رفض «حماس» يرفع ثمن صفقة التبادل
د. جمال زحالقة
تاريخ النشر: 22/12/23 | 16:06بعد أسابيع من التمنّع ومن انتظار معلن أن تأتي المبادرة من حماس، عادت إسرائيل إلى السعي للاتفاق على صفقة تبادل أسرى جديدة. وفي لقاء أجراه رئيس الدولة الصهيونية، يتسحاق هرتسوغ، يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع، في «بيت رؤساء إسرائيل» (الواقع بالقرب من منزل عائلة إدوارد سعيد في حي الطالبية في القدس)، خاطب هرتسوغ ممثلي 80 سفارة قائلا: «إسرائيل مستعدة لهدنة إنسانية إضافية للسماح بتحرير مخطوفين. المسؤولية ملقاة بكاملها على سنوار وعلى قيادة حماس».
وبعد أن قام نتنياهو بحظر زيارة رئيس الموساد دافيد بارنيع، إلى قطر للتفاوض بشأن قضية الأسرى، سافر بارنيع مرتين إلى أوروبا بهذا السياق: في المرة الأولى التقى رئيس وزراء قطر محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، وقابله ثانية في العاصمة النرويجية أوسلو في لقاء جمعهما برئيس وكالة المخابرات الأمريكية (سي.آي.إي) وليام بيرنز. ويأتي التحرك الإسرائيلي بعد إعلان حماس أنها لن تقبل بعقد صفقة جديدة قبل وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب. وفي أعقاب مقتل ثلاثة أسرى إسرائيليين بنيران «صديقة» وازدياد ضغط عائلات الأسرى والرأي العام لتقديم مبادرة إسرائيلية وعدم الاكتفاء بالانتظار، تحرّك نتنياهو لامتصاص غضب الشارع وتفادي تهمة المسؤولية عن موت محتمل لأسرى آخرين.
ما تحاول إسرائيل أن تفعله هو التلويح باستعدادها لإطلاق عدد أكبر من الأسرى الفلسطينيين، في محاولة لإغراء حماس بقبول الدخول في التفاوض من جديد
ضغوط متصاعدة
أثارت حادثة قيام وحدة من الجيش الإسرائيلي، يوم الجمعة الماضي، بإطلاق النيران على ثلاثة أسرى وقتلهم بعد أن خرجوا نصف عراة رافعين الراية البيضاء وطلبوا النجدة باللغة العبرية، ردود فعل غاضبة لدى عائلات الأسرى والمحتجزين، واتهمت عائلاتهم القيادة الإسرائيلية بأنها قتلت أبناءها مرتين، عند الاختطاف وعند الاغتيال. وتبين لاحقا أن أحدهم أصيب بجراح واختبأ في بناية قريبة، فطلب منه الجيش بمكبرات الصوت أن يخرج، وعندها أصدر ضابط كبير أمرا بتصويب النار نحوه وقتله. وكتب ناحوم بارنيع، الذي يعتبر أهم الصحافيين في إسرائيل، مقالا في «يديعوت أحرونوت»، وصف فيه ما حدث بأنه ليس إهمالا أو خطأ، بل جريمة حرب بموجب القانون الدولي. هو (وغيره) بالطبع لا يعتبر قتل عشرات آلاف الفلسطينيين جريمة حرب، ولكن ما كتبه هو تعبير عن حالة القلق الشديد على مصير الأسرى، وعن حالة الغضب الشديد أيضا على الحكومة الإسرائيلية، التي يلومها أهالي الأسرى بأنها لا تعمل اللازم لتحريرهم.
تُوجه معظم التهم إلى بنيامين نتنياهو تحديدا، ويذهب بعضهم إلى أن كون الأسرى من سكان الكيبوتسات «اليساريين»، الذين ليسوا من قاعدته الانتخابية، تجعله أقل اهتماما بهم وبمصيرهم. ولكن الضغط على نتنياهو ازداد في الأيام الأخيرة واضطر، الثلاثاء الماضي، إلى لقاء ممثلين لخمس عشرة عائلة، وأصدر بيانا جاء فيه: «رئيس الوزراء وزوجته التقيا عائلات الأسرى وأصغيا جيد لمعاناتها ووجعها.. وأكّد نتنياهو بأنه ملتزم بالعمل على تحرير جميع المخطوفين». وحين سأل ممثل إحدى العائلات، التي لم تشارك في اللقاء، عن كيفية اختيار المشاركين في الجلسة مع نتنياهو، كان الرد «نحن نجمع معلومات باستمرار عن العائلات، ونعرف مواقفها ومع من تلتقي..»، وتفسير ذلك أن نتنياهو طلب اختيار عائلات لا تطرح أسئلة صعبة فاضحة، ولا توجه له التهم، كما حدث سابقا. لقد بدأت عائلات الأسرى تدرك أن استمرار الحرب يعرضهم للخطر، وهي تشكّل اليوم الصوت الوحيد الذي يدعو لوقف الحرب، لإتمام صفقة تبادل بناء على تقييم أن الوقت يسير بسرعة، وأنهم قد يموتون في المعارك، وأن الملح هو تحريرهم، وسيكون لإسرائيل بعد ذلك «الوقت الكافي لحرب ضد حماس».
