صورة ميلاديّة
قصّة بقلم : زهير دعيم
تاريخ النشر: 08/12/23 | 18:34 الليلة ليلة عيد …
ففي مثل هذه الليلة العاصفة جاء السيّد في هيئة طفل سماويّ سيملأ قلوب البشَر محبّة وسلامًا .
وفي مثل هذه الليلة الهادرة بشّرت الملائكة بصوتها الرّخيم بسيمفونية : ” المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة ”
وفي مثل هذه الليلة الليلاء، غسلَ المطر أرجل الأرض المُقدّسة كما يغسلها الآن ، وأنا أراقيه من خلال زجاج نافذتي المُطلّة على الشّارع العامّ . أمّا في الداخل فكلّ شيء حولي يشعّ بالدفء والنّور من وهج الجمرات في موقد النّار، الى بسمات أطفالي الثلاثة المُلتفين حول أمّهم وهي تقصّ عليهم حكاية الميلاد ، الى شجرة الميلاد المزركشة والمُلوّنة والجميلة بحيواناتها الملتفة بشكل دائريّ جول الطفل يسوع وكذلك أفكاري.
وأنا احبّ هذه الليلة ؛ أحبّها عاصفة مُتمرّدة شاردة ، وأحبّها رمزًا للتواضع وتحطيمًا للكبرياء والأنانية ، وأحبّها كما هي بردًا وثلجًا وحسابًا للنفس .
أحبّها حُبًّا بأطفالي فهم في شوق اليها ، كيف لا وسيحمل اليهم بابا نويل بعد دقائق هدايا وحلوى الميلاد ، وسيأتي هذا الشّيخ المحبوب ذو اللحية البيضاء حاملًا كيس هداياه على ظهره ، ويدقُّ جرسًا صغيرًا ويرنّم ، فقد جاء هكذا في السنوات الخمس الماضية التي خلت ، وأحبّه الصغار حُبًّا لا يوصف .. صحيح أن الصّغرى خافت منه واختبأت تحت السّرير ، ولكنها اليوم تبتسم كلما تشاهد رسمه .
ولكن آه … ما زلْتُ أذكر حسن الصّغير الذي يسكن مع أمّه الأرملة في الناحية المقابلة لبيتنا ، ما زلت أذكره وهو يصرخُ ويتمرّغ ليلة الميلاد الفائت بعد أن جاء بابا نويل الى حارتنا وتجاوزه وانصرف الى حارة أخرى.
لقد بكى المسكين وأخذ يركض تحت المطر والبرد وهو يصرخ : لماذا ؟ لماذا ؟ وأمّه الارملة الصغيرة تناديه : تعال يا بُني … تعال يا صغيري ، ادخل يا رعاك الله فالبرد القارس يفتّ عظامك .. أدخل أعاهدك على أنّ بابا نويل سيزورك في العام المقبل حاملًا لك أجمل هدية ، صدّقني يا صغيري .
ولكنّ حسن لم يُصدّق ولا يريد أن يُصدّق فهو لا يعرف للظروف معنىً ، انّه يريد كباقي الأطفال هديةً من كيس الشيخ ، يريد وكفى ، أمّا كيف فهو أمر لا يهمّه بشيء.
وبكت المسكينة بكاءً مُرًّا قطّع نياط القلوب ، وحاولت أن تُفهم ولدها أن العيد ليس عيدهم ولكن دون جدوى ، فيظهر ان الطفولة كالعبقرية فوق الحدود .
العاصفة في الخارج تنوء والمطر ينهمر بغزارة ، فمسحْتُ رشح المطر عن زجاج نافذتي ونظرْتُ الى بيت الأرملة الشّابة متسائلًا ماذا عساها تفعل ؟ سؤال دار في رأسي ، .. ماذا ستقول لصغيرها بعد أن يأتيَ بابا نويل ولا يأتيه بهدية ، هل يفهم ما معنى ” مسلم ” وما معنى ” مسيحيّ ” وهو ما زال في الخامسة من عمره؟
يا الهي ما أقساني ، أين عقلي وأين ذاكرتي وحناني ؟ ألَم أُعاهد نفسي في العام المُنصرم على أن أردَّ البسمة في هذه السنة الى شفتي حسن ، يا للخسارة فلم يعد هناك مُتسع من الوقت ، فالشيخ الجليل في هذه السنة يتجوّل في الحارات ومن بيت الى بيت يوزّع الهدايا وهداياه محدودة .
عليَّ أن اتصرّف لكي لا أجعل حارتنا مسرحًا للمأساة مرّة أخرى ، ولو كان ذلك على حساب أحد أولادي ، فماذا يضير الابن الأكبر إن هو لم يستلم هذه السنة الهدية من بابا نويل ويستلمها منّي في الغد ؟!.. لا شيء .. نعم لا شيء ـ بل بالعكس فقد يفرح ، ففي التضحية لَذّة وعليَّ أن أفاتحه السّاعة بما يدور في خلدي وقبل أن يدهمنا الشيخ الجليل ، انّه في طريقه لحارتنا .
وما كاد هذ الهاجس يختمر في خاطري حتى سمعت رنين جرس الشيخ الجليل يطرق آذان الحارة ، فهبّ أفراد عائلتي والحارة جميعًا الى النوافذ والشُّرفات لاستقباله ، فإذا به يدخل أولًا الى بيت الأرملة الصغيرة وسط فرحتي ودهشة الارملة وصغيرها.
وحانت منّي التفاتة الى زوجتي وأولادي فشاهدْت البسمةَ على كلّ وجه واحد منهم الّا الكبير الذي حاول أن يخفي دمعةً ساخنةً سحّت من مقلتيه ، فعانقته بحرارة مُستفسرًا
– ماذا دهاك يا ولدي ؟
– لا شيء يا والدي .. لا شيء .
– والدّموع ؟
– انّها دموع الفرح .
فانفجر الابن الأوسط قائلًا :
لا يا أبي انّه يبكي نقوده التي ضاعت ؛ يبكي نقوده التي وفّرها في الأشهر الثلاثة الماضية ، هكذا أخبرني بالأمس.
فعُدْتُ أنظر الى الابن الكبير والى عينيه الدّامعتين ، فقرأتُ سِر ًّا جعلني أقف إجلالًا أمام محبّة تنمو وتنمو ولا تعرف الحدود .