من سيحمي الصليب والمسيحيين في الاراضي المقدسة؟
جواد بولس
تاريخ النشر: 06/10/23 | 14:18تناقلت وسائل الاعلام المحلية في اسرائيل مؤخرا أخبارًا حول انتشار ظاهرة اعتداء بعض المجموعات اليهودية المتدينة على مسيرات الحجاج المسيحيين الذين يأتون الى القدس من جميع أرجاء العالم لاقامة شعائر الحج المسيحي الذي يتخلله الطواف في مسار “درب الآلام” وزيارة كنيسة القيامة وغيرها من الأماكن المقدسة عند الطوائف المسيحية المختلفة.
لم تتميز الاعتداءات هذا العام عن تلك التي ارتكبت خلال الاعوام الماضية، ولم ترافقها أية مؤثرات جديدة أو مستجدات لافتة؛ فالمعتدون جاؤوا من نفس الخلفيات الدينية والسياسية والعقائدية، ويستعملون نفس الاساليب الاجرامية القذرة المستفزة ضد نفس الاهداف والرموز المسيحية.
يواجه المسيحيون، لا سيما الفلسطينيون المسيحيون، في “الأراضي المقدسة” منذ عقود طويلة ظاهرة عنصرية إضطهادية، ليس من الصعب التحقق من تاريخها وحجمها، اذ أن قوائم الجرائم والاعتداءات اليهودية المرتكبة بحق الاماكن والرموز المسيحية موثّقة، باليوم وبالساعة، عند معظم الكنائس، ومثلها ايضا قوائم الاعتداءات في مناسبات عديدة، على رجال الدين والحجاج انفسهم.
لقد ظهرت في شريط الفيديو المذكور مجموعة من اليهود المتدينين وهم يبصقون باتجاه صليب خشبي كبير كان بعض الحجاج الاجانب يحملونه على اكتافهم ويسيرون به في شوارع البلدة القديمة. لقد كان مشهد الاعتداء مستفزًا وغير انساني بالمطلق، وطويلاً حسب معايير الوقت في الاعلام البصري.
ويبدو ان المشاهد التي اظهرها الشريط، وانتشاره الواسع، لا داخل اسرائيل وحسب، قد احرج المسؤولين الاسرائيليين وربما احرج، لا اقل منهم، بعض السياسيين الغربيين ورؤساء الكنائس المحلية والعالمية، الذين كانوا يتمنون ألا يصوّر هذا الاعتداء وألا تنتشر صوره على الملأ، على أمل أن يمر ويُنسى، كما مرت معظم الاعتداءات التي سبقته “بهدوء كنسي” لافت وصمت دبلوماسي عربي وأعجمي غير مفهوم ولا مبرر.
لا يمكن تبرير حجم الضجة، التي رافقت موجة الاعتداءات العنصرية الدينية، هذه المرة، بمحتويات الشريط المذكور او في عرض المشاهد المستفزة وحسب، فهنالك بعض الجهات الاسرائيلية المعارضة لحكومة نتنياهو التي استغلت الحادثة، بانتهازية سياسية معتادة، ووظفتها في التحريض على الحكومة وفي تأليب الرأي العام عليها في بعض الدول المسيحية الغربية، خاصة داخل الاحزاب التي تعتمد على الصوت المسيحي المعتدل تجاه اسرائيل. لم تغب هذه الصورة عن بال نتنياهو، فبادر الى شجب الاعتداءات على المسيحيين ووعد ان حكومته ستتخذ الاجراءات القضائية الصارمة بحق من يقوم باقتراف مثل تلك الأفعال بحق المصلين.
