الفلسطينيون في اسرائيل، بين صمت “مثالي” وخوف عاقل
جواد بولس
تاريخ النشر: 27/10/23 | 9:36“سهير ليالي وياما لفيت وطفت، وف ليلة راجع في الضلام شفت، الخوف..كأنه كلب سد الطريق، وكنت عاوز أقتله، بس خفت ! عجبي” صلاح جاهين
لم تصحُ اسرائيل بعد من صدمتها المرعبة؛ ففي جميع حروبها السابقة ومعاركها ضد العرب عامة والفلسطينيين على وجه الخصوص، لم تتلقّ مثل هذه الصفعة، لا من حيث مؤثراتها التقنية، وبالطبع لا من حيث نتائجها الكارثية، سواء في عدد الضحايا الذين سقطوا في يوم واحد أو في عدد الأسرى؛ وكذلك بما قوّضته من مسلّمات كان المجتمع الاسرائيلي يعيش في ظلّها آمنًا ومؤمنًا وضامنًا رزقه في الجنتين، تلك التي يتحكم فيها على الأرض والأخرى التي تنتظر حكم الشعب المختار في السماء.
استحضر معظم المحللين والمعقبين أحداث حرب أكتوبر عام 1973 مع المصريين ليقارنوها بعملية اقتحام الجدار الفاصل بين غزة واسرائيل في صباح السابع من اكتوبر الفائت، لا سيما من خلال التشديد على عنصرَي إحكام المفاجئة والقدرات العسكرية التي مكنت المصريين في حينه من عبور قناة السويس وخط دفاع “بار ليف”، ومكنت عناصر حركة حماس مؤخرا من اقتحام الجدار وتعطيل جميع وسائل الانذار الاسرائيلية.
لا يخطيء من يجري تلك المقارنة؛ بيد أن الفوارق بين سياقي الحدثين التاريخيين جوهرية وكبيرة، وكذلك هي تداعيات كل حرب منهما وتأثيرها على هندسة العلاقات الاستراتيجية بين الاطراف المشتبكة: أي بين مصر واسرائيل بعد عام 1973 حين افضت المفاوضات الى انهاء حالة الحرب بين الدولتين وتوقيع معاهدة سلام بين اسرائيل ومصر؛ بينما قد تفضي غزوة حماس 2023 على اسرائيل الى حسم طبيعة العلاقة بينها وبين الفلسطينيين ،كل الفلسطينيين، ونقلها من حالة “اللا -حرب ،اللا- سلام” أو “اللا-احتلال،اللا-استقلال” او” اللا- انفكاك، اللا- حصار” واعادتها الى مربعها الأول، الى حالة الصراع الوجودي.
مَن تابع ما كتب في الاعلام العبري خلال الاسابيع الثلاثة الماضية لاحظ كيف تنهار بين اليهود الاسرائيليين كل المفاهيم السائدة حول عناصر قوة دولة اسرائيل وبعضها كان في منزلة البديهيات فوق الطبيعية أو العقائد المقدسة؛ ومن بينها ثقة المواطنين العمياء بقدرات أجهزة المخابرات والاستخبارات على جمع المعلومات من كل موقع في العالم، وتحليلها وتوظيفها في الدفاع عن اسرائيل؛ وكذلك ثقتهم بقوة جيشهم وبقدرته على الانتصار في كل الحروب وجهوزيته لسحق جميع الاعداء مهما تعددت جبهات القتال. ان فقدان هذه الثقات ادخل جميع المواطنين اليهود في حالة من الهلع المرضي الشديد، الذي سلبهم القدرة على التفكير بعقلانية وبمنطق انساني، فقرروا القضاء على عدوّهم غير آبهين الى انهم تحولوا الى روبوتات وحشية لا تتقن غير التدمير والحرق والقتل.
لم تسقط هذه المفاهيم الجوهرية التي بنى عليها المواطن الاسرائيلي عقده الاجتماعي مع الدولة وحسب، بل تبعها ايمان اوساط واسعه من الشعب بأن هجمة حماس عليهم في بيوتهم وقتلهم لمئات المدنيين، بمن فيهم الشيوخ والشباب والاطفال، وأسر آخرين مثلهم، أعادتْهم الى نقطة الصراع الاولى؛ ولسان حالهم يقول: إما نحن وإما هم. ولا تقتصر هذه القناعة على فئة معينة من بين المواطنين، بل سنجدها منتشرة بين النخب الاكاديمية والعسكريين والسياسيين من جميع الاحزاب وبين قطاعات واسعة، الى جانب الاوساط الشعبوية المعروفة.