صفقة جديدة
يقر جميع المتحدثين الإسرائيليين الرسميين وغير الرسميين بأن صفقة ثانية ستكون أمرا أصعب بكثير من الصفقة الأولى، التي يمكن القول بأن صانعي القرار في إسرائيل مهّدوا لها بمناورة خداع كبرى. هم أنفسهم قالوا بصوت خافت، إن الحرب سوف تستأنف بعد نهاية الهدنة، لكنهم يبذلون جهدا لتفنيد ما روّج له صحافيّو البلاط عمدا وبتدبير مسبق بأن هناك «خطرا جدّيا» بأن يجري تمديد الهدنة المؤقتة مرة تلو الأخرى، حتى تتحوّل إلى وقف دائم لإطلاق النار. ومن باب التمنّي، ردد الكثيرون في العالم العربي هذا الكلام، ما أوحى بأن هناك إمكانية وأملا بإنهاء الحرب تبعا لعملية تبادل أسرى بالتقسيط. هذا لن يمر المرّة، فقد أعلنت حركة حماس أنّها لن تقبل بطرح قضية التبادل قبل وقف الحرب نهائيا، لأنها مقتنعة تماما بأن إسرائيل تريد صفقة، وتقبل بهدنة مؤقتة، لتقوم بعدها بمواصلة حربها بظروف أسهل وبهجوم أشرس. والحقيقة أن حماس، حتى الآن، ليست شريكة في المفاوضات الجارية لإتمام صفقة جديدة تشمل هدنة مؤقّتة، وما تحاول إسرائيل أن تفعله هو التلويح باستعدادها لإطلاق عدد أكبر من الأسرى الفلسطينيين وبضمنهم أسرى مؤبّدات من الوزن الثقيل، في محاولة لإغراء حماس بقبول الدخول في التفاوض من جديد. وبين ضغط الشارع الإسرائيلي على القيادة الإسرائيلية لحل قضية الأسرى، وربط حماس هذا الحل بوقف دائم لإطلاق النار، يجد نتنياهو نفسه مضطرا إلى «دفع» ثمن أعلى فأعلى للتوصل لصفقة محدودة ولهدنة مؤقتة. فإن قبلت حماس بمقترحات إسرائيل كان به، وإن لم تقبل يستطيع نتنياهو الخروج للإعلام وتحميل حماس مسؤولية عدم إطلاق سراح الأسرى، بعد أن أبدى هو استعدادا لدفع ثمن باهظ وتحرير من قتلوا إسرائيليين مقابل الأسرى في غزة.
الموقف الإسرائيلي
عرضت إسرائيل في اتصالاتها المكثفة هذا الأسبوع، إطلاق سراح عدد كبير من الأسرى «الثقال»، وهدنة مؤقتة لفترة أطول، وزيادة عدد شاحنات الإغاثة. وذهب الرئيس الإسرائيلي، يتسحاق هرتسوغ، في كلمته أمام السفراء الأجانب، إلى أن الدولة الصهيونية مستعدة لإدخال 350 شاحنة إضافية يوميا مدعيا بأن «هناك عوائق كثيرة أمام تدفق الشاحنات لغزة، وهي تتعلق بالأمم المتحدة وشركاء آخرين. اليوم فقط 100 أو 125 شاحنة فقط تدخل غزة». ويبدو أن نشر التسريبات عن تحرير عدد كبير من الأسرى، وعن هدنة مؤقتة أطول من السابقة، وكذلك تصريحات هرتسوغ زيادة عدد الشاحنات، هو محاولة لتحضير الرأي العام الإسرائيلي لتقبل دفع «ثمن» الصفقة المحتملة. تبدو إسرائيل «مضغوطة» جدا في موضوع صفقة التبادل، ومع ذلك لديها شروط، ومنها: أولا، المفاوضات تدور في ظل القتال، ولا هدنة قبل تحرير رهائن وأسرى، ثانيا، الصفقة تستمر من حيث انتهت، أي تحرير النساء والمرضى والجرحى وكبار السن، ثالثا، التبادل يتم وفق معايير محددة ومتفق عليها لكل فئة، من حيث عدد ونوعية عدد الأسرى، رابعا، الصفقة تشمل الأحياء فقط، خامسا تكون الهدنة مؤقتة ومحددة زمنيا، ولإسرائيل «الحق» بعدها في مواصلة القتال. وإذ تشبه هذه شروط الصفقة الأولى، فإن من المشكوك فيه أن تقبل بها، أو بالتبادل أصلا. وإن حصل تبادل فمن المتوقّع أن يشمل الآلاف من الأسرى الفلسطينيين.
