الحرية المالية
بقلم الدكتور : محمود عبد العال فراج
تاريخ النشر: 14/01/24 | 14:52في هذا المقال أحاول التطرق والإجابة على بعض التساؤلات التي قد يراها البعض. هي تساؤلات بديهية في حين يراها الآخرون أسئلة شائكة وتحتمل أكثر من إجابة، أول هذه الأسئلة ما معنى الحرية المالية؟ وما الفرق بينها وبين الاستقلال المالي؟ وهل كل فرد منا هو حر ماليًا؟ وكيف يمكن أن يحقق كل واحد منا حريته المالية؟ وهل فكرت لماذا يكون خيار الشباب العربي في البحث عن أماكن للعمل وتفضيلهم دولة الامارات العربية المتحدة ودولة قطر أولًا ثم بقية دول الخليج العربي، ولماذا يلجأ الكثير من الشباب في الدول الفقيرة للبحث عن باب الهجرة للخروج منه حتى وإن حملت تلك الرحلة بين طياتها العديد من المخاطر؟ والإجابة على كل تلك الأسئلة هي البحث عن الحرية المالية، لكن ما هو هذا المفهوم وهل للمال حرية؟ بكل تأكيد نعم فهذا المفهوم يعتبر من أهم المفاهيم التي يداولها العديد من المختصين، وفي هذا المقال أحاول ببساطة أن أفسره وأحلله، ذلك أن مفهوم الحرية المالية يعني الوصول إلى حالة يكون فيها لديك ما يكفي من الموارد المالية لتغطية نفقاتك من دون الحاجة إلى العمل النشط، هذا يشمل توفير الدخل من خلال الاستثمارات، الأصول، أو مصادر الدخل السلبي، بحيث تستطيع أن تعيش حياة ترضيك من دون القلق المستمر بشأن المال.
ولتحقيق ذلك فإن الوصول إلى هذا القدر من الاكتفاء المالي يتطلب البدء في التوفير المبكر واستثمار الأموال بحكمة لتنمو مع مرور الوقت مع إنشاء مصادر متعددة للدخل من ضمنها الدخل السلبي الذي يعرّف على أنه هو الدخل الذي تحصل عليه من مصادر لا تتطلب منك مشاركة نشطة أو مستمرة بعد الإعداد الأولي ومن أمثلته الإيرادات من العقارات المؤجرة، الأرباح من الاستثمارات، العوائد من حقوق الملكية الفكرية مثل الكتب أو البرامج، والأرباح من الأعمال التجارية التي لا تتطلب مشاركة يومية هذا النوع من الدخل يمكن أن يكون مفتاحًا لتحقيق الحرية المالية، إلا أن ذلك لا يكفي فعليك أيضا تعلم كيف تدير هذه الأموال وغيرها بفعالية من خلال التخطيط المالي السليم ووضع تقديرات موازنة لكل فترة مالية، أضف إلى ذلك العمل على تقليل الديون إلى الحد الأدنى من خلال السداد في الوقت المطلوب وتجنب الديون غير الضرورية، وذلك يتطلب ضرورة تحسين المعرفة المالية للأفراد حتى يتمكنوا من اتخاذ قرارات استثمارية ومالية أفضل مما يحقق لهم زيادة في دخلهم المتحقق، وذلك من خلال التطوير المهني أو ممارسة أعمال جانبية يستطيعون تنفيذها من خلال تعلمهم واكتسابهم مهارات جديدة نوعية، وذلك يتطلب وقتًا وصبرًا، فضلًا عن أنها تحتاج لمراقبة وضبط الإنفاق والاستثمار، إلا أن تنفيذ كل هذه المتطلبات يصطدم بمجموعة من المعوقات والتحديات يأتي في مقدمتها حجم الديون الكبير الذي لا يمكن السيطرة والتحكم فيه، وبخاصة تلك الديون التي تحمل في طياتها فوائد عالية مركبة كبطاقات الائتمان والقروض المصرفية ذات الفائدة المركبة، أضف إلى ذلك أن قلة الوعي المالي قد يساهم في عدم فهم وإدراك الفرد طبيعة الموقف المالي الذي يعيشه ، ما يدفعه إلى اتخاذ قرارات مالية واستثمارية غير صائبة، ما يفاقم تأزم الوضع المالي، ويضع الميل