الرَّدَاءَةُ في طَرَفَيْهَا كِتَابَةً وَكَاتِبًا!
بقلم: ادم عربِي
تاريخ النشر: 09/01/24 | 6:21مَقَالَةُ الرَّأْيِ الصَّحَافِيَّةُ بِلسَانِ الضَاد، الَّتِي تَظْهَرُ في جَرِيدَةٍ تَصْدُرُ بِانْتِظَامٍ، تَمُرُّ بِمَرْحَلَةٍ صَعْبَةٍ حَالِيًّا، فَالْعَرْضُ مِنْهَا كَثِيرٌ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهَا قَلِيلٌ، فَتَنْخَفِضُ قِيمَتُهَا الْمَجَازِيَّةُ كَمَا يَحْدُثُ لِأَيِّ سِلْعَةٍ تَتَوَفَّرُ بِكَمِيَّاتٍ كَبِيرَةٍ، وَتَقِلُّ رَغْبَةُ النَّاسِ فِيهَا؛ وَهَذَا مَا يَنْعَكِسُ عَلَى التَّرَاجُعِ الْمُسْتَمِرِّ وَالْمُتَصَاعِدِ في عَدَدِ الْقُرَّاءِ. تَنْطَبِقُ قَاعِدَةُ الْحَاجَةِ عَلَى عَالَمِ مَقَالَةِ الرَّأْيِ، فَالْقَارِئُ يَبْحَثُ عَنْ مَا يُرْضِيهِ في مَقَالَةِ الرَّأْيِ؛ وَلَكِنَّ عِنْدَمَا يَقْرَأُ مَقَالَةَ الرَّأْيِ يَشْعُرُ بِأَنَّ حَاجَتَهُ لَمْ تُلَبَّ، وَلَمْ تُشْبَعْ، وَأَنَّهَا، قَدْ زَادَتْ وَتَعَاظَمَتْ، وَهُوَ كَالْعَطْشَانِ الَّذِي شَرِبَ مِنْ مَاءِ بَحْرٍ ظَنًّا مِنْهُ أَنْ يَرْتَوِي، فَإِذَا بِهِ يَشْتدُّ عَطَشُهُ، وَهِيَ، أَيْ مَقَالَةُ الرَّأْيِ، مِثْلُ سَرَاب صَحْرَاءٍ يَظُنُّهُ الْعَطْشَانُ مَاءً. عَوَامِلٌ كَثِيرَةٌ تَحُولُ دُونَ أَنْ تُرْضِيَ مَقَالَةُ الرَّأْيِ احْتِيَاجَاتَ الْقَارِئِ، أَوْ مُعْظمهِمْ، في مَجَالَاتِ الْفِكْرِ وَالسِّيَاسَةِ وَالثَّقَافَةِ، أَبْرَزُهَا هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، أَوْ مُعْظمَ الْمَقَالَاتِ، تُنْشَأُ وَتُصَاغُ لِتَنَاسَبَ مَصَالِحَ الْقَوِيِّينَ النَّافِذِينَ في عَالَمِ السُّلْطَةِ وَالْمَالِ، أَيْ الْمَصَالِحَ الَّتِي يَكْفِي لِلْكَاتِبِ أَنْ يَسْعَى لِإِرْضَائِهَا لِيَفْشَلَ في إِرْضَاءِ الْمَصَالِحِ الْمُعَاكِسَةِ… مَصَالِحِ الْأَغْلَبِيَّةِ السَّاحِقَةِ مِنَ النَّاسِ وَالْمُوَاطِنِينَ وَالْقُرَّاءِ. لَا أَسْتَغْرِبُ أَوْ أَتَعَجَّبُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَمَقَالَةُ الرَّأْيِ، عَبْرَ تَارِيخِهَا، كَانَتْ مُجَرَّدَ انْحِيَازٍ فِكْرِيٍّ أَوْ سِيَاسِيٍّ أَوْ ثَقَافِيٍّ يدْرِكُهُ الْقَوِيُّونَ الْمُؤَثِّرُونَ في عَالَمِ النُّفُوذِ وَالثَّرْوَةِ وَيَجِدُونَ فيهِ فَائِدَةً وَحَاجَةً لِأَنْفُسِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ الْجَمَاعِيَّةِ الضَّيِّقَةِ، فَيَبذلُونَ جُهُودًا لِإِطْعَامِهِ وَإِمْدَادِهِ بِمَا يَحْتَاجُهُ لِلْبَقَاءِ وَالتَّطَوُّرِ، فَيَتَرَبَّعُ عَلَى الْعَرشِ كَمَا يَتَرَبَّعُونَ. مَا يُثِيرُ اسْتِغْرَابِي وَحيْرَتِي هُوَ الرَّدَاءَةُ، فَأَصْحَابُ الْمَصَالِحِ الْجَمَاعِيَّةِ الضَّيِّقَةِ، وَهُمُ الْأَقوِيَاءُ الْمُؤَثِّرُونَ في عَالَمِ النُّفُوذِ وَالثَّرْوَةِ وَالسُّلطَةِ ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يخلقُوا وَينتجُوا مِنَ الْكُتَّابِ إِلَّا الْكَاتِبَ الرَّدِيءَ ، أَيَّ الْكَاتِبَ الَّذِي وَفِقًا لِلْمَعَايِيرِ الْمِهْنِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ لَا يَصلُحُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَدِيئًا فِي مَقَالَتِهِ ، وَفِي الرَّأْيِ الَّذِي يُدْرِجُهُ فِيهَا ، وَكَأَنَّ الرَّدِيءَ مِنَ الْكُتَّابِ ، وَمِنْ مَقَالَاتِ الرَّأْيِ الَّتِي يُؤَلِّفُونَ وَيَنْشُرُونَ ، هُوَ ضَرُورَةٌ وَمَصْلِحَةٌ وَحَاجَةٌ !
