لقاء مع البروفيسور فاروق مواسي

تاريخ النشر: 15/11/11 | 23:47

من آمال رضوان

كيف تعرف نفسك أولاً- وأنت تصول وتجول في ميادين الأدب، وأنت ترسم في ألوان أدبية كثيرة؟

– أعرّف نفسي أولاً أنني ناقد، ذلك لأن النقد من طبيعتي وتأصيلي، وبي مثل شيلي شهوة لإصلاح العالم، ومن الغبن أنه لم يعهد إلي أن أجرب إدارة الدفة.

ألبس عباءة النقد، وأزعم أنني موضوعي نزيه لا يأخذني في قولة حق لوم أو تثريب. ومن يهتم بالأبراج أقول له “إنني من برج الميزان”.

ناقد، لأن شعري محاورة حالة، جو، موقف، ومساءلة لذاتي.

ناقد، لأن مقالتي ترمي إلى الأجمل والأمثل.

ناقد، لأن قصتي تراوح فكرة وتداعبها علها تُروى فتروي.

ناقد، لأن بحثي أدرسه وهو يوازي قناعاتي، وإلا فما أغناني عن أن أعالجه ويعالجني.

وأطلّ على اللغة ناقدًا لها، وتظل معشوقة.

وأما المربي فيّ فهو ناقد اجتماعي فلسفي يزرع جنات ألفافًا في بيداء الظلمة الجاهلة.

إلى أي مدى كان للقرآن أثر في مسيرتك؟

– يظل القرآن أستاذي ونبراسي في اللغة، حفظت منه ما حفظت، بل كنت فيه الفائز الأول في حضرة شيوخ حفَظة تجاوزوا الخمسين، ذلك في مسابقة رسمية أجرتها دار الإذاعة سنة 1967.

في لغة القرآن بدأت أتقرّى أسباب شكل اللفظة، وارتباط المعنى به، فإذا كانت (الحمد لله) بالحركات الثلاث على الدال فهذا يعني أنني شرعت أخوض لججًا لغوية ومعرفية، وثمة قراءات أتنغم بها، وأتعلم منها.

لغة كنت أترنم فيها وأنا أقرأ مثلاً سورة مريم وكأنها إيقاع موسيقي رهيف.

ثمة أكثر من دراسة أكاديمية عن تأثير القرآن في شعري – في اللفظة وفي الجملة، في المضمون، وفي التناص إيجابًا أو سلبًا.

ومن نافلة الإجابة أنني سميت ابنتي الحبيبتين مستقيًا الاسمين من رافدين- آيتين: {فبأي آلاء ربكما تكذبان* جنى الجنتين دان}. هل أقول لكم إن (آلاء) و (جنى) جناهما حقًا دان في الدنيا قبل الآخرة؟!

ورحلتك الأكاديمية؟ دعنا نصحبك فيها!

– رحلتي بدأت من خلال قراءات تترى، تثري تجربتي كل يوم، وتعلمني الدقة والمسؤولية في مراجعة الجملة والمقولة، بل محاورة اللفظة التي دخلت نسيج النص. فيها معاناة في التنقيب والموازنة، فيها استنتاج، وبناء موقف. فيها استقلالية وقناعة– قناعة غير المغترّ، قناعة ليست مطلقة، بل تدع المنفذ للمستجد، فمن أغلق النوافذ وأحكمها أصابه العطن.

يوم التقيت بعض الأساتذة في الجامعة، وكانت العربية مصدر اعتزازي دهشت لتصويبات كانت على أوراقي، فالتعليقات كانت توحي لي، بل تلح علي أن أفتح عينيّ أكثر على مصادر خفيت مساربها عني، وأن أثير مسائل جديدة، وأن أدقق حتى في رقم الصفحة الذي نقلته عجلاً.

تعلمت أن أجوب وأجول، أراجع المـراجع، وأنا أعمد إلى جدية هي شفيعي.

هكذا انطلقت أحسب كل حرف وكل كلمة، فأخذت أحاسب كل كتابة، وكأنني ضابط أو رقيب، فهذا البحث أعلق علية صفحة مقابل صفحة، وآخر أضرب عنه كشحًأ وكأنني لم أقرأ، وهذا أعجب به حتى الثمالة فلا أضن على نفسي ولا على صاحبة بكلمة ثناء، ولأنبئه عن مسرتي به، وهناك أكثر من آخر أسائله لماذا يصر صاحبه أن يكتب؟ لماذا؟

تركزت أطروحتك للدكتوراة على أشعار الديوانيين (العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري) بإشراف محاضر إسرائيلي -هو ماتي بيلد في جامعة تل أبيب، فهل قدم لك إرشاده نوعية ما – حسب رأيك-، وماذا لو درست في جامعة عربية؟