للاستهلاك في مقدمة الألويات بدلاً من الميل للادخار أو الاستثمار ، كما أن عدم وجود خطة وموازنة مالية قد يساهم في عرقلة القدرة على التوفير أو الاستثمار، ويتمثل ذلك في عدم وجود أهداف مالية واضحة ما يكون مؤداه الفشل في تحقيق الاكتفاء المالي، ناهيك عن تحقيق الحرية المالية، وكل تلك العوامل قد تكون معوقات أو تحديات مقترنة بشخص الإنسان إلا أنه توجد عوائق خارجية قد تحد من قدرة الفرد على تحقيق ذلك الهدف، ومن أهم تلك المعوقات التقلبات في الاقتصاد والأسواق المالية التي يمكن أن تؤثر في قرارات الاستثمار والادخار، كما أن الأحداث الحياتية غير المتوقعة مثل فقدان الوظيفة او الدخل الثابت المنخفض، نظراً لوفرة الأيدي العاملة في سوق العمل للتخصص المطلوب، إضافة إلى الأمراض، أو الأزمات الشخصية يمكن أن تؤثر في القدرة المالية ، وإن التغلب على هذه المعوقات يتطلب تخطيطًا ماليًا دقيقًا، ووضع أهداف واقعية، وتطوير مهارات في الإدارة المالية ومحاولة وجود مرونة في الخطة المالية لتتماشى مع المتغيرات الخارجية التي قد تؤثر بشكل او بآخر في الأهداف الموضوعة .
تقارير حديثة تشير إلى أن سويسرا ولوكسمبورغ وهونغ كونغ تحتل المراكز العليا في تحقيق حرية مالية عالية للأفراد، حيث يتأثر ذلك بعوامل مثل نظام الضرائب، والأنظمة المالية، وحرية الأعمال في تلك البلدان وتأتي دولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر في طليعة الدول العربية التي تحقق مستويات مرتفعة من حرية المال للأفراد، وذلك بفضل نظم الضرائب الميسرة والبنية التحتية المالية القوية والبيئة الاقتصادية المشجعة.
إذن ماذا عن نظرة الدين الإسلامي لهذا الموضوع ؟ عادة ما يُنظر إلى الحرية المالية على أنها حالة يستطيع فيها الفرد تلبية احتياجاته المالية من دون التعرض للإجحاف أو الاعتماد على الآخرين، مع الأخذ بعين الاعتبار جوانب منها الكسب الحلال من خلال وسائل مشروعة وعدم ممارسة أعمال يكتنفها الغش أو تتضمن كسبًا غير حلال كالربا والغش والمقامرة، كذلك يعزز الدين الإسلامي مفهوم تحقيق التوازن بين الاهتمامات الدنيوية والالتزامات الدينية، وتجنب الإسراف والتبذير ويشجع على التخطيط السليم للأمور المالية والادخار للضرورات والأهداف المستقبلية ، كما يُعطي الإسلام مفهوم التكافل الاجتماعي أهمية كبيرة، حيث يدعم الأفراد بعضهم بعضًا في الأوقات الصعبة، ويُشجع الإسلام على تجنب الديون إلا في حالات الضرورة والتأكيد على سدادها في أقرب وقت ممكن، وتعتبر الحرية المالية وسيلة لتحقيق حياة كريمة ومستقرة، وليست غاية في حد ذاتها، حيث يتم التركيز على الاعتدال والمسؤولية الاجتماعية من خلال ما تم سرده إضافة إلى تشجيعه الزكاة كحق للفقراء في أموال الأغنياء، ويشجع على الصدقة كوسيلة لتطهير النفس والمال، فإن تمت تلك الأمور بالشكل الذي خطط له وأشير إليه، فالنتيجة الحتمية هي وجود توازن مالي بين أفراد المجتمع كافة وعلى صعيد الأفراد فيكونون أقرب إلى تحقيق هدف الحرية المالية ، إلا أن ذلك يتطلب وجود وعي مالي كافٍ لجميع أفراد المجتمع من خلال أساسيات كالميزانية والادخار والاستثمار والنظام الضريبي والتخطيط المالي ، ما يمكِّن الفرد من اتخاذ قرارات مالية صائبة من خلال استخدام