كنت أريد أن أبكي ليراني يقول ابن الضحية..كنت أريد أن أعيش لأراك تقول الضحية
جواد بولس
تاريخ النشر: 17/11/23 | 17:06يشعر كل مواطن عربي في اسرائيل بارتفاع حاد في حدة التوتر القائم بين المجتمعين وبان لحظة الانفجار باتت وشيكة بالرغم من درجة المسؤولية العالية التي رافقت، طيلة الأسابيع الفائتة، ردود فعل المواطنين العرب وقياداتهم وجميع مؤسساتهم الاجتماعية والسياسية حيث اختاروا طريق الانضباط الطوعي وتحييد تأثير عواطفهم عن تداعيات الاحداث المأساوية الجارية.
لا اعتقد ان المجتمع العربي في اسرائيل منشغل ،كما كان يجب أن يكون، في قضية ماذا يمكن ان يحصل لنا في هذه المرحلة . والاخطر من هذه “الغفوة” حالة التنكر لما سنواجهه مباشرة بعد انتهاء هذه المرحلة/الحرب، وخروج الجيوش من غزة ومن سكرتها، وعودتها الى اسرائيل الكسيرة والى واقعها الحقيقي، الذي ستشكل معالمه الجديدة أصداء وتذبذبات صدمة السابع من اكتوبر وما سببته من انهيارات فيما كان يعدّ كتابوهات حصينة داخل اسرائيل العظمى .
لقد لفت انتباهي استطلاع جديد نشره معهد “اكورد” الاسرائيلي قبل يومين، كنت اتمنى لو تقرأ قياداتنا خلاصاته وتستعين بما جاء فيه من معطيات ونتائج .فمع كل الحذر الذي يجب ان نتوخاه عندما نقرأ مضامين ابحاث واستطلاعات رأي تجريها المعاهد الاسرائيلية، لا سيما في هذه الاوقات الدقيقة والحساسة، سنجده معدا بمهنية واضحة وبالموضوعية المطلوبة ويعكس واقعا نعيشه ويشعر بعضنا بخطورته التي يؤكدها البحث بأدوات مهنية. وللتوضيح , فمعهد”اكورد”، هو مؤسسة اجتماعية – اكاديمية تعمل في كنف “الجامعة العبرية” عكفت، في السنوات الاخيرة، على اجراء عدد من الاستطلاعات التي مكنت طواقمه من مقارنة المعطيات الواردة ومن رصد التغيرات الحاصلة داخل المجتمعات المختلفة في اسرائيل. ولقد توصل الباحثون في استطلاعهم الاخير الى ان “نسبة دعم اليهود لاستعمال العنف ضد العرب قد ارتفعت بدرجة حادة جدا بعد السابع من اكتوبر ” وكذلك استنتجوا على ان ” الصدمة الجماعية التي أصابت المواطنين اليهود سوف تبقى بمثابة العامل الاساسي في هندسة شكل العلاقات بين المجموعتين لسنين عديدة”. ووفقًا لنتائج الاستطلاع فان 90% من مواطني اسرائيل اليهود يتوقعون ان المواجهات العنيفة، كالتي حصلت في شهر مايو /ايار عام 2021 ، او أشد منها، سوف تنفجر قريبًا داخل الدولة، بينما توقع ذلك 70% من المواطنين العرب الذين استطلعت اراءهم. كما وأكد الاستطلاع على ان منسوب الكراهية بين اليهود تجاه العرب، يزداد بشكل مضطرد ومقلق، “وان مشاعر الخوف الحقيقي، الجمعي والشخصي، قد تفاقمت داخل المجتمعين، وهي مشاعر تغذيها صدمات الماضي، الشوآه/الكارثة والنكبة”. كما وحذر معدو الاستطلاع من ان المجتمع اليهودي في اسرائيل يشعر انه يمتلك “تصريحا اخلاقيا” قد يجيز لهم قريبا في حالة وجود ما اسموه “مواجهة الشر المطلق” الى عدم التقيد بأي حدود اخلاقية، لا سيما بعد “ان تبنى المجتمعان في اسرائيل حالة الضحية وصار الانزلاق بعدها نحو العنف سهلا”. انها رؤية آخروية مقلقة للغاية.