– ما ألاحظه على الأساتذة الأجانب المميزين أنهم يحرصون على دقة الأداء، وينفرون من فضفاضية العبارة التي تزخر فيها أبحاثنا، فنحن تشدنا الاستعارة والكناية والمجازات ببلاغيتها المطربة، فلو قال باحث: “هو جزل العبارة” – مثلاً- لصعبت الترجمة إلى أي لغة وحتى العربية، فما معنى (جزل) تمامًا؟ وماذا أعني بالعبارة؟ الأجانب يبحثون كذلك عن موازنات مع كتابات الغربيين في المجال الذي يجولون فيه، وهم يضعون نصب أعينهم أولاً وقبلاً سؤال البحث، وكل زائدة ناقصة.

لم أتوجه للدراسة في عالمنا العربي لأن الأبواب سكّرت أمامنا، وذلك بسبب ما يدعون أنه حرب بينهم وبين هؤلاء الذين أعايشهم في بردس حنا وهرتسليا وكفار سابا….. وقد يعلم الله حقيقة هذا العداء، و حقيقة هذه “المقاطعات” الاقتصادية؟!

وماذا مع تهمة (التطبيع)؟ وهل جابهتها في غمرة مشاركاتك الأدبية في ربوع العالم العربي؟

– تطبيع ! تطبيع! أكثر من مرة حيل بيني وبين المشاركات الأدبية والعلمية، فجامعة جرش –مثلاً- تتصل بي لتعتذر قبل يوم من انعقاد مؤتمر فيها عن اللغة، وكانت قد أجيزت فيه ورقتي.

وجامعة الجزائر تدعوني لمؤتمر أطفال أشارك فيه ببحث عن لغتهم، فإذا بهم يلغون الدعوة، لأنني أحمل الجواز الإسرائيلي.

اتحاد الكتاب في الإمارات يعتذر عن عدم دعوتنا بعد أن توجهنا له (بناء على رأي دكتور له دالة – هو الصديق د. صالح هويدي)، فيقولون بصريح القول: إنه “تطبيع”!!!

في مجمع اللغة العربية في القاهرة استقبلونا على توجس، واعتذروا عن عدم تمكنهم من استقبال وفد منا في مؤتمر المجمع باعتبارنا مراقبين، وهيهات! فهذا “تطبيع”!

بالطبع تستقبل الدولة السياح والتجار والقوّا…. والمقامرين ولا تستقبل العلماء والباحثين!!!

مع ذلك فقد دعيت إلى جامعة اليرموك، والبترا، والأردنية، وجدارا وفيلادلفيا في الأردن، وإلى سوسة في تونس. ومع أسفي أعترف بأنني كنت بمثابة “ضيف”، وعلي أن أقبل ما يراه المضيف، وألا أتجاوز حدي. أشارك وكأنني ذلك “القاصر” الذي تجب رعايته والحدب عليه.

سأعترف أكثر: لقد تبين لي من خلال فحص ومساءلات لي أن المخابرات تستقصي وتظهر للمسؤولين في الجامعة -بصورة غير مباشرة- عدم رضاها عن الدعوة. هي لا تحظر، لكنها توحي، كما اعترف لي بعض أصدقائي ممن يبادرون لدعوتي.

في المؤتمر الأول الذي شاركت فيه في جامعة اليرموك أخبرني المستشرق ياروسلاف ستيتكيفتش أنه قرأ في صحيفة الدستور خبرًا عن المؤتمر، وفيه غمز بأن الجامعة تقوم بالتطبيع إذ تدعو محاضرًا يحمل الجواز الإسرائيلي؟؟؟!!!

وبرغم ذلك، وبرغم لغة “التعاطف” فإنني أشارك بنشاط، فأتعرف إلى أساتذة أجلاء، وإلى أدباء أسر برفقتهم.

هل أؤكد على أهمية أن يعتذر لي أكثر من خطيب في المؤتمرات إذا أخطأ أو لحن؟

نعم سأذكر ذلك لأدلل على اعتراف ضمني بمدى حرصنا نحن المرابطين في الأرض على لغتنا ووجودنا وهويتنا.

وهل لهم اطلاع على أدبنا وحركتنا الثقافية؟

– لاحظت أن الدكتور منهم ليس مستعدًا للتعرف إلى الحركة الأدبية في الداخل، فحسبه من أدبائنا من يعرفه، ليدِلَّ بما يعرفه عنه في جمل مكرورة ومعادة، أما الجديد فيندر جدًا من يتدارسه.

