نكبتنا مستمرّة “مجزرة الدوايمة”
من حسن عبادي - الدوايمة - حيفا
تاريخ النشر: 31/10/23 | 10:06يصادف 29 أكتوبر ذكرى مجزرة “الدوايمة”! ….. كتب الأسير حسام شاهين في كتابه “رسائل إلى قمر” فصلًا بعنوان: “سلوى التي تستنبت الأمل من الألم” وجاء فيه أنّ سلوى “تتلمذت على يدي والديها رحمهما الله عبر ما سرداه عليها من قصص وحكايات ثورية، وتشرّبت منهما حب الوطن والتضحية، ممّا نمّى بداخلها العمل الوطني رغم ما يعتريه من مخاطر، فكان والدها من قرية الدوايمة التي حدثت بها مجزرة، وعمّتها فاطمة موسى عبد القادر هديب إحدى ضحايا هذه المجزرة الرهيبة” (ص. 186).
تزامنت قراءتي للكتاب مع نصّ بعثته لي الصديقة الزعتريّة سميرة حمد (إيفا شتّال) بعنوان “لاجئ من بلدي” حول الفنّان الراحل عبدِ الحي مسلَّم، وجاء فيها: “كتب لي: “أكتبُ لأقدِّمَ لكُمْ نفسي كفلسطينيٍّ نزحَ وشُرِّدَ مع مئاتِ الآلاف من المواطنينَ على يدِ العدوِّ الصهيونيِّ العُنصريِّ عام 1948م. الآنَ عمري 45 وأبٌ لعشرَةِ أطفالٍ لم يروا وطنهم الحبيبُ فلسطين قطّ، لكنَّهُمْ يتوقونَ ليومٍ العودَةِ المجيدِ إلى دولَةٍ ديمقراطيَّةٍ في فلسطينَ؛ حيثُ سيعيشُ العربُ واليهودُ معًا في سلامٍ ووئامٍ. … قد ابتكرَ الصُّور، النقوش باستخدامِ نِشارَةَ الخَشبِ الممزوجَةِ بالصَّمغِ الّذي قامَ بتَشْكيلِهِ ثم تَلوينه. كانتِ الدَّوافُعُ في الغالِبِ مِنَ الحَياةِ اليوميَّةِ للمُزارعينَ الفِلَسطينيينَ، الزراعةُ والحيواناتُ والحَصادُ، الطبيعةُ الجميلةُ وأشجارُ الزَّيتونِ وينابيعُ المياهِ وفُرَصُ الرَّقصِ والاحتفال. كما صوَّر السَّنواتِ الكارثيَّةِ، النَكبةِ، العُنفَ والهُروبَ من الحَربِ عام 1948، الحياةَ في مخيَّماتِ اللّاجئين… عندما سمعَ عنْ تلِّ الزَّعترِ، بدأَ في رسمِ لوحاتِ عن هذا الهُجومِ الوحْشيِّ على مُخيَّمِ للاجئينَ الأبرياء. أطلقَ على اللوحة اسم “حمامَةَ السَّلامِ من السُّويدِ” وجعلها تقديرا لي… ولدَ في قريَةِ الدَّوايمة عامَ 1933. هكذا عاشَ وهكذا ماتَ في سنٍّ متقدِّمَةٍ، وهو ما يزالُ لاجئاً”.
تعرفت على مجزة الدوايمة المهمّشة حين تناولنا في منتدى الكتاب الحيفاوي، بمشاركة الصديقة د. ماري توتري، رحمها الله، التي سرقتها يد المنيّة في عزّ عطائها وريعان شبابها، كتاب “التطهير العرقيّ في فلسطين” للمؤرّخ الإسرائيليّ إيلان بابِه (صدر بالإنجليزيّة عام 2006، ثمّ تُرجم إلى العربيّة عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة).
نكبتنا مستمرّة، والمجازر والمعاناة ترافق الفلسطيني، ضحيّة التطهير العرقيّ، وبعد عودته فقط سيشعر بأنّ هذا الفصل من النكبة قد بلغ نهايته؛ مجازر وعمليّات التهجير التي ارتُكِبت بحقّ الفلسطينيّين عام 1948، حيث تمّ تدمير 531 قرية وطرد 800 ألف فلسطينيّ. إنّ ما حصل هو تطهير عرقيّ، وليس مجرّد حرب، كما يسمّيها الإسرائيليّون، فيقول إيلان بابه:
“إنّها القصّة البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكّانها الأصليّين، وهي جريمة ضدّ الإنسانيّة أرادت إسرائيل إنكارها وجعل العالم ينساها. إنّ استردادها من النسيان واجب علينا، ليس فقط من أجل كتابة تاريخ صحيح كان يجب أن يُكتب منذ فترة طويلة، أو بدافع مهنيّ. إنّ ذلك، كما أراه، قرار أخلاقيّ، وخاصّة الخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها إذا أردنا أن نعطي المصالحة فرصة، وأن نتيح للسلام أن يحلّ ويتجذّر في فلسطين وإسرائيل”.
مجزرة الدوايمة، ربما تكون هي الأسوأ من بين المجازر التي وقعت خلال عمليّات التطهير العرقيّ، فبعد انتهاء المجزرة تمّ إحصاء 455 شخصًا كانوا مفقودين، بينهم نحو 170 طفلًا وامرأة.