لم نكن، نحن المواطنين العرب، ربما بحاجة الى مثل هذا الاستطلاع كي نتعرف على حقيقة واقعنا، فيكفي لو استحضرنا موجات الملاحقات التي طالت في الاسابيع المنصرمة العشرات من الموظفين والعمال والطلاب العرب بحجج واهية؛ ولكن ، هكذا يبدو، كانت تلك البدايات وحسب، وسوف يكون الأتي اعظم واخطر واعنف .
سوف نبقى، نحن المواطنين العرب، كما كنا، أول ضحايا سياسة الانتقام والاضطهاد الاسرائيلية لكننا لن نكون الوحيدين؛ فلقد رأينا خلال الشهر الفائت كيف لاحقت قوات الامن الاسرائيلية عددا من اليهود معارضي سياسة الحكومة. لقد برزت من بين هذه الملاحقات حادثة اعتقال استاذ التاريخ، الدكتور مئير بروخين، المعارض للاحتلال الاسرائيلي وللحرب على غزة. فبعد اعتقاله وجهت اليه تهمة تفيد انه “كشف عن قراره بالخيانة”، وتعد هذه مخالفة جنائية تصل عقوبتها الى عشرة اعوام بالسجن الفعلي. لقد ابقت الشرطة الدكتور بروخين رهن الاعتقال مدة خمسة ايام ثم افرجت المحكمة عنه بعدها بشروط مقيدة من دون تقديم لائحة اتهام بحقه. وخصصت صحيفة .”هآرتس “العبرية افتتاحيتها عن قضيته يوم الثلاثاء الفائت فجاء فيها انه: “لا يجوز ان نخطيء. لقد استعمل بروخين كاداة سياسية لنقل رسالة سياسية. ان دافع اعتقاله كان الردع واسكات كل انتقاد أو حركة احتجاج ضد السياسة الاسرائيلية. لقد دفع بروخين ثمنًا شخصيا : فصله من وظيفة التدريس وخمسة ايام في السجن دون ان يكون لذلك اي مبرر”. لقد تزامنت قضية اعتقال الدكتور بروخين مع اعتقال دكتورة علم الآثار يعيل عبادي رييس بتهمة ” تشويه ممتلكات” عن طريق رشها الاصباغ على بوابة وسور عضو الكنيست شالوم دنينو في مدينة عومر بالنقب، وكتابتها الرقم 1400 في اشارة الى عدد الضحايا الاسرائيليين الذين سقطوا في السابع من اكتوبر. اخضعت الدكتورة يعيل الى التحقيق والترهيب سئلت خلاله عن ميولها السياسية ولمن صوتت في الانتخابات الاخيرة، ثم افرج عنها بشروط مقيدة اشتملت على ابقائها رهن الاعتقال المنزلي. لن استعرض في هذه العجالة تفاصيل ملاحقات المواطنين العرب التي تفوق بكثير حالات ملاحقة المواطنين اليهود، لكن تناولي للمشهد بشقيه، العربي واليهودي، يعكس ما كنا نعرفه قبل اكتوبر، وهو اننا كمواطنين فلسطينيين سوف نبقى عنوان سياسة اضطهاد الفاشية والكراهية العرقية الاول؛ لكن بعض اليهود سيجتمعون معنا في نفس الزنازين. وقد نلحظ ذلك فيما اشار اليه الباحثون في معهد “اكورد” على ان تاريخ السابع من اكتوبر هو “حدث مؤسس مع قوة تأثير نفسي كبيرة جدا”، وأضافوا منوهين على : “ان السردية المتشكلة في هذا الوقت حيال نسيج العلاقات بين اليهود والعرب داخل المجتمع الاسرائيلي قد تأخذنا الى اتجاهين مختلفبن: مواجهة داخلية شاملة او بناء رواية جديدة مع أمل” . فكيف سنجد الطريق الى ذلك الامل؟ بعض الجواب قد نجده في تجربتنا السياسية و بعضه في الاستطلاع المذكور؛ فبعد السابع من اكتوبر بدأوا في معهد ” اكورد.” بفحص سلم العوامل التي من شأنها ان تؤدي الى خفض دوافع اليهود في تعميم مشاعرهم العدائية تجاه كل العرب، ووجدوا ان العمل اليهودي العربي المشترك هو من اهم تلك العوامل.