بل إن صحافتهم لا تكاد تنشر لأحد منا إلا تكرمًا، أو كأن الأمر إنجاز موقفي- ينشرون مرة أو مرتين، وكفى بذلك وكيلا.

هل ثمة متنفس لدى مناطق السلطة الفلسطينية تبعًا لذلك؟

– كان لقاء الأدباء الفلسطينيين تحت سماء الوطن سنة سبع وستين في ظروف احتلالية عاتية، ومع ذلك كنا نكتب في صحافة الضفة، وهم يكتبون في صحافتنا. كنا نلتقي أدباء القطاع وهم يلتقوننا. نشارك ويشاركون في مؤتمرات تعقد، وفي ندوات تنتدى. حتى إذا تغيرت رياح السياسة، واستبد العدوان أكثر فأكثر حواجز وجدارًا وأسلاكًا ندرت اللقاءات، اللهم إلا لقاءات يسيرة في بيت الشعر.

أستطيع أن أصف الوضع أفضل مما وصفت به أهلنا في العالم العربي، لكن ظلال الريبة تغيم أحيانًا، وبقدر ما أنا وابن رام الله في هوية واحدة فإن ثمة خيطًا يرسم فرقًا.

هل أقول رأيًا لم يرد لدى أحد، وأنا أظنه يحلق في أجوائنا؟

ثمة تجاهل يُمْنى به (عرب48) سواء من الكيان الذي يعيشون بين ظهرانيه – يتجلى بعدم المساواة، وبحالة الاستلاب المستمرة- هذا من جهة،

ومن جهة أخرى – من السلطة الفلسطينية – بالتنكر لنا في كل المؤسسات الرسمية، وكأنهم يؤكدون “إسرائيليتنا” أكثر مما نبغيه.

إزاء ذلك فإنني أخشى إذا طالب الجليل والمثلث وسائر العرب في الداخل يومًا ما باستقلال داخلي (أوتونوميا)- بكيان له مقوماته ومواصفاته الاجتماعية والتعبيرية، وإذا انطلق ربيعهم العربي الخاص بهم .

أود أن أعرف منك إذا كنت قد نجحت –شخصيًا- في إبراز قضيتك الفلسطينية؟

– هذا السؤال من شقين: في السياسة والنشاط فيها، وفي الأدب أو في كتابتي.

أما السياسة فقد توقفت عن معاركتها، وشرحت سبب قصوري في ذلك. وجدير بالمهتم أن يتابع حواراتي التي كانت لي مع شخصيات إسرائيلية، وذلك في”أقواس من سيرتي الذاتية: ط2 -2011- صفحاتي السياسية ص 156- 191. ويستطيع المتصفح أن يجد ذلك في موقعي أيضًا.

أما الوجه الأدبي فهو في الشعر وفي النثر.

إن الهوية الفلسطينية بارزة في كتاباتي الشعرية،وذلك عبر التجليات التالية:

– ذكر الاسم”فلسطين” مباشرة وغير مباشرة، تعبيرًا عن الانتماء والهوية.

– ذكر الأماكن والمواقع الفلسطينية من خلال إبراز النغمة التي تشي بالألم، وخاصة وصف قرى مهدمة ومهجورة – من خلال تبيان المأساة التي ألمت بالشعب الفلسطيني.

– رثاء بعض الشخصيات الوطنية الفلسطينية.

– التركيز على بعض المترددات (الموتيفات) الفلسطينية نحو “الشهيد”،”الأرض”،”العَلَم”……

كتبت قصائد كثيرة فيها ذكر للمواقع وفيها التحام بالمكان،وخصصت قصائد خاصة عن القدس (أربع قصائد) وقيسارية وعكا ويافا وحيفا (انظر الأعمال الكاملة ص256،237،236…… وكذلك”ما قبل البعد”،ص 27،26،172،8)

قلت في قصيدة لي عن القدس :

“وسر القدس يشرق في سرائرنا”

(ما قبل البعد،9) حيث تُظهر لغة (نحن) الانتماء والمشاركة العميقة.

وقد وقفت على أطلال الديار في عين غزال وإجزم والسنديانة، ومما سجلته من عذاباتي قصيدة”عذاب المدى”، فقلت وأنا أصف بناية كانت مدرسة في”ماضي الزمان”:

“أطفالنا مضوا

الآخرون من أتوا مكانهم

وجرحنا درى به طير يرف فوق إجزم..”

(خاطرتي والضوء، ص 14)

وتظل قصيدة “الشيخ والبحر” التي تتحدث عن مسجد قيسارية الذي أضحى – بقدرة ظالم- حانة، وهناك يعترف الراوي الشاعر أنه – طلب كأسا” ليذكر أو ينسى… يذكر….. يجتر مهانة”. والقصيدة تقع في خمسة مقاطع رقّمتها أو رتبتها حسب الحروف ب،ل،ا،د،ي، وما أجملها إذ تُجمع!

