سيناريوهات إسرائيل حول لبنان: الدبلوماسية والحرب والخندق العميق
جمال زحالقة
تاريخ النشر: 16/11/23 | 10:28زادت في الأيام الأخيرة وتيرة وحدة التهديدات الإسرائيلية ضد حزب الله ولبنان، وأعلن وزير الأمن الإسرائيلي الجنرال- احتياط يوآف غالانت، خلال إجابته على سؤال عن الخط الأحمر تجاه حزب الله، بالقول: «عندما تسمعون أن إسرائيل تقصف بيروت، فستعرفون أن حزب الله قطع الخط الأحمر»، وجاء ذلك بعد تصريحاته المتكررة بأن لبنان سيعود إلى العصر الحجري إن خاض حزب الله حربا شاملة. وهدّد بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي: «لقد حذّرت حزب الله، لا تخطئوا وتدخلوا الحرب، فهذه ستكون غلطة حياتكم. دخولكم الحرب سيحسم مصير لبنان».
وأوضح لاحقا في مقابلة مع شبكة «فوكس نيوز» الأمريكية وفي لقاء مع رؤساء مجالس القرى والبلدات (الخالية) على الحدود اللبنانية، أن «الخطوة الأولى في ردع حزب الله هي الانتصار على حماس، لا أعرف إذا كانت هذه الخطوة كافية لكنّها ضرورية، فإذا لم نقض على حماس في غزة، فلن يكون هناك هدوء في الشمال».
في الاتجاه نفسه، تحدث الميجر جنرال – احتياط بيني غانتس، عضو مجلس الحرب المصغر: «قيادة المنطقة الشمالية جاهزة لتوسيع المعركة إذا تطلب الأمر. لن نعود إلى السادس من أكتوبر/تشرين الأول في هذه الجبهة أيضا. نحن نعمل بشكل هجومي والهدف واضح وهو تمكين السكان (النازحين) من العودة بأمن وأمان».
هؤلاء الثلاثة، نتنياهو وغالانت وغانتس، هم الترويكا السياسية، التي تحسم القرار الأمني، لكنّها لا تُصدر قراراتها للتنفيذ قبل أن تصغي جيدا لما يقوله رئيس الأركان الميجر جنرال هرتصي هليفي، وهو أيضا كرر كلاما مشابها بكل ما يخص الجبهة اللبنانية: «نحن جاهزون بشكل قوي مع خطط عمل للشمال. مهمتنا هي أن نوفر الأمن. لن يبقى الوضع الأمني بحالة لا يشعر بها سكان الشمال بالأمان في العودة إلى بيوتهم».
مستوطنات خالية ومستوطنون خائفون
الإدارة الأمريكية غير معنية بالتورط في حرب إقليمية في الشرق الأوسط، وهذا أحد أسباب التدخل الأمريكي العميق في اتخاذ القرار العسكري في إسرائيل
تُجمع القيادة الإسرائيلية بشقيها السياسي والأمني على أن الأوضاع على الجبهة اللبنانية، بعد الذي حدث في السابع من أكتوبر، تغيّرت بشكل دراماتيكي بسبب خشية المستوطنين على الحدود من أن يتكرر عندهم ما حدث في قضاء غزة، وسرعان ما تحوّلت الخشية إلى خوف وهلع بعد اندلاع مواجهات عسكرية مع حزب الله والمنظمات الفلسطينية الموجودة في لبنان. وبعد إخلاء حوالي 70 ألف مستوطن من المنطقة الحدودية، جرى سحب المدرعات والفرق العسكرية إلى الوراء، لإبعادها عن مرمي نيران القذائف المضادة للمدرعات، وهكذا تشكّل شريط حدودي أمني لبناني داخل الحدود الإسرائيلية، ما أثار حفيظة النخب الأمنية، التي تعوّدت على أكثر من شريط أمني عبر الحدود. لقد أصبح واضحا، بما لا يقبل الشك، أن سكان مستوطنات «الغلاف اللبناني»، لن يعودوا إليها، إذا لم يحدث تغيير في الأوضاع الأمنية، وفي مقدمتها إبعاد قوات حزب الله إلى خلف نهر الليطاني، إضافة إلى تدابير أمنية دفاعية شاملة ومحكمة. لقد اعترى هؤلاء خوف من اقتحام كاسح لقوات كوماندو حزب الله، لا يقل ضراوة عمّا حدث في السابع من أكتوبر. وقد نشر الإعلام الإسرائيلي مئات التقارير حول «نفسية» سكان القرى الحدودية المحاذية للبنان، سادها إجماع على أن غالبيتهم الساحقة لن يعودوا إلى قراهم وبلداتهم، إذا لم تقم الدولة الصهيونية بتوفير أمن «حقيقي» لهم لا ينحصر في زيادة الترتيبات الدفاعية. وقد وعدتهم القيادة السياسية والعسكرية بتغيير المعادلة الأمنية، بحيث يستطيعون الرجوع إلى بيوتهم «آمنين مطمئنين». لقد حشرت القيادة الإسرائيلية نفسها في زاوية التعهد بتوفير الأمن للمستوطنين، عبر إبعاد حزب الله عن الحدود، لكنّها لم تحدد طريقة تنفيذ تعهدها، وهي تنتظر مآلات مسار ونتائج حربها العدوانية على غزة في الجنوب، لتقرر ما هي فاعلة في الشمال. ويستدل من مجمل ما يقال وينشر حول هذا الموضوع أن أمام إسرائيل عدة سيناريوهات:
الأول، تنتظر إسرائيل نهاية الحرب، وربما قبل ذلك، للقيام بحملة سياسية ودبلوماسية مدعومة أمريكيا وأوروبيا، للتوصل إلى اتفاق يجري بموجبه تنفيذ التفسير الإسرائيلي لقرار الأمم المتحدة رقم 1701، بحيث لا يكون لحزب الله أي وجود عسكري، دائم أو مؤقّت، جنوب الليطاني. وقد تشمل مثل هذه المبادرة إغراءات بتقديم مساعدات اقتصادية لإنقاذ الاقتصاد اللبناني من محنته، التي أصبحت مزمنة. لقد بدأت الولايات المتحدة تحركا بهذا الاتجاه، والمسؤولون الأمريكيون الذين زاروا لبنان ودول المنطقة، لم يتحدثوا فقط عن إقناع حزب الله بعدم دخول الحرب، بل أيضا عن ترتيبات ما بعدها، تحت مظلة تنفيذ القرار 1701. حاليا، من المستبعد أن يقبل حزب الله بهذا المقترح، حتى لو رافقه دعم مالي وازن للبنان، لكن من شبه المؤكّد أن تبدأ به إسرائيل، فإن نجح المسار كان به، وإن لا، فمجرد طرحه، بنظر إسرائيل، يمنحها شرعية للسيناريو التالي.