لا اعرف كيف ستتطور هذه العقيدة الجديدة والى اين ستفضي من حيث المواجهة مع الفلسطينيين في الاراضي المحتلة؛ فجميع من يدعم اليوم هذا العدوان الدموي المنفلت على المدنيين في غزة، يتبنونها وبطبيعة الحال سوف يعملون وفقها من اجل حماية دولتهم وتامين أمن مواطنيها اليهود وليس أمن جميع مواطنيها؛ فنحن، المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، معرضون بعد هذه الغزوة، لخسارة “حصانتنا”، ولاهتزاز مكانتنا التي كانت ثابتة بحكم مواطنتنا وبحماية هويتنا القائمة بتوازن واع على مركّبي “الوطنية والمواطنة”، ضمن معادلة ورثناها، عن آبائنا والبنائين الأوائل، فعشنا وفقها بكرامة وبسلام، وحافظنا عليها بحرص وبحكمة وبمسؤولية.
ما أشبه هذه الايام بتلك الايام العصيبة.
لقد نفذت حماس هجومها الدموي بينما كان المجتمع الاسرائيلي يعيش حالة من الصراع الحاد بين معسكر يقوده نتنياهو وحزبه وحلفاؤهم من الاحزاب اليمينية والدينية القومية المتزمتة، وبين معسكر تقوده جميع التيارات التي عارضت مخطط نتنياهو في القضاء على مؤسسات الدولة التقليدية بما فيها منظومة القضاء وفي طليعتها المحكمة العليا الاسرائيلية. لم يُدرج شعارا انهاء الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية وحل الدولتين، ضمن شعارات المحتجين، ولكن، على الرغم من غيابهما عن اليافطات المركزية، حلت محلهما مظاهر ونقاشات لافتة أخرى لم نكن نراها ولا نسمعها في الماضي لانها كانت محض تابوهات اسرائيلية لا تمس. سنجد بين تلك النقاشات مثلا النقاش حول مكانة الجيش وحق/واجب افراده وقادته المشاركين بالاحتجاجات وبعصيان اوامر حكومة نتنياهو؛ أو النقاش حول دور أجهزة الأمن وقادتها وواجبهم في الدفاع عن الديمقراطية ووقوفهم في وجه الديكتاتورية والفاشية؛ أو ازدياد المعارضة العلمانية لمخطط اخضاع الدولة لاحكام الشريعة اليهودية، كما كانت تسعى حكومة نتنياهو ، قبل وقوع الكارثة في السابع من اكتوبر.
لم يعد أحد في هذه الايام داخل اسرائيل يتحدث عن الديمقراطية ولا عمّن حاولوا الانقلاب على نظام حكمها وسبيها. وأصبح كلام المواطن العربي في اسرائيل ممنوعاً حتى اذا كان عن نرجسة ذبحها سياف الدهور وهي نائمة في حضن الفجر او عن فتاة شقية قتلت لان اسمها كان حرّية. وصار حتى التنفس في الليل مخيفًا كهسيس الجان؛ وذرف الدموع يعد من الكبائر والتراتيل محظورة الا اذا قيلت في امتداح الكراهية والانتقام، أو خلال الصلاة من اجل “الدولة العظمى” التي لا تقهر كي تستعيد هيبتها وسيفها وهيكلها ومذبحها.
ولدت بعد النكبة بثمانية أعوام وسمعت، مثل ابناء جيلي، قصصها من اسلافي. كانت قصصا عن الخوف وعن الفقر، وعن الحقل وعن العزة والمحجر، وكانت عن المعلم وعن العكاز وعن الشيخ والحجر. وعن انتظار عطف السماء الذي لم يصل. وكانت ايضا قصصا عن كرامة التراب وعن رائحة الارض في ليل كان يغمره الندى. وقصصا عن هزائم وجرح غائر، لكنها انتهت؛ ومضى الذين بقوا في حضنها فربوا زغب الحياة حتى كبرت وصارت الف الف صبح وشمس ووصايا ثائر. صرنا شعبًا من الفَراش نقف، منذ ولادة الضوء والخوف، على الريح، وننام على كتف نجمة. نمنا وأفقنا في السابع من اكتوبر الفائت، لأن قائدًا حالمًا قرر الزحف على نهارنا بعربات النار ، وفي حلوقنا طعم الكابوس والخوف.