– في رثاء الشخصيات الوطنية الفلسطينية أظهرت البعد الوطني، وكم بالحري إذا كانت القصائد أصلاً قد كتبت لرثاء وطنيين بارزين مثل راشد حسين وعصام السرطاوي وعبد اللطيف الطيباوي وسامي مرعي وفهد القواسمي (الأعمال الكاملة، من 159،360، 303، 305، 306)، وكذلك أبو جهاد (قبلة بعد الفراق،ص 15)، وتوفيق زياد (لما فقدت معناها الأسماء، ص80)، وإبراهيم بيادسة (أحب الناس، ص 76)، وغيرهم..

قلت مخاطبًا أبا جهاد قبل أن أزور مكان مصرعه في تونس:

“ غدا أبا جهاد

غدا تعود

شوق أمطار تحن إلى المطر

غدا تعود

إلى روابينا فداء”

لاحظ خلدون الشيخ علي في كتابه “صورة الشهيد الفلسطيني في أشعار فاروق مواسي” (منشورات المركز الفلسطيني للثقافة والإعلام – جنين،1995م) أن لفظة”الشهيد” لدي بارزة، ووصفي لها فيه نوع من التقديس، فيقول :”…. الشهداء عند مواسي لا يموتون، بل يطلون ممتدين، يطربون الذاكرة الفلسطينية الواعية بالألحان المقدسة، يتصاعدون نحو النجوم، يحملون معهم كل الأفكار النقية، ويقتلون الطوفان القوي لليأس..” (ص20)

– اما”الأرض” فلا تكاد تخلو قصيدة من لفظها ذكرًا أو إيماء، بل إن بعض القصائد عن الحبيبة فيها ما يرمز للأرض، وفيها هذا الدمج المتماثل الذي شرع نوافذه أولا شاعرنا أبو سلمى. وقصائدي الثلاث عن يوم الأرض (ديوان”يا وطني” ص3-17) تؤكد على هذا الارتباط بالأرض والإنسان الفلسطيني عليها، كما أن القصائد عن كفر قاسم وعن العذاب اليومي الذي يمارس علينا كلها كانت دليلاً واضحًا على هذه الهوية التي أشعر أنها غُمطتْ وقُمعت في غفلة من الزمن. وفي تقديري أن قصيدتي عن مصطفى كبها وذاكرة الوطن فيها هذا العشق الذي أتجاوب فيه وهذا النشاط في معرفة التفاصيل الفلسطينية، بالإضافة إلى القصيدة عن”المفتاح” الذي يحفظه اللاجئ، و”الجدار” الذي يضيق الخناق، وكأنه أفعى تساورنا. (أحب الناس، 17، 23،26)

– أما العلم الفلسطيني فقد أشرت إليه تعميمًا –أولاً في قصيدة كنت أطمح أن تُختار لتكون النشيد الوطني الفلسطيني (هكذا عبرت عن ذلك في أكثر من لقاء /حوار في أوائل التسعينيات) والقصيدة هي بعنوان”تتويج”:

الأمل المخضرّ على صفحة قلبي

يسألني يومًا… يومًـا عن دربي

يسألني هل أملك

أن أحفظ عِرضي

أن أعشق أرضي

والأمل المخضر يقول”نعم”

البسمة تزهر في عين الأطفال

وتغطي كل ألم

والهمة تشرق في عزم رجال

ويكون علم……

(الأعمال الكاملة، ص87)

– أما هويتي في كتابي النثرية، فتجد في القصة قصصًا تدل على الهوية التي يحاول الأعداء- أعني المتنكرين لحقي- طمسها كقصتي التي عبرت فيها عنها- ” لماذا شطبوا اسمي” (أمام المِرآة وقصص أخرى، ص 45).

وفي قصه” حجر –علم” فهي تؤكد بفنية أنْ لا بد من قيام الدولة الفلسطينية (ص 7)…. بينما تـُظهر قصة (أين ولدي) واجب الذود عن الوطن الفلسطيني (ص 101).

وظلت القصة-” أمام المرآة” تواصلاً عميقـًا مع غسان كنفاني الذي صرعته يد الغدر وهو يلهج باسم وطنه (ص39)، وثمة عدد من القصص القصيرة جدًا تحكي حكاية الحال:”تيمائيل”،”حجر”،”حيفا”،”وطن”، يافا، وغيرها. (مرايا وحكايا، ص 34،73، 35، 20، 64).