هَؤُلَاءِ لَا يَسِيْرُونَ بِالتَّدْرِيجِ ، وَلَا يَتَقَدَّمُونَ بِالتَّدْرِجِ ، وَلَا يَرْتَقُونَ بِالتَّرَقِّي ، بَلْ يَنْطَلِقُونَ بِالِانْدِفَاعِ ، فَبِمجرَدِ أَنْ يَتَخَطُّوا الصَّفَّيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنَ الْمَرْحَلَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ فِي عَالَمِ الْإِعْلَامِ وَالْأَدَبِ وَالْفَلْسَفَةِ ، يَحْصُلُونَ عَلَى شَهَادَةِ الدُّكْتُورَاهِ ، وَتَتَسَاقَطُ عَلَيهِمُ الْفُرُصُ ، وَتَنْفَتِحُ أَمَامَهُمْ كُلُّ الْأَبْوَابِ الْمُغْلَقَةِ ، وَتَزُولُ مِنْ أَمَامِهِمْ كُلُّ الصّعُوبَاتِ الَّتِي تَحُولُ دُونَ وُصولِهِمْ إِلَى الْمَجْدِ وَالشهْرَةِ ، وَتَصِلُهُمْ هُولِيُوودُ الْإِعْلَامِيَّةُ حَتَّى فِي مَنَازِلِهِمْ ، فَتَتَلَأْلَأُ نُجُومُهُمْ فِي وَضْحِ النَّهَارِ ، وَيَتركُونَ عَالَمَ الْكُهُوفِ وَالْأَكْوَاخِ إِلَى مَا يشْبِهُ الْقُصُورِ ، الَّتِي يَكْتُبُونَ عَلَى وَاجِهَاتِهَا “هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي” ، فَهُمْ مِنْ صَنْعٍ وَخَلْقٍ قَانُونِ “مَلِّكَهُ تَمْلُكَهُ” ؛ وَهَذَا الْقَانُونُ هُوَ فِي جَوْهَرِهِ مُحَاوَلَةٌ ، لَا تَنجَحُ أَبَدًا ، لِإِنْبَاتِ أَجْنِحَةٍ لِلْحَميرِ ، حَتَّى تَطِيرُ !.
يمكِنُكَ الِاطِّلاعَ عَلَى مَقَالَاتِهِمْ، وَسَتَلَاحِظُ كَيْفَ يعكِّسُونَ حَالَاتِهِمْ النَّفْسِيَّةَ المُضْطَرِبَةَ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَروِي، فِي مَقَالَةِ رَأْيٍ، تَجْرِبَتَهُ السِّيَاحِيَّةَ فِي دولَةٍ غَربِيَّةٍ، الَّتِي ذَهَبَ إِلَيْهَا بِنَاءً عَلَى دَعْوَةٍ مِنْ…؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَاوِلُ أَنْ يُقْنِعَكَ بِأَنَّهُ خَبِيرٌ وَمُطَّلِعٌ عَلَى مَا لَا يَعلَمُهُ سِوَاهُ، فَقَدْ كَانَ ضَيْفًا عَلَى وَزِيرٍ، أَوْ أَعَلَى مِنْ وَزِيرٍ، فَشَارَكَهُ سِرًّا مَا، فَأَنْتَجَ لَنَا مَقَالَةً فِيهَا مَعْلُومَاتٍ جَدِيدَةٍ وَجَيِّدَةٍ تُنِيرُ لَنَا الطَّرِيقَ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْعَى، فِي مَقَالَتِهِ، أَنْ يُبَرِّرَ لِلْمُسْتَثْمِرِينَ الَّذِينَ دَعَمُوهُ بِمَالِهِمْ وَوَقْتِهِمْ وَجُهدِهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُخْطِئُوا فِي اخْتِيَارِهِ، فَهُوَ يُدَافِعُ عَنْهُمْ، وَعَنْ مَصَالِحِهِمْ، بِمَا يَجْعَلُهُ أَكْثَرَ بِرَاعَةٍ وَمِهْنِيَّةٍ مِنْ مُحَامِي الشَّيطَانِ!.
