هل يُشرق العدل في هاغ أم يَشرق؟
جواد بولس
تاريخ النشر: 12/01/24 | 10:04أثار قرار بنيامين نتنياهو بتعيين رئيس المحكمة العليا الاسرائيلية السابق، أهرون باراك، كقاض يمثل اسرائيل ضمن هيئة محكمة العدل الدولية، ردود فعل متباينة في الرأي العام الاسرائيلي؛ لا سيّما بعد أن كان باراك يعتبر من جانب معظم وزراء حكومة نتنياهو وأبواقهم في الحركات اليمينية الصهيونية المتدينة والقومية المتطرفة، أكبر عدو لهم وأخطر من عمل ضد مصالحهم السياسية من خلال مناصبه الرسمية الكثيرة واهمها رئاسة المحكمة العليا في الفترة الممتدة بين عامي 1995- 2006.
لم يكن القرار متوقعًا؛ وليس أقل منه غرابة كان قبول باراك نفسه لهذا التعيين. واذا ما تخطينا أثر المفاجأة التي أثارها المشهد في بداياته سنجد ،كما اجمع أهل النخبة داخل اسرائيل، من سياسيين وأكاديميين قانونيين وغيرهم، أن قرار نتنياهو يعتبر خطوة ذكية لأبعد الحدود، ليس بسبب ما يحظى به أهرون باراك من مكانة علمية مرموقة في المجتمعات الاكاديمية العالمية والمحافل القضائية الدولية وحسب، بل لأنه، بقبوله هذه المهمة، سيتحمل مسؤولية انقاذ اسرائيل وتبرئتها من تهمة اقترافها جرائم حرب والابادة الجماعية؛ فاذا نجح سيحسب ذلك لصالحه طبعًا. بيد أن لنتنياهو سيكون الفضل الاهم، لإنه ترفّع عن كل الخلافات التي كانت مع وعلى باراك، وقرر اختياره كالرجل المناسب في الدفاع عن اسرائيل، واذا فشل سيكون باراك نفسه المسؤول عن فشله، فنتنياهو اختار الأفضل، لكن “العالم” بقي، كما كان، معاديًا لاسرائيل التي كانت وبقيت ضحية هذا العالم المنحاز ضدها بلاساميته المعهودة.
لا أحد يستطيع التكهن حول قرار المحكمة المتوقع؛ فبعد تقديم جنوب أفريقيا دعوتها ، فهم الاسرائيليون انهم لن يستطيعوا التهرّب من التعاطي مع اجراءاتها، فشرعت الاجهزة القضائية بمناقشة سبل مواجهتها وأوصوا، بعد استعراض عدد من اسماء الشخصيات القضائية الاسرائيلية، بتعيين أهرون باراك بسبب الاحترام العالمي الذي يحظى به وسمعته “كمدافع كبير عن حقوق الانسان”.
لم تكن هجمة رموز حكومة نتنياهو الحالية على اهرون باراك جديدة، فمنذ سنوات ظهر اسمه في طليعة من اعتُبروا اعداء للدولة ولمشروع الاستيطان، حتى ان بعضهم شكك في صهيونيته وطالبوا بحبسه. بعض هؤلاء ما زالوا يعارضون اختياره ولم يتراجعوا حتى بعد ان نشرت حجج من رشحوه لهذه المهمة والتأكيد على كونه احد الناجين من براثن الكارثة وعلى دوره التاريخي في تسويغ استمرار اسرائيل احتلال الاراضي الفلسطينية واسباغ الشرعية على قراراتها وافعالها ضد السكان الفلسطينيين رغم تعارضها مع احكام القوانين والمواثيق الدولية .
