إسرائيل تجنّد القاضي الليبرالي ليدافع عن جرائمها في لاهاي
د.جمال زحالقة
تاريخ النشر: 11/01/24 | 9:04فاجأ رئيس الوزراء الإسرائيلي الجميع بقراره تعيين القاضي السابق بروفيسور أهرون براك، قاضيا يمثل إسرائيل في محكمة العدل الدولية، التي تنظر هذه الأيام في دعوى جنوب افريقيا بشأن جريمة الإبادة الجماعية في غزّة، وبطلبها المستعجل بإصدار قرار وقائي واحترازي سريع بوقف فوري للحرب. وبموجب النظام الداخلي للمحكمة الدولية، يحق لكل من الدولة المدعية أن تعين قاضيا يمثلها، والحق نفسه محفوظ للدولة المدعى عليها. وبعد إضافة قاضيين يصبح عدد القضاة 17، لهم مكانة متساوية في المحكمة، ويأتي قرار نتنياهو تعبيرا عن خشية إسرائيلية من إصدار قرار قانوني دولي بوقف الحرب، ومن تداعيات ذلك على مواقف الدول، وعلى مجلس الأمن وباقي هيئات الأمم المتحدة، التي تشكّل المحكمة في لاهاي سلطتها القضائية. ويأتي تعيين براك، بعد حملة مسعورة قادها معسكر نتنياهو، الذي سعى إلى «إصلاح جهاز القضاء» ودعا جهارة وبعدائية مصحوبة بالشتائم وبالإهانات إلى محو ميراث أهرون براك القضائي، ونظم عشرات المظاهرات مقابل بيته، بوصفه الممثل الأول والتاريخي للمحكمة العليا «الليبرالية». وما من شك بأن براك هو أقوى ممثل للدولة الصهيونية في ساحة القضاء الدولي، نظرا لقدراته ولخبرته ولسمعته، وحتى لتاريخه الشخصي، التي تسخّر كلها في خدمة الدفاع عن الجريمة وفي محاولة سحق العدالة.
من يريد أن يقوّض أسس الجرائم الإسرائيلية، عليه أن يبدأ بنزع الأقنعة المزيفة التي يرتديها «المعتدلون» الذين يرتكبون الجرائم وعن الليبراليين الذين يدافعون عنها
يدل تعيين أهرون براك للدفاع عن الجرائم الإسرائيلية، على أن أمورا كثيرة تغيّرت في إسرائيل، بما فيها اضمحلال أهمية القضية الساخنة، التي شغلتها قبل السابع من أكتوبر، وهي الصراع على الجهاز القضائي ومكانة المحكمة العليا. وقد شطر هذا الخلاف المجتمع الإسرائيلي إلى معسكرين: الأول، تمثله حكومة نتنياهو ويسعى لإدخال تغييرات جوهرية في جهاز القضاء والمحاكم، وفي مقدمتها المحكمة العليا بادعاء الحد من «فرط الليبرالية»، والثاني يعمل للحفاظ على ما هو قائم من استقلالية للمحكمة ومن فصل بين السلطات ويعد القاضي أهرون براك من أهم رموزه ومفكّريه.
وهنا جاء نتنياهو بخطوة اعتبرها الكثيرون «بارعة وذكية ومُحكمة»، واختار أهرون براك بالذات لإنقاذه وإنقاذ الدولة الصهيونية من ورطتها في ساحة القضاء الدولي. نتنياهو فعل ذلك، ليس من باب تجاوز الخلافات السابقة، بل تقديرا منه لقدرات القاضي العجوز، وردا على من انتقده قائلا بأن براك «استطاع صدّ ادعاءات قاسية ضد إسرائيل في العالم». وقد صفّق المعسكر الإسرائيلي، الذي يصف نفسه بالليبرالي، لهذا التعيين، واحتفى به ورأى فيه تعبيرا قاطعا عن «صدق» ادعاءاته بضرورة حماية المحكمة العليا باعتبارها «الدرع الواقي» لإسرائيل الدولة، ولجنودها ولقياداتها السياسية والأمنية في وجه القضاء الدولي. ولم ينتقد إلا القلائل قبول براك بهذا التعيين، ومنهم من خشي من أن هذا قد يلطّخ تاريخ براك (وكأنّه كان نظيفا)، ومنهم من قالها صراحة بأن «تمثيل إسرائيل في لاهاي يعني الدفاع عن جرائمها». وتساءل بعضهم عن معنى أن تكون عضوا في هيئة قضائية، وتكون ممثلا لطرف المتهم فيها، وكيف أن هذا يؤدّي بالضرورة إلى فقدان النزاهة ومجافاة العدالة والبحث عن طرق وحيل لإنقاذ المتهم من الإدانة.
خلفية التعيين
هناك شبه إجماع في الرأي العام، وفي أوساط النخب في الدولة الصهيونية بأن القاضي السابق أهرون براك هو أقوى ممثل ممكن للدفاع عن حرب إسرائيل على غزة. وعليه حظي التعيين بدعم من اليسار واليمين باعتبار براك أكبر العقول القضائية في إسرائيل. ويعود هذا التعويل على براك إلى ثلاثة أسباب مركزية:
*أولا، أحد الادعاءات الإسرائيلية أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي (وفي محافل أخرى أيضا) هو أن في إسرائيل قضاء مستقل وقوي ونزيه وعادل، وعلى رأسه المحكمة العليا. ويعد براك أهم قضاة الدولة الصهيونية منذ إقامتها، ويعتبر الأب الروحي والفعلي للقضاء الإسرائيلي بصيغته الحالية، ولديه قدرة، لا ينافسه عليها أحد، على تسويق الادعاء بأن جهاز القضاء الإسرائيلي مؤهّل للتحقيق بأي خرق للقانون الدولي. فعلى مرّ عشرات السنين صاغ براك قرارات المحكمة العليا، بادعاء الحفاظ على «مبدأ التوازن» بين «حاجات وضروريات الأمن من جهة، وحقوق الإنسان والقانون الدولي من جهة أخرى»، وعمل بمثابرة وعناد على إنشاء درع واق لحماية إسرائيل وجنودها ونخبها السياسية والأمنية من الملاحقة القضائية الدولية. ويبدو أنّه كان خلف قرار النيابة العامة الإسرائيلية بالتحقيق «في شبهات خرق حقوق المدنيين العزّل، انطلاقا من متطلبات القانون الدولي»، وهو قرار فصّل خصيصا للمحكمة الدولية، لحثها على العدول عن التحقيق في الشأن «الإسرائيلي» بالادعاء أنه لا حاجة لذلك ما دامت إسرائيل تحقق مع نفسها، ومستعدة أن تتخذ «طواعية» إجراءات عقابية ضد المدانين.