هؤُلاءَ مَأْساتُهُمْ أَنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ أَكَاذِيبَهُمُ الَّتِي يَنطِقُونَ بِهَا، بَلْ هُمْ أَكْثَر النَّاسِ اقْتِنَاعًا بِكَذِبٍ مَا يَقُولُونَ وَيَتَحَدَّثُونَ ، وَتَهَافُتُ الرَّأْيِ الَّذِي عَنْهُ يُعبرُونَ، وَبِهَذَا الرَّأْيِ يَصْنَعُونَ الرَّأْيَ العَام، أَيْ يَخلقُونَ رَأْيًا عَامًّا يَتَوَافَقُ مَعَ رَأْيِ أَصْحَابِ الْمَصَالِحِ الضَّيِّقَةِ وَالْخَاصَّةِ.
يُمْكِنُنَا وَصفُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُم مُسْتَغِلُونَ الْفُرَصِ أَوْ اِنْتِهَازِيُّونَ؛ وَلَكِنَّ الْكَاتِبَ لَا يُصَابُ بِدَاءِ الْاِنْتِهَازِيَّةِ فِي عَقْلِهِ، بَلْ فِي قَلَمِهِ وَكَلَامِهِ، وَمَا يَنطِقُ بِهِ مِنْ رَأْيٍ وَحُجَّةٍ، فَالمُستَغِلُ الْأَكْبَرُ يُدْرِكُ تَمَامًا أَنَّ الْأَرْضَ هِيَ الَّتِي تَدُورُ حَوْلَ الشَّمْسِ، وَيَعْتَقِدُ ذَلِكَ بِإِيمَانٍ لَا يَهتَزُّ، وَلَا تُؤَثِّرُ فِيهِ ثَرَوَاتُ قَارُونَ عَلَى قُوَّتِهِ وَثَبَاتِهِ؛ وَلَكِنَّهُ مُجبَرٌ، أَوْ تُجبِرُهُ مَصَالِحُهُ الضَّيقة ، عَلَى أَنْ يَصنَعَ الرَّأْيَ العَام بِمَا يَقُودُ إِلَى إِقْنَاعِ النَّاسِ بِأَنَّ الشَّمسَ هِيَ الَّتِي تَدُورُ حَوْلَ الْأَرضِ!. وَحَتَّى يَتَصَالَحَ هَذَا الْكَاتِبُ الرَّدِيءُ مَعَ نَفْسِهِ لَا بُدَّ مِنْ نَشْرٍ وَإِشَاعَةِ ثَقَافَةٍ يَظْهَرُ فِي مِرْآتِهَا عَلَى أَنَّهُ خَيرُ مَنْ يَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ تُؤْكَلُ الْكَتِفُ ، وَالحنكَةُ وَالْخِبرَةُ، وَالزَّئبِقَةُ، وَالطّموحُ إِلَى العُلَا، فَمَنْ يَتَهَيَّبُ صعُودَ الْجِبَالِ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهرِ بَينَ الْحُفَرِ!.
إِنَّهُ، وَبِفَضلِ تِلْكَ الْمِرآةِ الثَّقَافِيَّةِ الَّتِي تُرِيهِ صُورَتَهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يَرَاهَا، يَرَى الحِكمَةَ وَالْعِبقَرِيَّةَ وَالتَّمَيُّزَ فِي كُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ قَلَمِهِ ، الَّذِي لَيسَ بِمِثْلِ هَذَا القَلَمِ تَعَلَّمَ الْإِنسَانُ مَا لَمْ يَعْلَمْ ، وَمِنْ لِسَانِهِ الَّذِي قَاء إِذَا قَالَ أَوْ تَحَدَّثَ، فَاسْتَبْدَ بِهِ الشُّعُورُ بِالعَظَمَةِ وَلَوْ نَظَرَتِ الدُّنْيَا قَاطِبَةً إِلَيهِ عَلَى أَنَّهُ أَبْلَهٌ!. أَصْبَحَتْ صَحَافَتُنَا مَلِيئَةً بِهِمْ وَبِمَا يَكْتُبُونَهُ مِنْ مَقَالَاتٍ يُسَمُّونَهَا مَقَالَاتُ الرَّأْيِ،حَتَّى أَفْرَغُوهَا، وَفَرغَتْ، مِنَ القُرَّاءِ!.