ليل غزة نار ودموع وليل الفلسطينيين طويل
جواد بولس
تاريخ النشر: 04/11/23 | 7:08خلال مؤتمر صحفي عقده وزير الجيش الاسرائيلي يوآف جالانت يوم الاربعاء الفائت، وفي معرض اجابته على أحد الاسئلة، تطرق الى مسألة نقل أموال الضرائب الفلسطينية المحتجزة لدى حكومة اسرائيل وقال: “لدولة اسرائيل يوجد دائمًا، وخاصة في هذه الاوقات مصلحة في استقرار الاوضاع في “يهودا والسامرة ” (وهو يقصد الضفة الغربية المحتلة)، ولذلك يتوجب علينا نقل الاموال الى السلطة الفلسطينية كي تضمن عمل جهازها التنفيذي وعمل اجهزتها التي تساعد، وفق اعتباراتها، على منع الارهاب”.
جاء رده المذكور في اعقاب مطالبة الادارة الامريكية بضرورة نقل الاموال فورا للسلطة الفلسطينية وبعد اعلان وزير المالية سموطريتش ووزراء ونواب آخرين عن معارضتهم لنقلها. لم يأت طلب الادارة الامريكية من فراغ، ولا بسب تغيير موقفها السلبي من السلطة الفلسطينية؛ فبالتزامن مع اعلان مطالبتها لاسرائيل بتحرير الأموال، تحدثت الأنباء عن موقف مشابه تتمسك به الأجهزة الامنية الاسرائيلية، التي باتت تخشى من انفجار الاوضاع في الضفة المحتلة مما سيسفر عن فتح جبهة مقاومة ثالثة، الى جانب الجبهة الجنوبية في غزة، والشمالية في لبنان، وهشاشة الاوضاع داخل اسرائيل وتعقيدات العلاقات مع المواطنين العرب التي كانت وما زالت مبعثًا للقلق الاسرائيلي الدائم.
من يتابع أحوال الناس في الضفة الغربية المحتلة، سيرى أن اوضاعهم المادية المأساوية تشكل، من دون شك، احد أسباب غضبهم المتعاظم من يوم الى يوم، خاصة ان الاعسار المادي يترافق مع عدم وجود أي أفق لحل سياسي مقبل، ولا حتى لبداية عملية تفاوضية أيا كانت؛ فالفقر واليأس اذا اجتمعا كانا دومًا مهمازَيْ الشعوب في وثباتها نحو الحرية والعيش الكريم.
لا اعتقد ان مبعث الخوف الأمريكي من احتمال حدوث الانفجار في الارض المحتلة يقف عند تقاطع شارعي الفقر واليأس السياسي وحسب، فمنذ شهور عديدة دأبت الادارة الامريكية على التعبير عن قلقها من ممارسات المستوطنين تجاه المواطنين الفلسطينيين، وطالبت اسرائيل بتقديم المسؤولين منهم عن تنفيذ الجرائم الى القضاء ومحاكمتهم. حتى ان اعلامهم سرّب قبل بضعة ايام ان الرئيس بايدن طلب خلال احدى محادثاته من بنيامين نتنياهو منع هجمات المستوطنين على المواطنين الفلسطينيين؛ فالمستوطون “يزيدون الحرائق نارًا”، كما ورد على لسانه؛ وأضافت تلك التسريبات بأن بايدن قد حذر نتنياهو من أن ارتفاع مستوى التوتر في الضفة الغربية قد يؤدي الى تصعيد عام سيحول أزمة الحرب في غزة الى اخطر بدرجات عما هي عليه. وقد جاءت هذه التحذيرات بعد ارتفاع عدد الضحايا الفلسطينيين الذين قتلوا بنيران المستوطنين او عناصر الجيش في الضفة الغربية منذ السابع من اكتوبر، وتعديها عتبة المائة شهيد؛ هذا فضلا عن سقوط اعداد كبيره من الجرحى وتنفيذ عدة عمليات تهجير للسكان من بعض التجمعات السكنية وعمليات تنكيل وحشي بالمواطنين كانت تمارس بحماية الجيش وتواطؤ عناصره مع الجناة،. وتنفّذ احيانًا بمصاحبة الكاميرات لتصويرها ولبثها، من دون خجل وبعنجهية، على الملأ.