الأدوات المالية المناسبة لكل حال وزمان، والتي من خلالها إدارة شؤونه المالية بشكل عقلاني ورشيد، وفهم كيفية إدارة الديون بشكل فعال، وتجنب الديون غير المستدامة و الإعداد للتقاعد، التأمين، والطوارئ المالية وفهم المخاطر المرتبطة بالاستثمارات المختلفة وكيفية التحكم بها ، فزيادة الوعي المالي كفيلة بالمساعدة في تحقيق الاستقرار المالي وتجنب الأخطاء المالية الشائعة ، لذلك نجد أن أكثر الفئات التي تستطيع الوصول إلى ذلك الهدف هم المستثمرون الذين يستثمرون بناء على وعي ودراية، ويمتلكون الخبرات والأدوات التي تمكنهم من الاستثمار في القطاعات الاقتصادية والمالية المناسبة في ظل الظروف الطبيعية ، وهنا يجب أن نشير إلى أن الأزمات الاقتصادية والظروف الطارئة التي تحيط باقتصاد دولة ما أو بقرار استثماري قد لا تؤدي إلى النتائج المرجوة بالرغم من امتلاك المستثمرين الأدوات الصحيحة واتخاذهم القرارات المالية الصائبة كما أن المهنيين ذوي الدخل العالي مثل الأطباء والمحامين والمتخصصين في الاستشارات المالية، قد يكونون أكثر قدرة من غيرهم في الوصول إلى الهدف المنشود مقارنة بغيرهم الشرائح المهنية المختلفة، كما أن المبدعين والمؤلفين الذين يخلقون أعمالًا فكرية تدر عليهم دخلًا سلبيًا، مثل الكتاب، الموسيقيين، والفنانين إضافة إلى شريحة رواد الأعمال وهم الأشخاص الذين يبدؤون ويديرون أعمالهم الخاصة وينجحون فيها ، لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن لمدى الزمني لتحقيق الحرية المالية يختلف بشكل كبير من شخص لآخر، ومن مجتمع لآخر ويعتمد على عوامل منها البداية المبكرة في الادخار والاستثمار والتخطيط المالي، كما يعتمد أيضاً على معدل مستوٍ ومعدل الدخل، فكلما كان الدخل عالياً كان الميل للادخار والاستثمار عالياً ما يؤدي إلى تكون الفترة المطلوبة لتحقيق هدف الحرية المالية قصيرةً، مقارنة بالشرائح الأخرى التي تتقاضى دخلاً أقل مما يجعل ميلهم للاستهلاك في أساسيات الحياة هو هدفهم الأول ، كما أن الوعي والتعليم المستثمر ومواكبة التحديثات المستمرة كفيل بزيادة مقدرة الفرد في اتخاذ قرار مالي سليم مقارنة بغيره، وهذا يتطلب نوعًا من الصبر والانضباط المالي، الذي يمكن الفرد من الإنفاق بشكل ذكي وحصيف وتجنب الإسراف والاستهلاك غير المدروس وتجنب الديون غير الضرورية أو ذات الفائدة العالية، ويمكنه من إنشاء من مصادر متعددة إضافية بما في ذلك الدخل السلبي الذي أشرنا إليه في افتتاحية هذا المقال ، كما أن الوعي المالي الكافي يمكِّن الفرد من وضع خطط للطوارئ المالية والتأمين للحماية من المخاطر غير المتوقعة ، لكن لا يمكن أن نغفل في هذا الصدد دور الحكومات في تسهيل وصول الفراد إلى هذا الهدف.
الحكومات تلعب دورًا مهمًا في تمكين الأفراد من تحقيق الحرية المالية من خلال توفير برامج تعليمية لزيادة الوعي المالي بين المواطنين، وتطبيق سياسات تعزز النمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل ووضع نظام ضريبي عادل يدعم المدخرين والمستثمرين، وتقديم الدعم للمشاريع الجديدة والمبتكرة و توفير شبكات الأمان الاجتماعي للحماية في حالات الأزمات، كل تلك الإجراءات تساعد في خلق بيئة داعمة لتحقيق الاستقرار والحرية المالية.