– أما في المقالات فقد تحدثت عن ضرورة الأغنية الجماعية الفلسطينية (حديث ذو شجون، ص3)، وعن ضرورة حفظ آثارنا الفلسطينية (ن. م، ص 21)، وعن أن الوطنية الحقة هي المعاملة (ص7).

وفي كتابي (أدبيات – مواقف نقدية) تحدثت عن ضرورة التعاون مع أصوات الآخر النقية التي تدعم قضيتنا (ص 88)، وكيف نعد أنثولوجيا الشعر الفلسطيني (ص 131)، وعن معنى أسماء القرى والمدن الفلسطينية (ص150).

– كما ألفت كتابًا يتناول دراسات وقراءات في الشعر الفلسطيني (قصيدة وشاعر – الجزء الأول) يظهر فيه هذا التعلق بكل جميل في كتابتنا من إبداعنا نحن.

ولي عشرات الدراسات والأبحاث التي تتركز على الشعر الفلسطيني، وكذلك على القصة والرواية والبحث. ففي كتابي” هَدْي النجمة” كانت هناك دراسات أخرى في الشعر الفلسطيني نحو” شاهد على حصاد الجماجم” – عن مجزرة كفر قاسم، و” صورة اليهودي في الشعر الفلسطيني”، و” القدس في الشعر الفلسطيني الحديث”، (وكان هذا المقال قد نشر في كتيب منفرد، ثم طبعته وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله (سنة 2010) مضافًا إليه أنتولوجيا بالشعر الفلسطيني- قصيدة القدس). وكنت قد أصدرت أولاً- عرض ونقد في الشعر المحلي 1976، و الرؤيا والإشعاع – دراسات في الشعر الفلسطيني – 1984 م.

فيما بعد أصدرت نبض المحار (2009)، وفيه دراسات عن الأدب الفلسطيني، كما أصدرت كتاب محمود درويش- قراءات في شعره (2010).

ويقيني أن كتاباتي السياسية الوطنية كانت تعبيرًا عن مشاعري ومشاعر أبناء مجتمعي.

ويحضرني قول شاعرنا محمود درويش في هذا السياق (أقصد محمود في بداياته لا في خواتيمه):

قصائدنا بلا لون ولا طعم ولا صوت

إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت

إذا لم يفهم البسطا معانيها

فأولى أن نذريها

ونخلد نحن للصمت

بعد هذا، ما رأيك في مسيرة أدبنا في الداخل، أو ما اصطلح عليه

(عرب 48)؟

– ثمة نصوص راقية تنشر هنا وهناك، لكن الصورة بمجملها غير كافية ولا شافية.

عندما أتصفح مجلة “شعر” أو “إبداع” أو “فصول” المصرية، “نزوى” العمانية، و”دبي الثقافية”، و”أفكار” و”عمان” و ملاحق “الدستور” و”الرأي” الأردنية أعرف كم نحن بعيدون عن المتابعة الثقافية العربية والعالمية، ومن جهة أخرى: لماذا لا أقول عن الثقافة العبرية الجادة.

أستطيع أن أطمئن أن معظم أسماء الرعيل الأول هي هي التي تثبت للترجمة وللبحث وللتأصيل، وسيظل من يردد أشعار زياد والقاسم ودرويش ومن واكب مسيرتهم من حيث رسالة النص، ومن حيث معايشة الحدث والانطلاق منه، فهم حتى الآن الوجه والواجهة.

وما بدأت به أختم: ثمة نصوص جميلة لكتاب جدد تتبدى نصوصهم حيوية وذكية، ولها إشراقات وإيحاءات. فلا بد لهم مع تصفيقنا لنماذجهم ولهم إلا أن ننصح بالتزود، فإن خير الزاد هنا هو ثقافة وثقافة وثقافة- ليست بالعربية فقط، وليست بجمل متناثرة.

*تحفل مكتبك الشخصية بعشرات الإصدارات الثقافية والأدبية والنقدية والاجتماعية. كيف تنظر لإصداراتك في ظل واقع يتسم بانخفاض منسوب القراء والقراءة والاتجاه نحو الإعلام الإلكتروني، وفي الوقت ذات كنت من السباقين ممن اتجهوا للإكتروني أيضا؟

– ثمرات فكري فيها خلاصة عمري، أحبها لأنها بنات أفكاري، أو فلذات دماغي، وأجدها تصبو كلها إلى نشدان الحق والخير والجمال، وتتغنى بالحب بكل تجلياته.

أحزن أنًا لأنني لا أجد القارئ غير العابر، وقد نشرت أكثر من مرة دعوة للقراء بأن يزورونني في منزلي، وعلى فنجان قهوة أهديهم ما تيسر لي من نسخ، فما نفر إلا نفر يسير.

