلْفِ لَيْلَةٍ وَ لَيْلَةْ- عَنْ كَرَمِ أَبِي وَنَجْدَةِ
أَبِي وَمُرُوءَةِ أَبِي وَشَهَامَةِ أَبِي وَعَظَمَةِ شَخْصِيَّةِ
أَبِي وَأَنَا أُوقِنُ بِصِدْقٍ هَذِهِ الْقَصَصَ لِأَنَّنِي
عَاصَرْتُ أَبِي مُنْذُ كُنْتُ طِفْلاً صَغِيراً إِلَى أَنْ
أَنْهَيْتُ دِرَاسَتِي الْجَامِعِيَّةَ وَالْتَحَقْتُ بِالْجَيْشِ.
وَفِي إِحْدَى الْإِجَازَاتِ وَجَدْتُ أَبِي قَدِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ
فَجَلَسْتُ جِوَارَهُ وَالْأَطِبَّاءُ يَغْدُونَ وَيَرُوحُونَ
وَالزَّائِرُونَ يُطِلُّونَ وَالنِّسْوَةُ يُضْمِرْنَ الْحُزْنَ
وَبَعْضُ أَصْدِقَائِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الْعَائِلَةِ يَتَوَشْوَشُونَ
وَأَنَا-وَحْدِي-لَمْ أَكُنْ مِمَّنْ يَتَخَيَّلُونَ أَنَّ أَبِي فِي
طَرِيقِهِ الْمُوَصِّلِ إِلَى رَبِّهِ.
ظَلَلْتُ جِوَارَهُ يَوْمَيْنِ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَفِي وَقْتِ
الظَّهِيرَةِ بِالتَّحْدِيدِ فَاضَتْ رُوحُهُ إِلَى بَارِئِهَا وَأَنَا
أُقَبِّلُهُ وَظَلَلْتُ جِوَارَهُ أَقْرَأُ كِتَابَ اللَّهِ عَلَى رُوحِهِ
الطَّاهِرَةِ حَتَّى رَأَيْتُ النِّسْوَةَ يَهْجِمْنَ عَلَيْنَا يَنُحْنَ
وَيَصْرُخْنَ وَيُوَلْوِلْنَ وَكُنَّا فِي الدَّوْرِ الثَّانِي مِنَ
الْبَيْتِ فَتَرَكْتُهُنَّ مَعَ أَبِي إِلَى الدَّوْرِ الثَّالِثِ وَأَلَّفْتُ
قَصِيدَتِي فِي رِثَائِهِ وَالَّتِي قُلْتُ فِيها:
“أَبَتَاهْ
إِلَيْكَ يَا أَبِي إِلَى رُوحِكَ الطَّاهِرَةِ أُهْدِي هَذِهِ
الْقَصِيدَةْ
ذَهَبَ الْوَفَا وَتَقَطَّعَتْ أَحْشَائِيَا=وَالنَّارُ تَحْرِقُ فِي صَمِيمِ فُؤَادِيَــا
النُّورُ أُطْفِئَ؟!إِنَّـهُ لَمْ يَـنْطَفِئْ=سَيَعِيشُ بَيْنَ الْكُلِّ يَا إِخْوَانِيَـا
أَعْمَالُهُ بَقِـيَتْ لَنـَا شَمْسَ الدُّنَا=يَا رَبِّ فَارْحَمْهُ وَخَفِّفْ مَا بِيَا
يَا رَبِّ أَنْتَ (الْحَيُّ) تَـبْـقَى ذُخْرَنَا=وَالْكُلُّ حَتْـماً سَوْفَ يُصْبِحُ فَانِيَا
***
أبَتَاهُ جَاوَرْتَ الْإِلَهَ مُنَعَّماً=فَــاهْـنَـأْ بِحُسْنِ جِوَارِ رَبِّكَ رَاعِـيَا
لَبَّيْتَ دَعْوَةَ رَبِّنَا مُتَشَوِّقـاً=لَبَّيْكَ رَبِّي لَيْسَ غَيْرُكَ دَاعِيَا
***
أبَتَاهُ هَلْ تُمْسِي مَعَ (الْمَوْلَى) لَقَدْ=غَفَرَ الْإِلَـهُ لَـكَ الذُّنـُوبَ مُعَافِيَا؟!!!