لا يوجد متسع في هذه العجالة للكتابة عن دور المحكمة العليا الاسرائيلية في “تبييض” سلطة اسرائيل على الاراضي المحتلة وتمكين حكوماتها من تنفيذ ما يسمى “ضم الاراضي الزاحف”, باعتبارها اراض “مدارة” حينا، او أراض “متنازع عليها” حينًا آخر، او الاكتفاء بوصفها بكلمة ” المنطقة” او اخيرا بتسميتها مناطق “يهودا والسامرة”، واعتبار ما كانت تقرره حكوماتها ويقوم به جيشها من عمليات عدائية ، اعمالا “معقولة” دستوريا وفق معايير “تضارب المصالح” الخاصة بالمواطنين الاسرائيليين ومصالح اسرائيل الامنية وكدولة مسؤولة عن “ادارة” تلك المناطق وحماية مصالح مواطنيها الذين انتقلوا كمستعمرين بتلك المناطق وتحولوا، بعرف قاموس المحكمة العليا، من معتدين، حسب القوانين الدولية، الى مستوطنين فإلى مجرد سكان عاديين أصحاب حقوق ومصالح. ومن دون ان ندخل في جميع التفاصيل ومسؤولية القاضي اهرون باراك ومن سبقه في رئاسة المحكمة العليا ، القاضي مئير شمغار ، على مراحل ترسيخ الاحتلال الاسرائيلي، يمكنني أن أشير الى انجازهما الاكبر في تحييد علاقة القوانين والاعراف الدولية بما مارسته اسرائيل وتمارسه كدولة محتلة واحلال قواعد القضاء الاسرائيلية الادارية، مثل حجة” المعقولية” و”حجة الأمن” “والنسبية”، بين الفعل والضرر المتوقع منه، وغيرها من المعايير المتبعة لقياس قرارات حكومات الاحتلال وممارساته.
لم تغب اهمية دور المحكمة العليا الاسرائيلية حيال ممارسات الاحتلال عن ذهن القاضي باراك ولا عن تأثيرها على حماية اسرائيل أمام المحافل الدولية، وهو لم يجد حرجًا في توضيح هذه المهمة عندما سئل، بعد عامين من خروجه للتقاعد، عن حق المحكمة العليا بمراقبة ونقد جميع قرارت الحكومة ومؤسساتها. فعندما سئل اذا كان موضوع الحصار المفروض على غزة يندرج تحت هذه السلطة ( مقابلة مع الصحفي اريه شبيط في جريدة هآرتس بتاريخ 2008/4/9 ) اجاب: “كل شؤون الضفة وغزة خاضعة لسلطة التقاضي. تستطيع المحكمة مساءلة ونقد الشؤون العسكرية في المناطق. هل يمكن قطع الكهرباء عن غزة، خاضع لمساءلة القضاء. لماذا؟ بسبب وجود قانون دولي. فاذا كانت مسألة قطع الكهرباء عن غزة غير قابلة لمساءلة القضاء عندنا ستكون قابلة للمساءلة في محكمة هاغ . قائد اركان يقرر قطع الكهرباء عن غزة سيحاكم في هاغ ، فهناك تعتبر هذه مخالفة جنائية . ولذلك هذه قضية قابلة للمساءلة عندنا. هكذا في هذه المسألة وهكذا ايضا في مسائل الاستيطان . فاذا اخذت اراض من الفلسطينيين سيكون الامر خاضعاً للمساءلة القضائية هنا. المحكمة لن تقرر كيف يدير الجيش معركته، ولكن اذا وقعت اصابات بين المدنيين على المحكمة ان تقرر اذا كان استعمال السلاح قد تم وفق القانون الدولي الملزم لاسرائيل. الجيش متخصص بالحرب، بينما المحكمة متخصصة بفحص “نسبية” الاصابات الناتجة عن العملية العسكرية مقابل حقوق الانسان. نحن نعيش مع ارهاب مستمر ومع تهديد مستمر وفي وضع قانوني معقد في المناطق؛ ولذلك بنينا ارضية “اكاديمية” تسمح بوجود قدر معقول من حقوق الانسان لوقت طويل وكذلك في حالات الازمات. يمكننا ان نحصل على هذا الانجاز فقط اذا كان لدينا محكمة ناشطة وفقط اذا نجحت المحكمة بالتوصل الى حالة توازن بين مركبي الامن وبين حقوق الانسان ضمن القانون ومن خلال تبني مفهوم يقضي بان المحكمة، وفقط المحكمة، هي التي تقرر ما هو قابل للتقاضي وما ليس كذلك” . هكذا فهم باراك وزملاؤه القضاة دورهم المتواطئ مع الاحتلال وطبقوه على أرض الواقع؛ فهل سيساعده هذا الفهم امام محكمة العدل الدولية؟