ثمة ظاهرة أجدها لدى الكثير من “القراء” هي “التصفح” أو قراءة بضع صفحات، ثم إلقاء الكتاب على رف ما.

أسال على ضوء ذلك أو عتمته: لماذا نكتب؟ ولمن؟

أتعزى بأن الكتابة قدري وأثري، فلا بد مما ليس منه بد!

حقًا كنت من السباقين في ارتياد الشبكة، وأقمت لي موقعًا يزوره بضع عشرات يوميًا، فأغناني هو ومواقع صديقة عن أعتاب صحف طالما نشأت فيها ونشأت معي، فانقطعت بيننا السبل، ورأيت أن قراءتي هنا متيسرة أكثر لمن شاء أن يجد مادة لدي، بل هناك زاوية أجدّ فيها، وهي “اسأل فاروق مواسي”، أفيد منها وأنا أبحث، وأفيد فيها وأنا أشرح.

– * بلغت دواوينك الشعرية خمسة عشر، فما هو ديوانك الشعري المرتبط بالذاكرة، ولم تتنازل عن حقك في استرجاعه واستحضاره؟

– ليس هناك تخصيص، فلكل من أبنائي معزته. ذلك لأن كل قصيدة في أي ديوان هي جزء من كينونتي، وأنا أعجب لمن يتنكر لنص له، أو لمن يحذف أو يغير. تولد القصيدة كائنًا في أحسن تقويم، فهل من يستطيع أن يغير يدًا أو عينًا؟!

صحيح أنني أفضل هذه القصيدة أو تلك في هذا السياق أو ذاك، لكنني أحتضنها جميعًا، وأخاطبها وتخاطبني في شعرية الذاكرة.

– لو استقبلت من أيامي ما استدبرت لدونت لي ولمعرفتي ظروف النص، وأبعاد الألفاظ، وظلال مرماي، فذلك نوع يضاف إلى المذكرات، ولا إخال ذلك إلا ترجمة حياة، فأنا لا أكتب إلا اضطرارًا، وإلا بإلهام أو وحي أرى له جنية أو (موزا) تداعبني وأداعبها، وتغالبني وأغالبها. من هنا أعجب لمن يكتب لأنه أراد أن يكتب، يفعل ذلك دون اهتزاز وجداني ونفسي!

مع بلوغك السبعين – مد الله عمرك بالعافية- أصدرت مؤخرًا “أقواس من سيرتي الذاتية”، فهل لنا أن نتصفحه معك!

يبدأ الكتاب ببيت معبر:

فقد وفّيتــها سبعين حولا ونادتني ورائي هل أمام؟

الكتاب هو أقواس يتناول في كل منها موضوعًا، كان مواسي قد نشر بعضها، وهي على التوالي:

صور من الطفولــــة، من صفحات التربية والتعليم، صفحات في الكلية، من رحلتي الشعريـــة، الهويـــة الفلسطينيــة في كتابتي، مع فدوى طوقان، مع عبد الوهاب البياتي، مع نزار قباني، مع عبد اللطيف عقل، من رحلتـــي النقديـــة،

جولاتـــــي القصصيــــة، رحلتــــي في رحاب لغتــــي، جولاتـــي في الترجمــــة، الكتاب متعتـــي ونزهتـــي، عن كتابتــــي، صفحاتــــي السياسيــــة، مع الشيوعيـــة وعن رمزيــن فيهــا (إميل حبيبي وتوفيق زياد)، رحلتــــي في مذهبـــي، معالم وشخصيات أخرى:

مع ماتي بيلــــد، جامعة النجاح في ذاكرتـــي، في حضرة الدكتور محمود السمرة، محمود درويش كما عرفتــــه، تعرفت إلى يحيى حقــــي، زكي العيلــــة، مع سرجون بولس – قليلاً، عن معنى السفــــر، رحلات- الرحلة الأولى والسفر بالطائرة، رحلتي الأولى إلى مصر ولقاء أدباء. عن معنى الخوف. من حكاياتــــــــي.

في تقديم الكتاب أجيب عن سؤال يهم المتلقي:

لماذا أكتب سيرتي؟

يظل التعبير عن الذات التي عانت وصارعت جزءًا من الأدب، وكم بالحري إذا اتسم هذا الأدب بالدفء والحميمية والتواصل. ثم إن أدب الاعتراف فيه كشف وتجلّ، وذلك بالاستذكار والاستقصاء، وليس هناك من هو أعرف من الكاتب بنفسه أو ذاته، فإذا نقل مراحل منها بأمانة وصراحة قدر طاقته وإمكانه فإنه يسفح عمره على الورق، ليقول لنا في نهاية المطاف: إنها حكاية جِـد، سأسردها لكم إن أحببتم.