منذ انتخابات الكنيست الاخيره كنا نرى كيف بدأت تستعيد قطاعات واسعه من شعب اسرائيل ذاكرة التاريخ وتصحو من سكرها، حتى غزاها من غزة الرصاص والموت، فاختارت مرة اخرى اغواءات الدم والسجود مجددا على اعتاب مملكة من كبريت واعمدة المشانق. كنا نأمل أن نرى إسرائيل الاخرى الدولة غير العظمى ولا المحتلة ولكننا اليوم ،بعد ان اغمي على قلب السماء، لن نراها بل سنرى شوارعها القاحلة الباردة وقد هجرها الامل واستوطن في جنباتها صيادو الارواح.
احكي عن النكبة التي كانت وعن تاريخنا الغائب الحاضر، وكيف نجح اهلونا بامتصاص علقمها والعبور عن الغامها خفافًا والوصول نحو رأس الحكمة بذكاء نبع؛ احكي عنها في هذا المقام لأننا اليوم مهددون بنكبة جديدة، فمن يرغب منا “أن يكون مواطنا اسرائيليا، اهلا وسهلا، ومن يريد التعاطف مع غزة فهو مدعو. سأضعهم انا على متن حافلات تنقلهم الى هناك الان”. والكلام لمفتش الشرطة العام ، الذي استدرك لاحقا وصرّح على الملأ وقال: “سلوك العرب في اسرائيل مثالي. لا يريد أي واحد منهم الاخلال بالنظام العام”. كلامه صحيح ودقيق، لكننا في الواقع نواجه مأزقًا لم نكن نريده لانفسنا. فاسرائيل تعتبر حربها مع حماس حربا وجودية مع جميع الفلسطينيين ومع قسم كبير من المسلمين، وتعتبرنا ضمنا جزءا من هذا المعسكر، وحماس تعتبر حربها على اسرائيل حربا وجودية كذلك وتحسبنا علنًا وخطأً على معسكرها. هكذا وجدنا انفسنا، من دون ان نسأل وضد ارادتنا، في مأزق خطير قد ندفع ثمنه في الاسابيع القريبة القادمة؛ مع ان البعض بدأ بدفع الثمن واقصد كل من لوحق واعتقل وطرد من عمله من قبل الرقابة الاسرائيلية بسبب كلمة كتبها او “بوست” نشره او صورة علقها، حتى لو كانت من سنين ولا علاقة لها بما حدث لاحقا.
لقد عانينا في الماضي من جراء اعتبارنا من قبل بعض قادة اسرائيل اعداءً للدولة وقد بنيت سياساتهم تجاهنا بناءً على هذه الفرضية، الا ان موقف الدولة الرسمي عرّفنا كمواطنين عاديين وعاملنا بمعايير قانونية كانت “لزجة” احيانًا وملتبسة احيانا ولكنها كانت ذات حدود ومستقرة. كنا نواجه منزلقًا قبل غزوة حماس لكنه صار مأزقا اخطر بعدها. كنا واعين لخطورة الموقف وما زلنا واعين لخطورته كما يظهر في صمتنا القلق “والمثالي”.
انها مرحلة حرجة تمر فيها منطقتنا ونحتاج فيها للصمت اذ قد يكون مثاليًا كما وصف، لكن بعضنا يسمونه خوفا وأخرون يسمونه نضوجًا وحكمة.
اننا، كما تعلمون، أحفاد النكبة، ونحب الحياة ومن يحبونها؛ وقد رضعنا العبرة من صدور امهاتنا ومن دروس الأوائل, وان غابت عنكم هذه فاسألوا عنها أصحاب “المتشائل”.
نحن في مأزق لم نختره أصلا؛ ونغضب على من كانوا السبب لأننا نكره القتل ونحب أطفال العالم اجمع، ولاننا نكره الخوف لكننا نخاف منه تماما كما يشعر كل عاقل.