أسباب وأوجه الأزمة في تعريف -الحقيقة-!
د. ادم عربي
تاريخ النشر: 03/10/23 | 17:06عندما يقول ُعالم ٌ فيزيائيٌّ شيئاً يتفقُ مع الخيالات الدينية لمن يرفضون الحقيقة ، يفرحُ هؤلاء وتفرح معهم أقلامهم وألسنتهم. فهم يظنون أنَّهم وجدوا المزيد مِنَ البراهين الفيزيائية النظرية على أنَّ البشرَ لا يستطيعون الوصولَ إلى الحقيقة أوْ فهم وإدراك العالم.
إنَّهم يؤمنون بمبدأ أو قاعدة اللايقينية التي وضعها “هايزنبرج” ؛ فالبشرُ ممنوعون بقوة هذة القاعدة ولربما لحكمة إلهية في معرفة الحقيقة الكاملة عن الواقع ؛ ومن ثمَّ علينا الاكتفاء بمعرفة جزئية أو نسبية عن الحقيقة ؛ نصف الحقيقة أوبعض منها ، بما لا يسمح تخطِّي جدار “بلانك” .
الحقيقة هي ما يسعى إليها الجميع، ولكن ليس كل مَنْ يسعى إليها يريد أنْ يراها كما هي ، فهناك مَنْ يتحدى الحقيقة ، ويحاول أنْ يغيرها أوْ يخفيها أو يزورها ويحجبها عن بصائر كلّ مَنْ له مصلحة بها ، لأنَّها تضرّ بـمصلحته ، وهناك مَنْ يتظاهر بأنَّه يبحث عن الحقيقة ، ولكنه في الواقع يبحث عن ما يؤيده ويبرره ، فلو أنَّ بديهية فيزيائية كانتْ مصلحة ما ، لشَنَّ أصحاب هذه المصلحة الحرب عليها.
نحن نسعى إلى الحقيقة بكلّ ما نملك مِنْ جهد وزمن، ولكننا لم نتخلى عن كبريائنا بما يكفي لنسأل أنفسنا ما هي الحقيقة؟؛ وكأن لدينا مصلحة في أنْ نجعلَ الحقيقة تتوافق مع مصلحة مَنْ يمتلك السلطة على تحديدها.
إنَّ مفهومنا للخيال يتناقض مع الحقيقة أوْ هو نقيض الحقيقة ، و معرفتنا مع المنطق هي ما تصنع الحقيقة لكن “آينشتاين” ، الذي أوهبه الله عبقرية الخيال، أرشدنا إلى طريقة جديدة في التفكير، تقودنا إلى الحقيقة ، فقد قال إنَّ الخيال أهم مِنَ المعرفة ، وقال أيضا إنَّ المنطقَ يسير بك مِنَ الألف إلى الياء، ولكن الخيال هو الذي يأخذك إلى أي مكان تريده.
عندما نستخدم الخيال لإيجاد نظرية ما ، ندرك أنَّ هذه النظرية لا تتوافق مع الحقيقة إلَّا إذا كان الواقع الموضوعي يدعمها ؛ ولذلك نحتاج إلى المنطق المنطقي ، الذي يجبرنا على تعريف الحقيقة بأنَّها أي فكرة تتطابق مع الواقع الموضوعي؛ وليس لدينا أي معيار نستخدمه لقياس الحقيقة في أي فكرة، أو أي مقياس نميزها به ، سوى الواقع الموضوعي ، الممارسة ، والتجربة العملية الواقعية .
يختلفُ الناسُ حولَ مفهوم الحقيقة ،هناك من يرى أنَّ الحقائق النسبية هي الوحيدة الموجودة فكلّ حقيقة هي نسبية ، وهناك مَنْ لا يقبل إلَّا بالمطلق مِنَ الحقائق ، وهناك من يتطرف في وصف الحقيقة النسبية ، فهو يقول: إن الحقيقة المُطْلَقَة الوحيدة هي أنَّ لا حقيقة مُطْلَقَة ؛ بل كل الحقائق نسبية.
كثيرا ما تم فهم الحقيقة النسبية بشكل خاطئ ، كما حدث مع الحقيقة المطلقة ، أظنُّ أنَّ سبب هذه الخطأ هو عدم استخدام “جدلية ” التفكير في النظر إلى الأمور، فنحن نميل ، في أغلب الأحيان، إلى الفهم الميتافيزيقي للعلاقة بين الضدين، أي بين أي زوج من المتناقضات.
بعض الناس يخلطون بين الحقائق النسبية والرأي الشخصي، ويتجاهلون حقيقة مهمة جداً وهي أنَّ الحقائق النسبية تستند إلى الموضوعية وليس على الذاتية ، ولتوضيح هذه الفكرة ، أرى أنَّ هذا المثال يبين بوضوح الحقائق النسبية الموضوعية:
جَلَسَ زميلان على طاولة مقابل بعضهما البعض ، ووُضعَتْ دلةُ قهوة وكأس ماء على الطاولة ، وكانَ عليهما الإجابة على السؤال التالي : أين يقع كأس الماء ؟ هل هو على يمين أمْ يسار الدلة؟ ، أحد الجالسين أجاب أنَّ كأس الماء موجود على يسار الدلة وهذه إجابة صحيحة والآخر أجاب بأنَْ الكأس موجود على يمين الدلة وهذه إجابة صائبة أيضاَ ، لكن ! أين يقع الكأس في هذه الحالة؟ لدينا إجابتان متناقضتان وصحيحتان .
هذا المثال سهل الفهم ، ولكنه غني بالدلالات ، ويدعوك إلى التأمل فيه بعمق، وإلى تنمية مهارات التفكير الجيد ، هذا التباين الفكري في ردودهما لا يرضي كثيراً من الناس الذين تعودت عقولهم على تصور الحقيقة بما يتوافق مع المبدأ الميتافيزيقي “هذا أو هذا”.
إنَّ المقاربة الموضوعية في حلّ هذا الإشكال هي أنَّ الكأس موجود على يسار ويمين دلة القهوة في الوقت نفسه . وعملا بقاعدتهم التي لا تستند إلى العملية أو العلم ، حيث يزعمون أنَّ عدم تطابق أو تعارض الإجابتين لا يدل على شيء سوى أنَّهما لا علاقة لهما بمفهوم الحقيقة ، ومن ثمّ سيسخرون قائلين: كيف يمكن للحقيقة أنْ تكون صحيحة إذا ما قلنا : إنَّ الكأس على يسار ويمين الدلة في نفس الوقت ونفس الحظة ؟! الواقع الموضوعي لـلدلة يرد عليهم بالقول: هذه هي الحقيقة ، فهذا هوالواقع الموضوعي المتضارب للدلة ، إنَّ الكأس على يمين ويسار الدلة في نفس اللحظة ، فهل يستطيع شخص ثالث أنْ يحكم على الأمر بحكم ميتافيزيقي ويقول مثلاً إنَّ الحقيقة ، كاملة الحقيقة، أوْ إن َّالحقيقة التي لا شك فيها، هي أنَّ الكأس موجود الآن على يسار الدلة ، لا يمينها؟!.