لا اعرف في هذا الزمن المجنون كيف يمكن ان ننجح في بناء مثل هذه الشراكة ! ربما قد نهتدي اليها بداية في مواقف اقارب بعض الضحايا الذين سقطوا في اعتداء السابع من اكتوبر الدموي ، فمن المعروف ان بعض هؤلاء كانوا نشطاء من اجل السلام وضد الاحتلال وروت قصص بعضهم الصحفية شاني ليطمان في جريدة هأرتس (يوم 26/10 ثم مترجمة للعربية يوم 12/11 ) تحت عنوان “كثيرون أخطأوا، نحن لم نخطيء”.
تروي الصحفية قصة يعقوبي وبيلها ينون اللذين قتلا بعد ان قصف بيتهم في كيبوتس “نتيف هعسرة ” بصاروخ ادى الى احتراق البيت واحراقهما داخله. لقد أجاب ابنهما معوز ينون عندما سئل اذا لم يكن غاضبا واذا لا يريد معاقبة الذين فعلوا هذا الامر قائلا: “أنا افهم الغضب والاحباط وافهم الرغبة في الانتقام، لكنني ارى ايضا الى اين اوصلنا هذا الانتقام خلال المائة سنه الاخيرة. لو جلس هنا الان مسلح حماس الذي اطلق الصاروخ على منزل والديّ لتحدثت معه. كنت اود ان افهم ، كنت اريد أن يراني أبكي” . فرغم مصيبته كان معوز الثاكل مقتنعا على ان الحديث مع العدو اجدى من الرصاص وان الدموع هي مطر المستقبل الآمن . اما نيطع هايمن الناشطة في “حركة نساء يصنعن السلام” وهي من كيبوتس نير عوز، فاجابت، بعد اختطاف والدتها الى غزة، وسؤالها اذا كانت تشعر بانها ونشطاء اخرين قد اخطأوا بشأن سكان غزة ” كلا كلا على الاطلاق. لقد أخطأ من اعتقد انهم لا يستحقون الحياة الكريمة، وبأنه يمكننا مواصلة السيطرة على شعب اخر كل هذه السنوات العديدة دون ان يرتد هذا الى نحورنا. اشخاص كثيرون اخطأوا نحن لم نخطيء، لو اصغوا لنساء يصنعن السلام عندما صرخن انه قد حان الوقت لوضع حد نهائي لهذه المعاناة وان الامر ممكن، لما وصلنا الى هذا الوضع الذي تجلس فيه والدتي الان لدى اشخاص هم من الوحوش! لا من بني البشر” . هاتان عينتان من تقرير كبير.
اعرف أن أمثال هؤلاء هم قلة في المجتمع اليهودي، لكنني أعرف أيضا أننا معهم سنكون أقوى في وجه من يريدون احراقنا؛ فنحن في زمن لن ينقذنا فيه “اشقاؤنا” العرب ولن يشفع لنا لا غرب ولا شرق. فمع هؤلاء قد نجد الحل؛ ومن لديه حل آخر فلينطق به الان، في زمن الخوف. خوفنا اليوم هو حالة انسانية طبيعية لكنه اذا طال لن يوصلنا الى نجاتنا، وشعورنا بالمسؤولية هو واجب وحكمة، لكنها قد تصير، اذا استمرت بدون عمل، وجه عجزنا الاخر . فلنفتش عن خلاصنا مع من يؤثرون ان يرى عدوهم دمعهم، وبين من عرفوا بان مواصلة السيطرة على شعب آخر سترتد نيرانا الى نحورهم. قد ننجح.