السيرة الذاتية فن عرفه العرب قديمًا، ومن يطالع طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة مثلاً سيجد عشرات النماذج على هذا الإفضاء بالسريرة، وهذه المتعة في متابعتها.

وظل هذا الفن يخبو ويظهر إلى أن طالعنا أيام طه حسين بضميره الغائب، فحياة أحمد أمين بلغة السرد الذاتي، وتلت ذلك مئات من السيرالذاتية، وكلها تروي قصة عمر، وقد يكون فيها عبرة لمن اعتبر.

يقول غاسدورف: “السيرة الذاتية هي المرآة التي يلتقي الفرد فيها مع ذاته”، وجلال الإنسان كما يرى صلاح عبد الصبور: “أنه يقدر أن يواجه نفسه ذاتًا وموضوعًا في الآونة نفسها”. والسيرة الذاتية هي حكاية القلق الذي استقر صاحبه في واحة، ليقدم فيها للوافدين الماء والثمرات، يقدمها لمن يحاول أن يبحث عن أحوال النفس المرهفة ومقاماتها.

إنها رحلة المدارج بل المعارج إلى ظلال الجمال والكمال.

إنها محاولة اقتناص عيشة أخرى مضافة للمعيشة التي مرت.

ترى ما الذي يدعو الكاتب إلى تعري نفسه؟ إلى بوحه؟

ربما يكون بدعوى المشاركة الوجدانية،

ربما للإمتاع والمؤانسة،

ربما هي مراجعة أخيرة لكتابة الفصول يستعرضها فيعرضها قبل أن تدبر أنفاسه.

سألني صديق:

أتعرف لماذا يحب القارئ أن يقرأ السيرة الذاتية؟

قلت: أفدني مما ترى!

قال: لأنه يقرأ كاتبًا يحدث عن نفسه، فيقرأ بعضًا من (أناه) هو، بمعنى أنه يجد صورًا مما عايش وعاين.

قلت: وكيف تفسر ذلك؟

قال: ألا ترى أنه لو عثر في منزله على مخطوطات وكتابات تركها جده، ألا يقبل عليها بلهفة، كأنه عثر على كنز؟!

إنه يقرأ الكتابات وكأنها جزء لا يتجزأ من كيانه.

قلت: حقًا، يبدو أن الماضي في السيرة هو لعبة الزمن ترد إلى الفرد أو الجماعة لتقول لهم: هنا أنتم، فاقرءوا حكاية ما كان!

هذه الأقواس:

قبل عقد من الزمان –يوم أن ودعت الستين- أصدرت أقواس من سيرتي الذاتية.

ولاحظ قراء السيرة أنني نهجت نهجًا جديدًا في كتابة السيرة، إذ أفردت لكل موضوع قوسًا أو بابًا، أمرّ فيه عبر مراحلي المختلفة، من الخطوة الأولى وحتى السباق في الشوط. وهكذا تحدثت عن طفولتي، فتجربتي الشعرية، فالنقدية فاللغوية…إلخ.

كان كل باب قوسًا ذا لون، وهذه الأقواس جميعها ألفت القوس الذي يبتسم في حياتي، غب المطر أو قُبيلَه.

في هذه الطبعة المزيدة والمنقحة أضفت ما استجد في العقد الأخيرمن رحلة دفعت ثمنها تكاليف حياة لم أسأمها، وأضفت أقواسًا أخرى جديدة، لا بد منها، لأصحبكم فيها إلى عالمي وسفري.

إذا كانت السيرة الذاتية توجب فتح الملف بدون تحفظ فإنني هنا أستميحكم عذرًا إذ أتغاضى عن هذا الشرط، مع أن كل تعتيم هو ثغرة في الصميم. ذلك لأن من حق المتلقي أن يأخذ الأمر بجُمــاعه وافيًا لا خافيًا، ولكن من حقي مع الآن وهنا أن أخفي فصول المرأة في حياتي، وأن أتجاهل مواقف مدّعي صداقة تركوا ندوبًا وندوبًا.

ماذا يجدي الحديث عن علاقة أمام مجتمع مراقب محافظ، أو كَيدي، ينتظر الكثيرون منه فرصة للغمز واللمز والهمز؟ فهل كاتب السيرة فريد في عصره لدى المعجبات؟ أو في عقوق بعض الأصدقاء؟

وماذا تقدم التجربة سوى الإساءة لنفسي قبل أن أسيء لسواي، فلست روسو في اعترافاته في شبابه، أو هنري ميلر في اعترافاته وهو في الثمانين، وليس عقوق “الأصدقاء” بدعًا لدي. ُثم إن كل كتابة يجب أن تكون وصفًا حيًا مثيرًا فيه إبداع وإمتاع، وإخالني قد لامست ذلك في شعري، والشعر الصادق هو سيرة ذاتية رغم أن لوجون يستبعده مشترطًا النثر في صياغتها.