اعتقد ان شيوع هذه الظاهرة التي رصدتها الجمعيات المدنية والحقوقية، وبضمنها تلك المهتمة بملف الاسرى الفلسطينيين، دفع بعض الجهات، ومنها الامريكان، الى التدخل في محاولة لمنعها، لكننا نعرف انهم وغيرهم لن ينجحوا بذلك، فالعنجهية والفاشية لا تعرفان الا أن تكونا ذاتيهما.
فوفقًا لتقارير موثقة يتبين على ان قوات الاحتلال قامت منذ السابع من اكتوبر باعتقال حوالي 1680 مواطنًا من الضفة الغربية. وقد افاد معتقلون محررون انهم ضربوا بقساوه من قبل عناصر الجيش خلال عملية الاعتقالات وانه تم تخريب وتدمير محتويات بيوتهم وترهيب اهاليهم. لقد تم الافراج عن بعضهم بعد التحقيق معهم بينما تم تحويل أكثر من 904 معتقل منهم للاعتقال الاداري، حيث بلغ مجمل اوامر الاعتقال الاداري الصادرة منذ مطلع شهر اكتوبر 1034 امرًا، في حين بلغ عدد المعتقلين اداريًا 2070 معتقلاً، يحتجزون في سجون الاحتلال بدون تهم وبدون مواجهتهم بأية بينات ومن غير عرضهم على محاكم ملائمة و نزيهة. لقد شملت عمليات الاعتقال كل محافظات الضفة، بينما كانت حصة محافظة الخليل هي الاكبر، فقد وصل عدد المعتقلين منها الى 500 اسير، ثم تلتها محافظة القدس. ولا زالت حملة الاعتقالات جاريه وقد شملت اعتقال 13 نائبًا في المجلس التشريعي المنتخب، و 17 صحفيًا و 49 امرأة. لا يُجلب الاسرى الى قاعات المحاكم بل تتم اجراءات تمديد اعتقالهم غيابيًا، من خلال عرضهم على شاشات الفيديو وبدون فرصة للقاء محاميهم، اذ منعت اسرائيل زيارة المحامين لجميع الاسرى في سجونها منذ السابع من اكتوبر.
لم تأت الشكوى الامريكية اذا بخصوص همجية تصرفات وممارسات المستوطنين وعناصر الجيش من دون سبب ولا كعلامة لحسن سلوك وطيبة قلب لديهم؛ بل لشعور امريكا بأن الضفة تنام على براميل بارود، ولمعرفتهم بان “نيرون” يسكن في رأس كل مستوطن متوسّدا تعاليم يوشع.
لقد شاهدنا مؤخرا مجموعة من افلام الفيديو التي تظهر مجموعات من جنود جيش الاحتلال او مجموعات من المستوطنين وهم يقومون بتعذيب مواطن فلسطيني او مجموعة مواطنين عزل اما اثناء اعتقالهم او احتجازهم أو خلال اعتراضهم على أي طريق والاعتداء عليهم وممارستهم لأفعال مهينة للكرامة الانسانية، مثل تعريتهم وتغطيتهم بعلم إسرائيل او تغمية عيونهم واجبارهم على الرقص بعلم اسرائيل وعلى ايقاعات موسيقى الاغاني العبرية، وغيرها من هذه الافعال المشينة الحقيرة، التي أنأى بنفسي عن تفصيلها.
يستهدف هؤلاء المجرمون من ممارساتهم اللانسانية والوحشيه ترهيب المواطنين الفلسطينيين من خلال ممارسة شذوذهم المرضي بدوافع الانتقام الهمجية، والامعان العنصري باذلال الفلسطيني الذي يجب ان يبقى عندهم ذليلًا حسب وصية التوراة وتعاليم حاخاماتهم. امريكا وغيرها في العالم يرون هذه المشاهد ويخشون، لا سيما في هذه الظروف، من نتائجها العكسية، فهي قد تفضي الى حالة انفجار مدوية وخطيرة لا تندرج ضمن حدود التخطيط الامريكي الحالي الذي يعطي الاولوية لما يجري في غزة وعلى الجبهة الشمالية.
ليس سرا أن الضفة الغربية تعيش حالة من الاحتقان الشديد؛ ولا يستطيع احد ان يتكهن متى سينفجر بركانها، خاصة اذا ما اشتدت الحرب على غزة وتزايدت علامات ومسببات الحرج والتململ داخل صفوف حركة فتح تحديدا. ففتح اليوم تمر في حالة حرجة وتقف برأيي على مفترق طرق مليء بالالغام، حيث لم يعد استيعاب كوادرها وقيادييها الميدانيين لضرورة المحافظة على خيار عدم الاشتباك مع الاحتلال مفهومًا وطبيعيًا ومبررا كما كان طيلة السنوات الماضية، بل بدأ هذا الشعور يتراجع داخل أوساط واسعة في صفوفها وبعضهم يصفونه تخاذلًا اذا لم يكن اكثر.
قد تحوّل حكومة اسرائيل أموال الفلسطينيين للسلطة في هذه الايام، فقرصنتها منذ البداية لم تكن الا عبارة عن عملية “زعرنة” احتلالية واستقواء على الحقوق الفلسطينية؛ لكنني لا اعتقد ان بهذا المال وحده ستهدأ أحوال الضفة كما يتمنى جالانت وبايدن؛ فبدون محاربة الفقر المنتشر والمزمن ومعالجة صحيحة لمسألة العمال الفلسطينيين المستجده بعد السابع من اكتوبر، وبدون احياء الامل لدى عامة الناس من خلال عرض افق سياسي تحرري وطني حقيقي، وبدون لجم همجية المستوطنين او التصدي لهم، ومع استمرار ممارسات الجيش القمعيه ومسهم بكرامات الانسان الفلسطيني الاساسية بأساليب حقيرة ومستفزة، وبدون تغيير السياسة الرسمية الاسرائيلية الرامية لضرب الحركة الاسيرة وتقويض منجزاتها التاريخية، بدون هذه كلها، لا اتصور ان الضفة ستبقى على سكينتها ولا أن تكون كأختها صبرا، تلك “الفتاة النائمة وليل طويل يرصد الاحلام في صبرا، وصبرا نائمة” وتتقبل المهانات وتودع الشهداء وتزج وراء اقفاص اسمنتية، ويساق شبابها كالقطعان الى صحاري الامل.
سيدفعون المال للضفة هذه المرة كي تبقى غزة وحدها، فهل ستبقى مدينة الانفاق والبحر والصبر هي “بقايا الكف في جسد القتيل ..تخاف الليل ، تسنده لركبتها ، تغطيه بكحل عيونها. وتبكي لتلهيه” ؟ وليأذن لي الدرويش.
لا اعرف كيف ستنتهي الحرب على غزة ولكني اعرف ان ليل غزة من نار ودموع . ولا أعرف كيف سيكون الغد بعد هذا المساء الاصفر؛ ولا اعرف كيف ومتى ستصحو الضفة، او ربما لن تصحو بل هي الكرامة ستنتفض لنفسها وترفض ان تبقى بساطير غلاة المستوطنين على رقابها وحملة السيف يسخرون من عريها وعليه يبولون. ولا اعرف كيف سينام الجليل والبحر والمثلث والنقب، والذئاب تحوم حول خيامنا مسعورة تعوي “وتقضقص عصلا في أسرّتها الردى”. فهل سيبقى ليل الفلسطينيين طويلا طويلا .
اكتب وأنا لا اعرف كل هذا، لكنني اعرف انني اكره الحرب وأبكي كل ضحية سقطت هباءً وعلى مذابح السماء الرخامية؛ واعرف انني احب الحياة وبلادي والغناء والصباح والقمر.