الثاني: إذا لم تستطع إسرائيل التوصل إلى اتفاق سياسي يرضيها ويرضي مستوطنيها في «الغلاف اللبناني»، فقد تلجأ إلى خوض معركة عسكرية محدودة، واحتلال منطقة جنوب الليطاني بانتظار مبادرات دولية لإنهاء المعارك والتوصل إلى اتفاق جديد لإبعاد حزب الله عن الحدود، وفرض شريط أمني منزوع السلاح داخل الأراضي اللبنانية لا ترابط فيه سوى قوات «اليونيفيل» والشرطة اللبنانية. قد تكتفي إسرائيل بهذا السيناريو، لكن من المستبعد أن يقبل به حزب الله، وقد تتوسع المواجهة المحدودة إلى سيناريو ثالث.
الثالث: يبقى سيناريو الحرب الشاملة على الجبهة الإسرائيلية ـ اللبنانية، احتمالا قائما: إما أن تندلع مباشرة بمبادرة من حزب الله تبعا للتطورات في الحرب على غزة، أو أن تقوم بها إسرائيل وتبريرها بحرب الاستنزاف على الحدود. وإما أن تنشب حرب بعد فشل مساع دبلوماسية، أو تبعا لتدهور معركة عسكرية كبيرة لكن محدودة. قد يحدث سيناريو الحرب الشاملة قبل أو بعد أن تنتهي الحرب على غزة، وقد أعرب دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى عن «رأيه» بأنه لن تكون لإسرائيل أي شرعية في خوض مثل هذه الحرب بعد انتهاء المعارك في غزة، ولكن بإمكانها استغلال فوضى الحرب والمعارك القائمة الآن لشن حرب طاحنة في لبنان بلا معارضة دولية قوية. لا يصح شطب هذا السيناريو، خاصة أن قسما كبيرا من القيادة الأمنية والسياسية تسعى إليه، وكانت طرحته للتنفيذ الفوري قبل أسابيع، وهناك من أصيب بخيبة أمل من حزب الله لأنه لم يدخل الحرب بشكل كامل. الولايات المتحدة من جهتها غير معنية بهذا الخيار، لكن إذا حدث فهي ستوفر الدعم الوافي لإسرائيل، وكما صرح رئيس الموساد السابق يوسي كوهين، فإن إسرائيل ستشن الحرب وحدها، وإن احتاجت لشيء فالولايات المتحدة لن تبخل به. لا يمكن المبالغة بحجم الدمار الهائل، الذي سينجم عن حرب شاملة على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية، ما قد يجعلها تتحول بسرعة إلى سيناريو رابع هو حرب إقليمية طاحنة.
الرابع: تسعى بعض الأطراف الوازنة في الدولة الصهيونية إلى جر الولايات المتحدة لمواجهة شاملة ضد إيران وحلفائها في المنطقة، عبر استغلال الحرب على غزة والوجود العسكري الأمريكي الكثيف في شرقي المتوسط والخليج. الإدارة الأمريكية غير معنية بالمرة في التورط في حرب إقليمية في الشرق الأوسط، وهذا أحد أسباب التدخل الأمريكي العميق في اتخاذ القرار العسكري في إسرائيل، ومن دوافع الزيارات المتكررة لمسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى إلى إسرائيل، لضمان عدم خروج الأمور عن السيطرة ودفع أمريكا إلى حرب لا تريدها. يبدو اليوم أن سيناريو الحرب الإقليمية الشاملة مستبعد، لكن تبقى إمكانية معينة أن تتدهور الأمور نحو هذا الاحتمال.
يبدو أن هناك إجماعا في إسرائيل بعدم القبول بعودة الأمور على الحدود اللبنانية لما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر، لكن القيادة الإسرائيلية لم تحسم خطواتها المقبلة بعد. هذه القيادة تعي جيدا معنى حرب طاحنة مع حزب الله، وربما حرب متعددة الجبهات أو حرب إقليمية واسعة. واستعدادا لإمكانية حرب كبرى، أقامت إسرائيل خندقا ضخما في جبال القدس، بتكلفة مليارات الدولارات، لإدارة المعارك وحالة الحرب. حاليا، لا يجتمع وزراء مجلس الحرب وقيادة الأمن والجيش في هذا الموقع المحصن ضد كل الأسلحة التقليدية والنووية، بل في ملجأ تحت الأرض في مركز قيادة الجيش في حي «الكرياة» في تل أبيب. لكن إذا نشبت حرب شاملة، فإن القيادة الإسرائيلية ستهرع حتما إلى «الخندق العميق»، فعلا ومجازا.
كاتب وباحث فلسطيني