من جهة أخرى لو أجزت لنفسي الحديث عن إلإساءات، وعن إنكار للجميل والعرفان، وعن عدوانية غير مبررة لأسأت لنفسي قبلاً، ولن تعلو لي رتبة، فأنا “لا أحمل الحقد القديم عليهم”، رغم ألم يتسرب، وذاكرة تتناسى.

ربما أغمط نفسي هنا إذ لا أدوّن لقاءات جرت لي مع أعلامنا ألأفذاذ، وأساتذتنا الكبار نحو محمود أمين العالم ونجيب محفوظ وأحمد عبد المعطي حجازي وسعيد الكفراوي، وإبراهيم عبد المجيد، وناصر الدين الأسد والياغيين هاشم وعبد الرحمن، ومحمد أبو دومة، وحسن طلب، ويوسف إدريس وعبد القادر القط، ولويس عوض، وجمال الغيطاني وسهيل إدريس وإبراهيم أصلان وعبد الله الغذامي ويوسف زيدان وحلمي سالم، والشهاويين أحمد ومحمد وفاروق عبد القادر وووعشرات غيرهم جمعتني بهم معارض الكتاب في القاهرة أو في عمان ومؤتمرات نقدية حظيت بدعوتها، وكانت لي محاورات ومساءلات، ربما سآتي عليها، ولا أدري متى وكيف. ومع ذلك يلاحظ القارئ أنني قمت بجولة معه لزيارة يحيى حقي وصلاح عبد الصبور وفدوى طوقان والبياتي ونزار قباني وغيرهم.

لي كذلك علاقات طيبة مع معظم أدبائنا الفلسطينيين في مختلف مواقعهم، وقد رويت لكم عن شاعرنا محمود درويش كما عرفته، وبالطبع عمدت إلى الصدق ما وسعتني الحيلة، وقدمت صورته كما لمستها وقرأتها وصحبتها في لقاءات عابرة.

كما التقيت عشرات الأدباء العبريين البارزين، بحكم اتصالي بهم ممثلاً للأدباء العرب، ونائب رئيس نقابة الكتاب في إسرائيل، وكانت لي نشاطات سياسية وأدبية حدثتكم عنها في صفحاتي السياسية.

وبعد، فلو فتحت صفحات الحوار ومدى ما أفدت وأفدت لما انتهيت، ورحم الله ياقوت الحموي الذي كتب في مادة “مقدس”:

“وليس كل ما أجده أكتبه، ولو فعلت ذلك لم يتسع لي زماني”.

آمل لك قارئي صحبة ممتعة، لا تنطلق من بحث عن هفوة أو كبوة، بل تتلمس الصدق، وأمانة القول رغم الانتقائية التي لا بد منها في كل سيرة.

لتصفح الكتاب في موقع الشاعر فاروق مواسي:

http://faruqmawasi.com/aqwas2.htm

‫5 تعليقات

  1. وهل يخفى القمر تحية اجلال لك سيدي وستبقى استاذي من غير ان تعلمني لكن اعدك ان اقرا كل ما كتب ان اطال الله عمري لكن كان شوقي ان اقرا سيرتك منذ الطفوله كان شوقي ان اعرف من هو فاروق مواسي الطفل والشاب واحييك من القلب واطال الله عمرك ايها المعطاء

  2. تحية عطرة لاستاذنا الكريم فاروق مواسي ..لقد قرأت كتابك “سيرتي الذاتية” – سيرة ابداعية رائعة . لقد استمتعت في قراءة كل حرف وكل كلمة وكل جملة . أطال الله بعمرك واعلم ان لانتاجاتك الرائعة موقع في قلبي وقلب كل قارىء يعشق اللغة العربية .فنحن نفتخر بك يا ابا السيد على هذا العطاء المميز . الى اللقاء

  3. الشكر كل الشكر للأخوين العزيزين، وآمل من الله أن أبقى عند حسن الظن!
    وأحيي الموقع على استعداده الدائب لنشر كلماتنا، فمرحى ومرحب!

  4. أستاذي الكريم تحية قلبية وبعد :

    صراحةً حين اقرأ كتاباتكم اشعر بتلذذ ما لانها تجمع روح الأمل والتفاول في الحياة.
    أدام الله في عمركم  

  5. لتكن متعة الحياة في روحك، إلى الأمام يا ربا، وسلمي لي على صديقي جدك أحمد!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة