قرصةُ بُرغوث!
بقلم : ادم عربي
تاريخ النشر: 11/01/24 | 19:18١- غُبار!
رفعَ عبدُ التوّابِ يدَهُ، وَحكَّ شَارِبَيهِ. كَانَ يَجلِسُ عَلَى الأَرضِ، وَيَفتحُ بَينَ سَاقَيهِ، وَأَمَامَهُ صُورَةٌ لِمَارلِين مُونرُو شبهَ عَارِيةٍ. وَكَانَ عَبدُ التوّابِ يرخِي مِنْ قُوَّةِ الشَّبقِ عَليهِ حَنَكَهُ، وَيدلي مِثلَ الكَلبِ لِسَانَهُ، وَهُوَ يحنِي رَأسَهُ الضَّخمَ المجزوزَ الشَّعرَ. رَاحَ عَبدُ التوّابِ يلقِي بِنَظَرَاتِهِ السَّقِيمَةِ عَلَى الفَخذَينِ البَيضَاوَينِ، وَتَسرِي فِي عُرُوقِهِ كَهرَبَةٌ لَذِيذَةٌ مِنْ حَرِيرٍ: يُرِيدُ أَنْ يَغرِفَ، أَينَ يَجرِفَ، أَنْ يَذبَحَ عَليهِمَا الأَصابِعَ.
وَعَلَى صَندَلِهِ المُرَقَّعِ كَانَ يَرتَقِي بُرغوثٌ أَشقَرُ، وَصَلَ قِمَّةَ إِبهَامِ القَدَمِ، وَاستَقَرَّ دَاخِلَ شَقٍّ فِيهِ، وَرَاحَ يَعَضُّ الجِلدَ التَعِبَ. كَانَ عَبدُ التوّابِ قَدْ زَحَفَ فِي خَيَالِهِ بِشَفَتَيهِ عَلَى النَّهدَينِ الأَبيَضَينِ، وَذَبَحَهُمَا لَثمًا وَغَرَامًا، وَمَا انفَكَّتْ يَدُهُ تُدَاعبُ الجسدَ عَلَى الوَرَقِ المصقُّولِ إِلَى أَنْ أَصبَحَتِ الكَهرَبَةُ الَّتِي تَسرِي فِي عُروقِهِ مِنَ القُوَّةِ وَالحُبِّ بِحَيثُ أَنَّ جَسَدَهُ كُلَّهُ صَارَ يَضرِبُ، وَيَهتَزُّ. وَكَانَ عَبدُ التوّابِ قَدْ تَرَكَ البَغلَةَ تَدُورُ بِالطَّاحُونِ دُونَ مُرَاقَبَةٍ، فَانتَثَرَ دَقِيقُ القَمحِ عَلَى الأَرضِ، وَصَنَعَ تلَالًا صِغَارًا. وَالبُرغُوثُ لَمْ يَزَلْ يَعَضُّ الجِلدَ التَعِبَ، وَمَارلِين مُونرُو لَمْ تَزَلْ سَاحِرَةً، آمِرَةً، نَاهِيَةً، إِلَهَةً، عَارِيَةً أَوْ شبهَ عَارِيَةً.
فَجأَةً، أَطلَقَ عَبدُ التوابِ صِيحَةَ أَلَمٍ لَاطِمًا قَدَمَهُ، وَلَوَى إِبهامَهُ. وَهُوَ يَخدشُهُ بِأَظفَارِهِ، رَأَى عَلَى قِمَّةِ الإِصبَعِ لَسعَةً مِثلَ رَأسِ الدَّبوسِ، وَفِي كَفِّهِ قَدْ انسَحَقَ جَسَدُ الْبُرغُوثِ الحَقِيرِ. وَعِندَمَا نَظَرَ إِلَى مَا بَينَ سَاقَيهِ مِنْ جَدِيدٍ، وَجَدَ مَارلِين مُونرُو لَمْ تَزَلْ سَاحِرَةً، آمِرَةً، نَاهِيَةً، إِلَهَةً، عَارِيَةً، عَارِيَةً، تَحتَفِظُ بِإِبدَاعِ الْجَسَدِ ذَاتِهِ، وَسُلطَةِ الإِغرَاءِ بَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا، تُدغدِغُهُ فِي العُنُقِ، وَفِي أَعلَى السَّاقِ، وَعَبدُ التوّابِ يَلتَهِمُ بِعَينَيهِ الجَسَدَ بِوَجَعٍ وَجُمُوحٍ.
عِندَمَا عَادَ صَاحِبُ المَطحَنَةِ مِنْ سُوقِ القَريَةِ، لَمْ يَجِد البَغَلَةَ وَلَا عَبدَ التوّابِ. كَانَ دَقِيقُ القَمحِ قَدْ ثَارَ، وَمَلَأَ الأَجوَاءَ بِالغُبارِ.
٢- رَصَاص
بَعدَ يَومَينِ، أَتَى بَعضُ الإِسرَائِيلِيِّينَ مِنَ الجُنُودِ، وَصَادَرُوا مِنْ بَينِ مَا صَادَرُوا البَغَلَةَ، فَأَخَذَ عَبدُ التوّابِ يَتَرَبَّصُ بِهِمْ، كُلَّ لَيلَةٍ، طَوَالَ اللَّيلِ، عَلَى الطَّرِيقِ البرِّيَّةِ، إِلَى أَنْ أَوقَعَ فِي قَبضَتِهِ أَحَدَهُمْ. نَزَعَ سِلَاحَهُ، وَدَفَعَهُ مِنْ أَمَامِهِ إِلَى المَطحَنَةِ، وَجَعَلَهُ يَدُورُ بِالطَّاحُونِ بَدَلَ البَغَلَةِ، وَالقَمحُ ذَهَبٌ يَهدِرُ، وَعَبدُ التوّابِ يُفكِرُ أَنَّهُ بِفِعلَتِهِ هَذِهِ سَيَقضُ مَضَاجِعَ بَاقِي الجُنُودِ وَصَاحِبِ المَطحَنَةِ وَكُلِّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ خُبزًا! صَارَ سَعِيدًا، وَذَهَبَ فِي حُلمِهِ بَعِيدًا، وَقَالَ: فِي اللَّحظَةِ الَّتِي أَشعُرُ فِيهَا بِالخَطَرِ، سَأَستَعمِلُ السِّلَاحَ، وَإِذَا بِدَوِيّ سِلسِلَةٌ مِنَ الطَّلَقَاتِ يَأْتِيهِ، وَصَوتٌ مِنْ مُكَبِّرٍ يُنذِرُهُ بِتَسليمِ نَفسِهِ.
لَمْ يُسَلِّمْ عَبدُ التوَّابِ نَفسَهُ، كَيفَ يُسَلِّمُ نَفسَهُ وَفِي قَبضَتِهِ سِلَاحٌ، وَالقَمحُ يَهدِرُ كَأَنَّهُ القَدَرُ؟ وَلَمْ يَحلمْ أَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ سَيَسمَعُ ذَاتَ يَومٍ غِنَاءً آخرَ غَيرَ غِنَاءِ البُلبُلِ، إِذْ رَاحَ رَصَاصُهُ يُغنِي، وَاشتَعَلَتْ بِالقَمحِ نَارٌ حَمرَاءُ، رَاحَتْ هِيَ الأُخرَى تُغَنِي. قَامَ عَبدُ التوّابِ بِهُجُومٍ مُضَادٍ إِلَى أَنْ استَنفَذَ كُلَّ الرَّصَاصِ، وَعِندَ ذَلِكَ، أَحَبَّتهُ كُلُّ بَنَاتِ القَريَةِ.