ليلة الميلاد
قصّة بقلم : زهير دعيم
تاريخ النشر: 04/12/23 | 7:14لم يتخطَّ حبيب العاشرة من عمره ، ولكنّه تخطّى الكثير من الأحزان ، وبكى ” وشبع بُكاءً ” إلّا أنّه في مرّتيْنِ اثنتيْنِ فقط ذرف الدموع المدرارة وذاق لذع الألم ، يوم فقد أباه وهو في الثامنة من عمره ، ويوم زُفَّتْ أُمّه الى رجلها الثّاني إبراهيم قبل سنتين تقريبًا ، فقد أحسّ وهو الطفل المُرهف أنّ أُمّه تُنتزعُ منه وتصبح مُلكًا لرجل غريب .
صحيح أنّ إبراهيم تودّد اليه في بداية المطاف وراح يستميله بشتّى الطُّرق ومُتنوّع الأساليب ، فلم يترك صنفًا من الشوكولاتة إلّا وأحضره اليه ، ناهيك عن الألعاب والدُّمى والكعك .
ولكنّ حبيب لم يركن اليه ولم يطمئنّ ، فكان قلبه الصّغير يُنذره بشرٍّ مستطير وخطرٍ داهم ، وبالفعل فقد صدق حدسه وصدقت أحاسيسه ، فتكشّف له الرجل عن ظالمٍ وشرس ومُقامرٍ مُتمرّس .
فسامَهُ وأمّه شتّى ألوان العذاب ، ونهب مصاغها من زواجها الأوّل وخسره على الطاولة الخضراء ولمْ يكتفِ ….
ويتذكّر حبيب كلّ ذلك ، ويتذكّر كيف أنّه كان يشبع لطمًا ولَكْمًا قبل أن يشبع خُبزًا، ولكنّ ذلك ما زاده إلّا عُنفوانًا ، فقد صمّمَ على أن يقطع الطريق ولو فوق جسر من الدّموع ، هذا ولم تشفع توسلّات الأمّ ولا دموعها ، بل على العكس فقد ازداد الأمر سوءًا بعد أن جاء الى الدُّنيا أخ صغير لحبيب .
” عنيد ، غريب ، وجه شؤم ، مصيبة ” قاموس من الكلمات البذيئة كان يُمطر بها الزّوج الطفل حبيب مصحوبة بالركلات والرفس ، والأمّ المسكينة تبكي في صمت ، وأحيانًا تتوسّل وتُحلّفه بصغيره أن يدع ” حبيب ” وشأنه ، وأن يكون له أبًا ، أما وعدها بذلك ؟ ألَم يكن هذا هو الشّرط الوحيد … بلى ولكن !!!
والغريب في الأمر أن الطفل حبيب لم يحتمِ ولو مرّة واحدة بأمّه ، وإنّما كان يرميها وهو تحت سيْلِ الضّربات والشتائم بنظرات عتاب ولوْمٍ ، مثل هذه النظرات كانت ” تذبحها ” ذبحًا وتجعلها تتمنّى لو أنها ماتت قبل أن تقترن بهذا الرجل .
على أنّ هذه المأساة كانت تنحو في بعض الأحيان نحو الهدنة ، فينسى حبيب آلامه ، ويعود الى دروسه التي بزَّ بها أقرانه ، وقد يعود الى التفكير بالدرّاجة ، فمنذ سنة وهو يحلم أن تكون له دراجة حمراء كصديقه عامر، وقد فاتحَ أمّه بالأمر فوعدته خيرًا وراحت ” تسرق ” الدّريهمات ؛ بل قل دريهماتها ليوفّرها حبيب في صندوق خشبيّ بعيدًا عن عيون الزّوج المقامر، الذي لا يترك فلسًا في البيت الّا ويخسره.
… وقام حبيب الى صندوقه ليعدّ النقود فغدًا عيد الميلاد ، وغدًا تكون قد مضت سنة كاملةٌ على ولادة الفكرة ، وقد وضع نُصبَ عينيه أن يشتريَ دراجة حمراء في عيد الميلاد المُقبل ، وها هو العيد قاب قوسين أو أدنى ، والنقود تكفي وتزيد ، وقد تأكّد بنفسه في الدّكّان القريب ، فكثيرًا ما قضى الدّقائق الطوال أمام تلك الدّراجة ، وكثيرًا ما خفق فؤاده وهو يتخيّل انّ الدّراجة الحمراء قد اختفت من الدّكان .
أيكون قد سبقه اليها أحد ؟! … لا .. لا فمنذ ساعات فقط شاهدها وأنعم النظر في كلّ جزء فيها واستفسر عن ثمنها .
ولكن قد يسبقه احد اليها في هذه الليلة ، أليست الليلة ليلة عيد ، والأهل يفتكرون صغارهم في مثل هذه المناسبات ؟!
لا.. لا … ويعود ليؤكّد لنفسه بأنّ البائع وعده وعدًا صادقًا بأنّ الدّراجة له ولن يُفرّطَ بها لأحد .
غير أنّ خاطرًا جديدًا داعب خياله ، ماذا لو أجّل موضوع الدّراجة حتى الصّيف واشترى بدلًا منها هديّةً لأمّه ، خاصّة وأنها لم تذق طعم الهدايا منذ وقت طويل .
وراقته الفكرة وصمّم وبطيب خاطرٍ أن يفاجئ والدته بهدية ، فقام الى صندوقه مرّةً أخرى ليعيد عليه الطّرح والجمع ، ولكن آهٍ لحظِّهِ العاثر ، فها هو ” الشّيطان ” يعود الى البيت ، وها هو صوته النكير يُجلجل في أركان البيت ، لقد عاد ينتزع من المسكينة القروش التي ما زالت بحوزتها ، فهي تعمل وتكدّ في نسج الصّوف لقاء قروش تسدّ بها رمقها ورمق صغيريها ، وكثيرًا ما فعلها وحرم صغيريها من الحليب والخبز ، فكيف به الليلة والقمار على أشدّه ؟! … أيمكن أن يأتيَ الطّفل السّماويّ الى هذه الدنيا ولا يتبارك الزوج والأب إبراهيم ببركة القمار ؟!! جريمة في حقّ التاريخ لن يغفرها العدل له !!! .
ودارت المعركة الكلامية سِجالًا بين الزوج والزوجة ، وعلا الصُّراخ وما انجلت عنه نتيجة، بينما ركن حبيب الى النوم فهو يمتعض من هذه المسرحيات ويتمنّى لو انمحقت .
حقًّا لقد نام إبراهيم والهدية الجميلة التي سيأتي بها غدًا لأُمّه تُدغدغُ خيالَه وتُداعبُ أحلامه … انها ستفرحُ بها كثيرًا وسيمسح من عينيها دمعة حزن.
ودقّت أجراس الصّباح ودقَّ معه قلب الصّغير حبيب دقّات متسارعة وهو يركض نحو صندوقه الخشبيّ بلهفة ….. فألفاه … !!!!!
وبكى بُكاءً ما بكاه في حياته !!!