تقع قرية الدوايمة بين بئر السبع والخليل؛ روى المختار حسن محمود إهديب: “بعد صلاة الجمعة في 28 تشرين الأول بثلاثين دقيقة، دخلت عشرون عربة مصفّحة القرية من جهة القبيبة، في حين هاجمها في الوقت نفسه جنود من الجهة المقابلة. وشلّ الخوف على الفور الأشخاص العشرين الذين كانوا يحرسون القرية. وفتح الجنود الموجودون في العربات المصفّحة النار من أسلحة أوتوماتيكيّة ومدافع المورتر، بينما كانوا يشقّون طريقهم داخل القرية بحركة شبه دائريّة. وعلى جري عادتهم، طوّقوا القرية من ثلاث جهات، وتركوا الجهة الشرقيّة مفتوحة كي يطردوا من خلالها السكان البالغ عددهم 6000 نسمة خلال ساعة واحدة. وعندما لم يتحقّق ذلك، قفز الجنود من عرباتهم وراحوا يطلقون النار على الناس من دون تمييز، ولجأ كثير ممّن فرّوا إلى الجامع للاحتماء به، أو إلى كهف مقدّس قريب يُدعى عراق الزاغ. وعندما تجرأ المختار وعاد إلى القرية في اليوم التالي، هاله مرأى الجثث في الجامع، والجثث الكثيرة المتناثرة في الشارع – وهي لرجال ونساء وأطفال، وبينهم والده. وعندما ذهب إلى الكهف وجده مسدودًا بعشرات الجثث”. (التطهير العرقيّ في فلسطين، ص. 224)
وصف الجنود اليهود الذين شاركوا في المجزرة مشاهد تقشعر لها الأبدان: أطفال رضّع حُطِّمت جماجمهم، ونساء أُغتصبن أو أُحرقن أحياء داخل بيوتهن، ورجال طُعنوا حتى الموت. كانت مجزرة الدوايمة آخر مجزرة كبيرة ارتكبتها القوّات الإسرائيليّة حتى سنة 1956، حيث وقعت مجزرة كفر قاسم.
هُمّشت المجزرة وأخبارها، على الأرجح، لأنّ الأردنيين خشوا أن يوجّه إليهم، بحقّ، اللوم على عجزهم وتقاعسهم عن حماية الأهالي ومنع حدوث المجزرة، وبقيت طيّ النسيان سنين طويلة.
إنّ التطهير العرقيّ الذي حصل في فلسطين هو جريمة إنسانيّة. هي فكرة مبيّتة نشأت وتبلورت منذ إقامة الحركة الصهيونيّة، فما حصل هو تطهير عرقيّ بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى لأنّ الحديث هو عن طرد نصف سكّان فلسطين إلى خارج وطنهم، وتدمير نصف قراهم ومدنهم، رغم محاولات التهميش لما حدث، أو حتّى الإنكار الكلّيّ للموضوع… فالنكبة مستمرّة.
نعم، نكبتنا مستمرّة، وما يجري هذه الأيام في غزّة هو أكبر شاهد ودليل.
سعت إسرائيل إلى جعل العالم ينسى هذه الجريمة، كغيرها من الجرائم (29 أكتوبر ذكرى مذبحة ترشيحا وسقوط البلدة، وذكرى مجزرة كفر قاسم)، حتى بتنا، للأسف، نصدّق تلك الرواية، ولذا يعدّ استردادها من النسيان واجبًا أخلاقيًّا؛ فإنّ ما جرى من تطهير عرقيّ هو جريمة ضدّ الإنسانيّة، تمامًا كما فعل النازيّون إبّان الحرب العالميّة الثانية، إذ أُنكرت بصورة منهجيّة منذ وقوعها، ولا تزال حتّى اليوم غير معترف بها كحقيقة تاريخيّة، ناهيك عن عدم الاعتراف بها كجريمة يجب مواجهتها سياسيًّا وأخلاقيًّا.
زرت العشرات من القرى المهجّرة إثر النكبة؛
التقيت صباح الاثنين 31.10.2022 على حاجز قلندية بالصديقة السويديّةLena Fredriksson وزوجها Björn، يرافقهما عائشة وأحمد العداربة من مخيم الجلزون واتجهنا إلى قرية الدوايمة المهجّرة.
تجوّلنا في القرية ومعالمها، ومقام/ قبر الشيخ علي وما يحيطه من كهوف وآبار مياه شاهدة على الجريمة، وشاهدت دموع الفرح في أعين عائشة وأحمد، شُرّد أهلهم من الدوايمة وهذه المرّة الأولى التي يزوران القرية، حلم طفولة يتحقّق، ورأيت فرحة عائشة وهي تحتضن كيس زيتون قطفته من أشجار غرسها أجدادها، والليمون والرمان والروزمرين (إكليل الجبل).
حقًا، كانت جولة غير شكل برفقة لاجئين يحلمون بعودة مشتهاة يقبّلون تراب بلدتهم بعد طول انتظار.
أهل الدوايمة المتبقّون من المنتكبين يتناقصون ويموتون وتموت معهم “الحقيقة”، هناك ضرورة قصوى وملحّة لتسجيل شهادات حول المجزرة ممّن عاشها ثم أرشفة هذه التسجيلات لوضع حد للتشويه وللتهميش، لعلّه يكون عبرة لمن اعتبر.
وأخيرًا، لن ننسى ولن نغفر!