لا أرغب في مناقشة ما ورد في بيان نتنياهو الذي اعلن فيه “ان اسرائيل ملتزمة بشكل تام بالمحافظة على حق العبادة المقدس والحجيج للاماكن المقدسة لجميع الاديان”، واضاف: “انني اشجب بشكل صارم كل محاولة لايذاء المصلين، وسوف نتخذ ضد هذه الافعال خطوات فورية وحازمة”. ولقد انضم عدد من الوزراء الاسرائيليين وعبروا، مثل رئيس حكومتهم، عن معارضتهم لتلك الاعتداءات، لكنهم لم يلجأوا الى نصوص نتنياهو الحازمة بل آثروا البقاء تحت “رحمة” الدبلوماسية، وتعمّدوا أن يداهنوا، من ثناياها، الجناة ومعلميهم؛ وكذلك فعل بعض الحاخامات. لن يفضي شجب بنيامين نتنياهو وغيره الى تغيير “الوضع القائم” في اسرائيل، الدولة اليهودية؛ ولن ينجح هو وحكومته في منع استباحة الفرق اليهودية المتزمتة لحرمة الاديان غير اليهودية ولرموزها. لم يكن ذلك خيارًا ممكنًا لديه في السنوات الماضية، وصار اليوم احتمالًا مستحيلا بسبب تشريع “قانون القومية اليهودية” الذي اعترف بفوقية الديانة اليهودية، وأتاح عمليا لجميع العناصر اليهودية المتطرفة والفرق والاحزاب الدينية المتزمتة التزوّد بطاقات “شرعية” غير محدودة، وأباح لهم تحويلها الى افعال حقيقية بدأوا بتنفيذها في جميع ميادين الحياة وبضمنها طبعا ما نشاهده من تصعيد في مظاهر احتقار اصحاب الديانات الاخرى ورموزهم. هكذا يجب أن نرى الواقع الاسرائيلي الجديد وان نفهم شجب نتنياهو وزملائه في سياقه؛ فالهدف من موقفهم المعلن هو امتصاص “غضب” الجهات التي احتجت على تزايد الاعتداءات ضد المسيحيين في القدس وفي مناطق أخرى في الدولة. ولقد كان قداسة البابا في طليعة المحتجين كما قرأنا في الاخبار، حيث طالب اسرائيل، بطريقته الهادئة، بضرورة اتخاذ خطوات فعلية لوقف تلك الاعتداءات على المسيحيين وحماية الحريات الدينية وحرية العبادة. وكاستجابة للنداءات الدولية اعلنت شرطة اسرائيل بطريقة “مُمسرحة ” عن اعتقال خمسة مشتبهين ضالعين بحادثة البصق على الصليب والاعتداء على المصلين، في خطوة من شأنها ان تظهر جدية الحكومة الاسرائيلية وتقنع العالم بها. لن أفاجأ اذا قامت الشرطة بالافراج عن المعتقلين الخمسة من دون ان تقدم بحقهم لوائح اتهام، بالرغم من ظهور صورهم في الشريط المذكور، فنتنياهو اضعف من أن يواجه وزراءه المتدينين واحزابهم التي تضم بين صفوفها الآلاف ممن يؤمنون ان “البصاق” على الرموز المسيحية واهانتها هي “فريضة دينية” كانوا قد تربوا عليها في معابدهم التوراتية. انه نفس النتنياهو الذي لم يقدر، عندما كانت اوضاعه السياسية اقوى مما هي عليه في هذه الأيام، على معاقبة مثل هولاء الجناة، وهو اليوم نتنياهو الجريح الذي لن يجروء على ان يواجههم ولا ان يعاقبهم. انه يعرف حدود قوته الحقيقية ويعرف اين هي مصلحته الشخصية واين مرافيء نجاته المأمولة، وهو يراهن، في نفس الوقت وعن تجربة طويلة، على حدود مواجهة “العالم المسيحي” المحتملة لاسرائيل ولشعبها اليهودي ولحكومته. على الارجح ان تمر موجة الاعتداءات “بسلام” من ناحية اسرائيل كما مرت “بسلام” جميع سابقاتها، وسوف تزداد الاهانات للصليب وللمسيحيين في القدس وفي جنبات فلسطين كلها؛ فميليشيات “يوشع” بدأت تشعر، في هذا الزمن التوراتي، انهم أصحاب المملكة وأنها قائمة فعليا حتى لو لم يرها غيرهم، وفي مملكتهم لن ترفع رايات سوى شمعدان هيكلهم الثالث المرتجى ونجمة داود وسيفهم البتار. من كان في القدس في الاسبوع الاخير شاهد بأم عينه واحس على جلده ان هذا الواقع التلمودي لن يتغير من تلقاء نفس ولا من حسن نوايا من تتلمذوا على حاخامات يؤمنون أن اليهود شعب اصطفاه الرب كي يحكم في الارض وكي يكون الاغيار عبيدًا لديه. لن يتغير هذا الواقع الا اذا بدأ العرب، وخاصة نحن اصحاب الارض الأصليين، بتناول هذه المسألة بجرأة وبواقعية غير مداهِنة، وباشرنا في تغيير بعض مفاهيمنا الاساسية العوجاء حيال ما جرت العامة منا وعلماء الامة على تسميته، بتعميم سطحي خاطيء ومضر، باسم “العالم المسيحي”. علينا ان نخرج من تلك القوقعة، وان نحاول تفكيك ذلك العالم وفصل عناصره لما فيه مصلحة فلسطين ومستقبلها. ففي الواقع لم يكن، منذ ولادة المسيح وحتى يومنا هذا، “عالم مسيحي” واحد، ولا حتى مسيح واحد. لماذا لا نراجع أنفسنا ونحاول ان نجد الفوارق الجوهرية بين الملل المسيحية والنحل على اختلاف مشاربها في العالم؟ فهناك، في تلك الفوارق، سوف نجد ما يفيدنا نحن الفلسطينيين، ويسعفنا ويسندنا. انها مهمة شاقة، لكنها ضرورية وهي تحتاج الى اقرار وطني واضح وهمّة لانشاء هيئة من اختصاصيين ومهنيين وتوكيلهم بمهمة القيام بمسح شامل لما نطلق عليه اسم “العالم المسيحي”، ثم وضعهم لخارطة طريق كي نهتدي بها الى من يقيم من أولئك المسيحيين في “دار الحرب” ومن يقيم في “دار السلم”. فهل من الصعب أن نرى وان نقر بوجود فرق بين دونالد ترامب المسيحي وصليبه، مثلًا، وبين ابن القدس المطران منيب يونان المسيحي وصليبه؟ من لا يرى ذلك الفرق لن يستطيع منع اهانة الصليب في القدس ولا منع انقراض المسيحيين في ارض المسيحية الاولى؛ ومن لا يريد ان يرى الفرق القائم اليوم بين الكنيسة الانجليكانية في جنوب افريقيا وصليبها المتحرر من نظام الابرتهايد، وبين اخواتها الانجليكانيات في العالم وفي فلسطين وصليبهم المكسور والأسير، لن ينجح في كسر “قوس بيلاطس البنطي” الذي ما زال متكئا بحزن على حجارة القدس ويشهد على ظلم التاريخ وعلى فساد السلطة ونفوذ المصالح.
من يراجع التاريخ سيرى ان المسيحية والمسيحيين وصليبهم لم يهانوا في فلسطين من قبل اولئك المتعصبين المتزمتين اليهود وحسب، فقد أهانهم عبر التاريخ من جاؤوها غاصبين باسم مسيح آخر وسرقوا صليبها وبنوا كنائسهم على اساسات من جماجم وتخاصموا فصار لكل كتيبة منهم معبد ومسيح ودين. واهانها كذلك من جاؤوا ليحرروها من حكم أصحاب ذاك الصليب فبنوا امجادهم على انهر من دم وعلى فتاوى اصدرها قضاتهم وشيوخهم فقضت بضرورة اذلال الصليب ومن يؤمنون به؛ وللاسف ما زالت تلك الفتاوى حية بيننا في بعض المواقع وتنبض بالدماء.
والخلاصة: لن تمنع حكومة اسرائيل تكرار الاعتداءات على المسيحيين وعلى رموزهم وعلى اماكنهم المقدسة. هكذا علمنا التاريخ؛ ومن لا يقرأ التاريخ سوف يبقى لاصحابه عبدا. بالمقابل، من يحاول ان يصنع التاريخ ويمضى “حاملا صليبه” نحو النور، فحتى لو أخطأ، سيحظى لا محالة بالحرية.
سوف تمر موجة الاعتداءات الحالية كما مرت جميع سابقاتها، وسوف يعود قداسة البابا الى صلاته في روما ويدعو من اجل خلاص العالم ؛ وسيمضي حكام العالمين العربي والاسلامي في سبلهم وعلى عروشهم، وستكون القدس في صدورهم ليس أكثر من وجع زائد وثقيل. وسيتمسك رؤساء الكنائس في القدس بمطالبتهم بالمحافظة على”الستاتوس كوو”، وهي بدعة أخرجها الاستعمار للابقاء على سراب اسمه “الوضع القائم” وهو مجرد اغلال تحيط بصدورنا، ورماح مغروزة على انقاض حقوقنا التي صودرت في حالة “الكنيسة الارثوذكسية المقدسية”، ذات يوم وبقيت رهينة عند بطريركها وسينوده وقلة من اعوانه المقربين. لقد شاهدناهم برفقته في الصورة اثناء زيارته الاخيرة لقداسة البابا في الفاتيكان، ولكن هذه لوحدها مسألة اخرى جديرة بالمتابعة.
لقد ادرك قادة اسرائيل وقبلهم قادة الحركة الصهيونية ان المسالة المسيحية في شرقنا هي قضية معقدة ومركبة ومصيرية لوجودهم، فسعوا ونجحوا في فهم مغاليقها وبحفر قنواتها وبتوثيق مرابطها، وكان الى جانبهم دهاقنة هذا الزمن العاقر. هكذا كان، ولكن كانت الحكمة وبقيت مدفونة في تراب القدس، مدينة الملائكة الحالمة، التي سوف تشهد يومًا قيامتها الجديدة، إن اراد اهلها ذلك.