أَنْتَ الْعَــطُـوفُ عَـلَـيَّ يَا أبَتَاهُ, هَلْ=ذَهَبَ الْحَنَانُ وَأُطْفِئَتْ أَنْوَارِيَا؟!!!
فَـلَكَمْ حَـرِصْتَ عَـلَـيَّ يَا أبَتَاهُ فِي=صِـغَرِي وَفِي كِبَرِي وَكُلِّ حَيَاتِيَا
رَبَّيْتَنِي عَلَّمْـتَـنِي نَبَّهْتَنَي=لَقَّنْتَنِي فِي رَحْمَةٍ قُرْآنِيَا
هَذَا كِتَابُ اللَّهِ يَشْهَدُ يَا أبِي=كَيْ يَغْفِرَ (الْمَوْلَى) ذُّنـُوبَكَ حَانِيَا
مَـا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ يَوْماً يَا أبِي=سَــتَصِيرُ فِي الْأَجْدَاثِ تُصْبِحُ ثَـاوِيَـا
لَكِنْ قَـضَاءُ اللَّهِ حَـلَّ فَلَيْتَنِي=قُدِّمْـتُ مِنْ فَوْرِي وَحَانَ فَنَائِيَا
أَفْدِيكَ يَا أبَتَـاهُ أَفْدِي شَمْسَنَـا=تَـأْتِي وَيَأْتِي بِالْأَمَانِ نَهَارِيَا
لَكِنَّ رَبِّي قُدِّسَتْ أَسْمَاؤُهُ=اِخْتَــارَ شَمْسِي هَــلْ أَرُدُّ قَضَائِيَا؟!!!
رُحْمَاكَ رَبِّي لاَ اعْتِرَاضَ عَـلَى الْقَضَا=لَكِنْ دُمُوعُ الْــقَـلْبِ أَذْكَتْ نَارِيَا
***
أَبَتَاهُ رَبِّي سَوْفَ يُسْعِدُ رُوحَكُمْ=وَ لَسَوْفَ تَسْعَدُ فِي الْجِنَانِ مُبَاهِيَا
فَــلَـكَمْ حَنَوْتَ عَلَى الْيَتِيمِ بِجَاهِكُمْ=هَذَا لَـعَمْـرُ اللَّهِ فَـضْلُ إِلَهِيَا
يَا رَبِّ أَسْعِدْهُ وَأَفْسِحْ قَبْرَهُ=وَاغْفِرْ لَهُ فَلـسَوْفَ يُصْبِحُ رَاضِيَا
***
أبَتَاهُ سَوْفَ أَعِيشُ أَذْكُرُ فَضْلَكُمْ=أَدْعُو لَكُمْ بِصَبَاحِيَا وَمَسَائِـيَا
لِمَ لاَ و أَنْتَ الْوَالِدُ الشَّهْمُ الَّذِي=ضَحَّى كَثِيراً كَيْ يَدُومَ هَنَائِيَا؟!!!
لِمَ لاَ وَقَدْ أَوْصَيْتَنِي يَا بَدْرَنَا=بِالصَّـبْرِ وَالتَّقْــوَى ,طَرِيقِ صَلاَحِيَا؟!!!
عَلَّمْتَنِي فَضْلَ الصَّلاَةِ عَلَى الْوَرَى=حَبَّبْتَنِي فِي(الْمُصْطَفَى) هُوَ زَادِيَـا
فَـهَّـمْـتَنِـي كُلَّ الْعُـلُـومِ وَإِنَّنِي=مَا زِلْتُ أَذْكُرُكُمْ بِـفَـيْضِ دُعَائِيَا
***
أبَتَاهُ هَلْ قَدْ بِتُّ فِي حُلْمٍ تُرَى؟!!!=أَمْ أَنَّ هَذَا الْبَيْنَ يَأْتِي عَاتِيَا؟!!!
أبَتَاهُ,أَيْنَ السَّعْدُ أَلْمَحُـهُ إِذَا=قَـابَلْتُ شَخْصَكَ دْبَرَتْ أَحْزَانِيَا؟!!!
أَغْدُو كَئِيباً يَا أبِي لَكِـنَّنِـي=أَلْقَاكُمُ فَيَفِيضُ سِحْرُ صَفَائِيَا
يَا رَبِّ إِنِّـي قَــدْ رَضِيتُ بِذَا الْقَضَــا=فَاجْـعَـلْـهُ يَـنْعَمُ فِي الْجِـنَانِ مُنَـاجِيَـا
لَـكَ يَـا إِلَهَ الْـكَوْنِ,أَنْـتَ حَـبِيبُنَا=يَا رَبِّ أَنْتَ تُجِيبُ كُلَّ نِدَائِـيَـا
يَا رَبَّنـَا رُحْمَاكَ بِالْعَبْدِ الَّذِي=لِـلْـحَـقِّ يَغْــضَبُ لاَ يُبَالِـي بَاغِيَا
يَا رَبَّــنـَا هَذِي أَمَانَتُكَ الَّتِي=رَجَعَـتْ إِلَيْـكَ, وَأَنْتَ هَلْ تَبْقَى لِيَا
أَرْجُــوكَ ..رَبِّي أَنْ تَكُونَ بِجَـانِـبِي=أَنْتَ الْمُعِينُ وَأَنْتَ نُورُ سَمَائِيَا
سُبْحَـانَـكَ اللَّـهُـمَّ أَنْتَ مَـلِيكُـنَا=وَنَصِيرُنَا يَا رَبِّ حَقِّقْ ذَاتِيَا
بَعْدَ ذَلِكَ حَانَ وَقْتُ الْغُسْلِ فَأَرَادَ بَعْضُ الْأَقَارِبِ
وَالْجِيرَانِ مَنْعِي مِنَ الدُّخُولِ وَلَكِنَّ الشَّيْخَ/ محمد
عبيد (اَلْمُغَسِّلْ) سَمَحَ لِي شَرِيطَةَ أَنْ أَلْتَزِمَ
الْهُدُوءَ وَقَالَ لِي:”أَنْتَ رَجُلٌ أَزْهَرِيٌ وَتَعْرِفُ
أَنَّكَ أَوْلَى النَّاسِ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَبِيكَ ” قُلْتُ:
“نَعَمْ” وَتَوَضَّأْتُ بِالْبَيْتِ وَعِنْدَمَا ذَهَبْنَا إِلَى
الْمَسْجِدِ انْطَلَقْتُ مُسْرِعاً فَإِذَا الْأُسْتَاذْ/ عبد
الصبور معروف يَهُمُّ بِإِمَامَةِ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ
وَعِنْدَمَا لَمَحَنِي سَأَلَنِي:”تُصَلِّي
عَلَيْهِ؟!!!”قُلْتُ:”نَعَمْ”.
صَلَّيْتُ عَلَى أَبِي وَكَأَنَّ الدُّنْيَا قَدِ انْخَلَعَتْ مِنِّي
وَوَلَّتْ عَنِّي.
لَقَدْ كَانَ أَبِي كُلَّ شَيْءٍ فِي حَيَاتِي.
كَانَ الْحَيَاةَ ذَاتَهَا كَانَ الْأَمْنَ كَانَ الْأَمَانَ كَانَ
الطُّمَأْنِينَةَ
لَيْسَ لَنَا وَحْدَنَا بَلْ لِكُلِّ أَبْنَاءِ الْبَلْدَةْ.
فَقَدْ كَانَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بَيْنَ الْمُتَعَارِكِينَ
وَالْمُتَخَاصِمِينَ وَالْمُتَشَاحِنِينْ.
كَانَ وَمَا زَالَ وَسَيَظَلُّ فَخْراً لِي وَلِكُلِّ أَبْنَاءِ
بَلْدَتِي وَحَسْبُنَا مَا تَرَكَهُ لَنَا مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ
تُقَابِلُنَا فِي كُلِّ خُطُوَاتِنَا وَأَنَّنَا جَمِيعاً نَشْعُرُ أَنَّهُ مَا
زَالَ يَعِيشٌ بَيْنَنَا رَغْمَ مُرُورِ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ عَلَى رَحِيلِهِ إِلَى رَبِّهْ.
يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا أَبِي مَا هَبَّتِ النَّسَائِمْ وَمَا لَاحَتْ
عَلَى الْأَيْكِ الْحَمَائِمْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ كُلَّمَا سَبَّحَ
عُصْفُورٌ بِحَمْدِ اللَّهْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ مَا صَلَّى الْمُصَلُّونْ
وَاسْتَغْفَرَ الْمُسْتَغْفِرُونْ وَابْتَهَلَ الْمُبْتَهِلُونْ وَدَعَا
الدَّاعُونْ.
” إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ “البقرة(156)