*ثانيا، استغلال المكانة الدولية لأهرون براك وعلاقاته المتشعّبة مع النخب القضائية في العالم. وهو فعلا يتمتع بسمعة (لا يستحقها) باعتباره قاضيا ومفكّرا قضائيا يدافع عن حقوق الإنسان، حتى في ظروف معقدة مثل ظروف «الحرب على الإرهاب». وأذكر أنني ألقيت، قبل سنوات، محاضرة في كلية الحقوق في جامعة «ييل»، في الولايات المتحدة، وكانت كل التعليقات على كلامي من باب «لكنّ براك يقول..»، وتحدثوا عنه بوصفه «المرجعية العليا والمعلم الأكبر» في القانون الإنساني. ومن المعروف عن براك أنه كان يكتب قرارته القضائية حارصا على أن تكون موجهة أيضا للمحافل القضائية الدولية. ومن الواضح أنه سيلقى بكل وزنه ورصيده وسمعته لصالح تبرئة المجرم، ومنع إصدار قرار بوقف إطلاق النار وصولا إلى «حماية المدنيين» التي طالما تغنّى بها.
*ثالثا، تحاول إسرائيل أيضا، استغلال تاريخ براك الشخصي، كونه هرب من الملاحقة النازية وهو طفل للادعاء بأنه لا يعقل «اتهام ضحايا النازية بتهمة الإبادة الجماعية». وقد برعت الصهيونية في الاستخدام الأداتي لكارثة «الهولوكوست» الرهيبة لتبرير الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها وترتكبها بحق الشعب الفلسطيني، وحتى في حالة خسارة المحكمة، فإن إسرائيل تعوّل على أن يكون قرار الأقلية، الذي يسطره براك، ركيزة في الرواية التاريخية، القائمة على أن إسرائيل تمثّل ضحايا النازية، وتصارع في الدفاع عنهم وعن ذريتهم، وقد عبّر براك عن موقف كهذا في عدة مناسبات.
من هو براك؟
ما من شك أن براك من حيث القدرات هو «نابغة قضائي»، ولكن هناك مبالغة، غير مبررة وغير مدعومة بالأدلة، في تصويره بأنه مدافع دؤوب عن حقوق الإنسان. فهو من حيث المبدأ صهيوني حتى النخاع ومن أشد المدافعين عن مبدأ الدولة اليهودية، الذي يعتبر الدولة ملكا لليهود وليس لكل مواطنيها، ومنه تشتق كل سياسات التمييز بين المواطنين على أساس القومية والعرق والدين، وإذ أبدى براك عدم رضاه عن سياسة هدم البيوت، إلا أنه امتنع دائما عن إصدار قرار يمنع هدم المنازل. وهو كذلك دعم عمليا ورسميا سياسية الاعتقال الإداري بلا محاكمة وكان ختما مطاطيا للشاباك وصادق على طلباته بشأنها. وكذلك الأمر بالنسبة للمستوطنات فهو لم يقف ضدها ولم يمس شرعيتها «القانونية»، وفردت محكمته العليا مظلتها القانونية فوق هذ المشروع الكولونيالي. وكان براك حذرا في تعامله مع قرار محكمة العدل الدولية، الخاص بعدم شرعية جدار الفصل العنصري، فبعد أن عبر عن «احترامه» للمحكمة وقرارها، أشار إلى أن أمامه معطيات لم تعرض على المحكمة وعلى أساسها رفض إصدار قرار ضد بناء الجدار، ومنحه بذلك شرعية قانونية إسرائيلية.
ينتمي براك إلى ذلك التيار الإسرائيلي، الذي يريد المحافظة على مكانة القضاء الإسرائيلي في وجه اليمين المتطرف، وعلى مكانة وسمعة إسرائيل الدولية، وفي المحصلة وفي الامتحان العملي الصعب والمصيري، هذا تيار لا يقل خطورة عن اليمين العنصري الفاشي، فأنصار القاضي براك من الطيّارين، الذي تظاهروا قبل أشهر دفاعا عن «الديمقراطية» والمحكمة العليا هم أنفسهم الذي يقصفون غزة وقتلوا وجرحوا عشرات الآلاف وهدموا أكثر من نصف المنازل فيها. اليمين المتطرف يصرخ «الموت للعرب»، واليسار «المعتدل» يقتلهم فعلا. كون براك أكثر اعتدالا، يجعله أكثر قدرة في الدفاع عن الجريمة، كل من يريد أن يقوّض الأسس التي تقوم عليها الجرائم الإسرائيلية، عليه أن يبدأ بنزع الأقنعة المزيفة التي يرتديها «المعتدلون» الذين يرتكبون الجرائم وعن الليبراليين الذين يدافعون عنها.
كاتب وباحث فلسطيني