بين قطبين
تتأرجح الدولة الصهيونية بتوجهاتها في قضية الأسرى بين قطبين:
الأول، الخطاب الرسمي التقليدي بأنها لا تترك أسراها، وتعمل المستحيل لإعادتهم ومستعدة لإطلاق سراح عدد كبير من الأسرى في سبيل ذلك. ويستند هذا الخطاب إلى الموروث الديني والثقافي حول فرض ومفهوم «افتداء الأسرى»، الذي كتب عنه كبير فقهاء الدين اليهودي موسى بن ميمون، بأنّه أهم من إطعام الفقير وعلاج المريض وإكساء المحروم. والأهم من الموروث الديني، هو العقيدة الأمنية بأن الجيش الإسرائيلي لا يترك جنديا في الخلف، وبأن على الدولة الصهيونية أن تفعل المستحيل لعدم إبقاء أحد من مواطنيها في الأسر.
الثاني، هو «بروتوكول هانيبال»، الذي ينص على إطلاق النار على مختطفي الأسرى حتى لو أدّى ذلك إلى تعريض حياة الأسرى للخطر. هذا ليس حبرا على ورق، كما تردد بعض النخب الإسرائيلية. فقد نشرت القناة 12 الإسرائيلية، الثلاثاء الماضي، شريطا تظهر فيه بوضوح دبابة وهي تطلق قذائفها على بيت عائلة بيسي كوهين في كيبوتس بئيري، كان فيه محتجزين بيد عناصر من حماس، وجاء ذلك بأمر من ضابط كبير، وقد حدث ذلك الساعة السادسة من مساء السابع من أكتوبر أي 12 ساعة بعد بدء «طوفان الأقصى». وفي 15 مايو عام 1974 اقتحمت قوة إسرائيلية كبيرة مدرسة في بلدة «معلوت»، المحاذية لقرية ترشيحا، احتجزت فيه مجموعة من الجبهة الديمقراطية عشرات طلاب الشبيبة العسكرية «الجدناع»، وطالبت بإطلاق سراح 20 أسيرا. وقد أدى الهجوم إلى مقتل 22 طالبا وجرح العشرات. وكتب حينها إميل حبيبي معلقا بأن إسرائيل، وبعكس الصورة السائدة، لا تقيم وزنا لحياة مدنييها، حين يتناقض الأمر ومفاهيمها الأمنية.
ليس واضحا بعد أي من القطبين سيغلب في النهاية. لكن ما هو مؤكّد حاليا هو أن الدولة الصهيونية ماضية في حربها الإجرامية لتحقيق الهدف السياسي- الأمني بتفكيك حركة حماس والسيطرة على غزة، أمنيا على الأقل، وتضع قضية الأسرى في الدرجة الثانية، مع عدم الاعتراف بذلك رسميا. وعمليا هي ترفض وقف الحرب وعقد صفقة شاملة، وتحاول الوصول إلى اتفاق جزئي. في المقابل، حماس ترفض وتصر على إنهاء الحرب قبل صفقة تبادل. ولكن السؤال: هل ستكون إسرائيل مستعدة لدفع «ثمن» إطلاق آلاف الأسرى وبضمنهم «المؤبّدات» مقابل المحتجزين المدنيين في غزة. هل تستطيع حماس حينها أن تواصل رفضها، خاصة وأنه يبقى عندها عدد كبير من الأسرى الجنود. حاليا، حماس ترفض وإسرائيل تستجدي، وهذا يرفع سقف التبادل عاليا، وعاليا جدّا.
كاتب وباحث فلسطيني