ماذا تفعل الانتخابات بنا؟
بقلم: أنيس نصر الدين
تاريخ النشر: 05/10/23 | 20:26وصف “يوفال نواح هراري” في كتابه: “21 خاطرة عن القرن ال 21” العملية الانتخابيّة في كل أرجاء العالم – من الدول المتقدمة والرائدة إلى دول العالم الثالث والخامس حتّى- على أنها عمليّة غير عقلانيّة. بمعنى أنها منظومة عاطفيّة ترتكز على اعتبارات شعورية وأحاسيس وتراكم انفعالات وثقافة هبّات وعنتريات، وانتماءات قَبَليّة ضيّقة. وهي لا تبنى بالضرورة وفق معايير موضوعيّة كثقافة المرشّح، وإنجازاته العلمية والمعرفية، أو منجزاته المشاريعيّة والتشريعيّة، التي تكون مقياسًا دامغًا لنجاعته أو فشله.
أنظرُ حولي في هذه الأيام الانتخابية العاصفة، فأرى جَلِيًّا صدقَ نظريتهِ وادّعاءاته. أشعرُ وكأنَّ هذه الانتخابات تجرّد كلّ إنسان فينا من حكمتهِ واتزانه، وتخلع عنه تسامحه ولباقته، فيتحوّلُ إلى مخلوق مُقْفَرٍّ يفتقر إلى أبجديات الخُلُق الرادع، وكأننا نعيش في غابة كلها جاهلية وعدوانية. فجأة ترى الآدميّ يتحول إلى بلطجيّ عنيف، ورجل الأعمال الناجح إلى بوق يبخُّ تحريضًا وكراهية، وطالب الدكتوراة إلى رجل عائلة فئوي وعقيم، والشيخ إلى متهور يستميت دفاعًا عن مرشحه غير الأخلاقي وفق كل معيار دينيّ. فبقدرة قادر أصبحنا نتغاضى عن سيئات مَن ندعمه، ونغفر ذنوبه وزلّاته، ونتيح المحظور في كل ما يتعلق فيه. أقسم بالله لو مرّ “مكيافيلي” في حيّنا البائس في هذه الأيام، لفكّر في طباعة نسخة إضافية من كتابه “الأمير” لكثرة المتملقين والكذابين والمغرضين والسحيجين.
أكثر ما يزعجني في هذه المسرحية الخائبة، هو تحوّل النساء إلى عنصر مجتمعيّ قانط، ومفعول به مجرور وليس منصوبًا ومنتصبًا، إنما منصوبًا عليه. أعجب كيف تقبل وتتقبل نساؤنا المتعلمات والمدركات، والمتفوقات علينا نحن معشر الذكور في كل مضمار، أنْ يصفقْنَ لمَن هو دونهنَّ في العلم والمعرفةِ والخُلُق. أعجب كيف يندثر الفيمينزم وتموت شعارات المساواة والتحرر في هذا “الشهر الفضيل”، وأنتنَّ راضيات مسلِّمات، وتقفنَ في الحفلات كجوقة مشجّعات تهتفنَ باسم القائد العائلي المفدّى وكرامة العائلة الموهومة. كيف تقبلنَ بهذه السهولة أن يُستثنى دوركنَّ وتأثريكنَّ وأنتنَّ تركضنَ من اجتماع لاجتماع، لتكنَّ مجرد زينة ترفيهية في الصفوف الخلفيّة.
أخيرًا، يستحضرني في هذه الأجواء المأزومة المذيع المصري المشهور “أحمد سعيد” في برنامجه المدوّي “صوت العرب” في إذاعة القاهرة، أيام حرب 67 والنكسة الكارثية، عندما أعلن انتصار الجيش المصري الكبير في أول أيام الحرب، بحيث تحدث عن احتلال أجزاء شاسعة من اسرائيل وقتْل الآلاف من الجنود وتدمير البنية التحتية للجيش الصهيوني العدوّ. وكان قد وصف سيرورة الحرب آنذاك وكأنها “نزهة إلى تل أبيب”! وعندما وضعت الحرب أوزارها بان لنا حجم الكارثة المصرية والسقوط المدوي وفاجعة النكسة التي حلّت بالأمة ككل. والأهم الأهم انكشفت لنا الفاجعة الكبرى الكامنة في التضليل وغسل الأدمغة وتزوير الحقائق واستحمار الشعوب واغتيال عقولها. لذلك أتمنى في هذه الأيام المضطربة ألا نصدق الكثير من نماذج “أحمد سعيد” المتكاثرة بيننا، والتي تعمل بدهاء حثيث ومكر مراوغ على تفخيخ العقول وإخفائها، وتنويم الضمير وتغييبه، وإبقائنا في هيبنوزا قَبَلية كي نختار بشكل عشوائي وتعسفيّ، بمنأى عن صوابنا الحكيم وحُكمنا الراجح والرزين.
يجب ألا ننسى أننا كلنا في خندق واحد، وكلنا إخوة مستهدفون من قبل الدولة ومؤسساتها الضارية، والحرب الحقيقية التي يجب أن نخوضها، هي ليست بالتأكيد تكسير رؤوس بعضنا البعض، وتفريق صفوفنا وتمزيق وحدتنا وكلمتنا من خلال مناوشات على الفتات والكراسي. وإنما الحرب الحقيقة تكمن في انتزاع الحقوق ونيل المطالب وتحصيل المساواة من اللئام الذين يخططون ويتربصون لنا بعد انتهاء لعبة الانتخابات بيوم. هذه هي الحرب المصيرية والمفصلية التي يجب أن نخوضها ونحن متحابّون ومتماسكون ومجتمعون على كلمة “التوحيد”.