حاول القاضي باراك الابتعاد عن الصحافة بعد خروجه للتقاعد، لكنه وافق بعد عام تقريبا من مقابلته المذكورة، على مقابلة الصحفيين، زئيف سيغل واريئيل بن دور ، من جريدة هآرتس بتاريخ 2009/5/27، وادلى أمامهما، بتصريحات من شأنها ان تكشف اكثر عن شخصيته وبماذا تأثر خلال حياته المهنية .ففي احدى اجاباته يصف لقاءً تم بينه وبين الرئيس الامريكي كارتر نقل فيه كارتر لباراك شكوى بلدية بيت لحم من ممارسات الاحتلال وفي معرض اجاباته يصارح الصحفيين ويقول: “كنت افكر لسنين عديدة وما زلت افكر بان هدم البيوت هو امر غير صحيح وليس جيدا . ليس علينا ان نتصرف هكذا. لا يوجد اية فائدة من وراء هذا العمل. ولكنني شعرت كقاض انني لا املك حرية الرأي في هذه المسالة. من الجائز انني كنت على خطأ لكنني شعرت انني لا املك حرية الرأي لاعلن بان السلطة التنفيذية لا تستطيع هدم بيت.. لقد تغيرتُ في هذه المسألة.. ”
لم يكن هذا الاعتراف الوحيد الذي اعرب عنه القاضي باراك في مقابلاته، فمثله اعلن انهم اخطأوا كقضاة عندما اجازوا اعتقال بعض الفلسطينيين اداريا مع علمهم بعدم وجود اي خطر امني منهم، وقرروا ابقاءهم في الاسر فقط لتزويد الطرف الاسرائيلي بورقة ضغط في عمليات تبادل الاسرى. اما عن كونه ناجيا من براثن الكارثة فقال: “لقد أثّرت الكارثة على تفكيري كطفل ابن خمسة اعوام.. كان التأثير باتجاه اهمية اقامة دولة اسرائيل .. من هنا ايضا الاهمية الكبرى لامن اسرائيل وللصهيونية. كل هذه الامور تشكل مركبات اساسية في طريقة تفكيري.”
بعد هذه المقابله باقل من عام التقيت القاضي باراك في جنازة احد زملائنا من المحامين اليهود. كنا ننتظر، انا وهو ومحام عربي صديق، وصول موكب الجنازة ارض المقبرة، فاقتربت منا رئيسة المحكمة العليا حينها، دوريت بينيش وبادرتني معاتبة وشاكية علي بسبب مضمون مقالة كنت قد نشرتها ووجهتها اليها ولقضاة المحكمة العليا، كرسالة مفتوحة، وطالبتهم فيها بالصحوة وحذرتهم قبل ان يصبحوا هم في القريب ضحايا الفاشية المتنامية داخل اسرائيل وفي الاراضي المحتلة. سمعها باراك وقال مبتسمًا: “اسمعي ما قاله جواد، فمن المهم ان نقرأ صورة ما يجري في البلاد. الخطر على الديمقراطية حقيقي”. كان ذلك في مطلع عام 2011 عندما وقف باراك والمحكمة العليا في عين العاصفة وحاول ان يدافع عن سلطة القانون وعن استقلال القضاء وعن مكانة المحكمة العليا وعن الديمقراطية. سمعته وحزنت، فكيف لفقيه مثله ان يعتقد ان اسرائيله تستطيع ان تكون ديمقراطية وهي تزرع القمع في عرى الاحتلال؟ مضت السنون ووقع غير المحسوب في السابع من اكتوبر، وتشقلبت الحسابات وذابت الأمنيات.
ليس من الصعب ان نتكهن ماذا سيكون موقف باراك حيال الدعوى الحالية المرفوعة على دولته؛ فقد وافق على تعيينه كي يدافع عن اسرائيله التي يخشى عليها من الزوال ولا يريد ان يمس مستقبلها بأذى قاتل. لقد وافق على ذلك وهو يعلم ان بعض الاسرائيليين نصحوه بألا يقبل هذه المهمة، او على الاقل ، اذا قبلها، فإنهم يأملون منه ان يوافق في هاغ بداية على وقف الحرب فورا كي يكون بعدها للعدالة حديث وموقف وكي تبقى اسرائيله، كما يريد، بيته وبيت ابنائه الآمن.