عندما خسرت القدس “شرقها”
جواد بولس
تاريخ النشر: 16/02/24 | 11:31 أصدرت سلطات الاحتلال الاسرائيلي في السادس من شهر آب/ أغسطس عام 2001 أمرًا بإغلاق عدد من المؤسسات والجمعيات الفلسطينية التي كانت تعمل في القدس وتخدم القضية الفلسطينية والمجتمع المقدسي في ميادين مختلفة. ولئن اعتبرنا أن “بيت الشرق” كان أهم هذه المؤسسات التي استهدفتها أوامر الإغلاق الاسرائيلية، فستبقى خطورة القرار الاسرائيلي متجسّدة باستهدافه جميع بنى المجتمع المدني المقدسي ومحركاته، الاجتماعية والسياسية، ذات الهوية الفلسطينية المستقلة عن “سرة” مؤسسات الاحتلال، الوزارية والبلدية، وتأثيرها المباشر. فإلى جانب أمر اغلاق “بيت الشرق”، صدرت أوامر بإغلاق عدد من المؤسسات التي كانت تقدّم الخدمات في ميادين الثقافة والعمران والصحة والسياحة والتربية والتعليم والشباب والرياضة، وكذلك ضد الجمعيات التي كانت تعنى بالدراسات الفلسطينية والتأريخ والتوثيق والإحصاء وجغرافيا المدينة والوطن. لم يكن القرار الاسرائيلي مجرد تعبير عن نزق احتلالي عابر أو مجرد تجسيد نمطي للشر المطبوع في جينات الاحتلال، أو مجرد خطوة قمعية انتقامية أخرى بحق المدينة وأهلها؛ فقرار حكومة اسرائيل كان يعكس عمق التغيير الذي طرأ على رؤيتها حيال سبل حل النزاع مع الفلسطينيين بشكل عام وحيال موقفها إزاء مصير القدس ومصير مجتمعها الفلسطيني، بشكل خاص.
لقد نجحت اسرائيل بتنفيذ قرارها بسهولة نسبية؛ إذ لم تجد من يقاومه أو يتحدّاه لا محليّا ولا فلسطينيًا ولا عربيا ولا إسلاميا ولا عالميا. لقد مهّد نجاحها في إغلاق تلك المؤسسات الى ولادة واقع اجتماعي وسياسي جديد في المدينة، وظّفه قادة التيارات الصهيونية اليمينية القومية المتطرفة والدينية المتزمتة في خدمة مشروعهم لبناء اسرائيلهم الجديدة حيث القدس قلبها، وهيكلها سدرة المنتهى.
تذكّرت هذه التفاصيل عندما دعتني احدى مؤسسات البحث والدراسات الاسرائيلية القائمة في القدس الغربية للقاء مجموعة من الشباب الفلسطيني المقدسي الذين انضموا الى مشروع ترعاه تلك المؤسسة، وتهدف من ورائه صقل وبناء شخصية القائد الفلسطيني الجديد. أراد المنظمون أن أحدّث المشاركات والمشاركين، وجميعهم شباب في مقتبل العمر، عن تجربتي في القدس، القدس التي جئتها طالبًا جامعيا قبل خمسين عامًا ثم عملت فيها محاميا لأكثر من أربعة عقود، وقدس هذه الأيام.
قبل اللقاء بأيام كان قد توفي صديقي توفيق أبو رحمة؛ وهو فلسطيني من مدينة شفاعمرو جاء الى القدس في مطلع سبعينيات القرن وشارك مع عدد من الشبان الجليليين في تأسيس “مكتب صلاح الدين” للنشر. سألت الحضور إن كانوا قد سمعوا أو قرأوا عن هذه المؤسسة وعن مؤسسيها، وأشهرهم الصحفي والكاتب الياس نصرالله الذي أصدر قبل بضعة أعوام كتابا اسماه “شهادات على القرن الفلسطيني الاول” وضمّنه فصولا عن القدس التي عاش فيها اباء وأجداد المشاركين أمامي. كان واضحًا أنهم لا يعرفون كثيرًا عن تلك القدس ولم يسمعوا “بمكتب صلاح الدين” الذي شكّل نشاطه حينها مشهدًا لافتًا في الحياة الثقافية والسياسية قي القدس، وتحوّل الى عنوان لطباعة ونشر الأدبيات اليسارية التقدمية المحلية والعربية التي كانت طباعتها محظورة في تلك الاوقات؛ والى ملتقى يلمّ وجوهًا من انحاء فلسطين المناضلة ذلك الحين. طرحت أمامهم مجموعة من أسماء أعلام المدينة وقيادات فلسطينية محلية وعناوين لفصول ومحطات في مسيرة نضال أهل المدينة وأسماء أسرى عذبتهم اسرائيل في سجونها، فتبين انهم يجهلون معظم من وما ذكرت، وانهم في الواقع لا يعرفون كيف حافظ ونجح مجتمعها، قيادات وناساً، بإبقاء شرقها مدينة “فلسطينية الوشم” والهم والصقل. لقد كان اكبرهم أصغر من عمر أوامر اعدام مؤسسات المدينة التي صدرت أول مرة في آب/اغسطس لمدة ستة أشهر ثم جددتها إسرائيل منذ شباط /فبراير عام 2002 جرعة وراء جرعة طيلة ثلاثة وعشرين عامًا والمدينة تمارس غفوتها الطويلة.
اخترت، والحال كما وصفت، أن أبدأ معهم بقصتي مع القدس التي بنت، مع عاشقها الابدي فيصل الحسيني “بيت الشرق” وانبتت قيادات صانوا شرف المدينة؛ فكل شيء في تلك القدس كان فلسطينيا كما كنا نشتهي ونريد. كانت روائح أسواقها تتبدل من احلى الى احلى؛ بيد أنها كانت تحافظ في كل حالاتها على أصالتها وعنفوانها. كان كل شيء فيها بسيطًا كالصبح، وكانت وجوه تجّارها باسمة وسمراءَ كالأرض. جرَحها خنجر الاحتلال وأدماها، لكنها لم تسقط تماما، بل وقفت كفرس الأساطير؛ حتى اذا ما وضعْت سبّابتك على رسغها، كنت تشعر بنبض السماء وتعرف انها كالأم ستحمي أبناءها دومًا وسترضعهم الحب والكرامة. كانت قدسًا ومعبدًا للعشاق وللثوار وللزاهدين، وكانت تتراكض تحت قناطر حاراتها الظلال حتى تصير تناهيد وياسمينا، ويأوي اليمام تحت قبابها كيما ينام. كانت المدينة تكره الغاصبين والمارقين والدجالين، أغرابًا كانوا ام من بنيها، وكانت تحبّ “مسيحها” وتغتسل بنور هلالها. كان “المقدسي” صاحبَ هوية وانتماء، وعطرًا يمسد جبينها ويسقي حجارة أسوارها. كانت المدينة الوجع والفرح، وكانت الخيمة وكان في وسطها عماد من صخر لا يفل. قامت اسرائيل مباشرة بعد احتلالها بضمها؛ وخططت لكسرها ولتهجير اهلها؛ فقمعت واغوت وباعت ونفت واشترت وصادرت وانتهكت وابعدت وهدمت واعتقلت.. لكن المدينة لم تستسلم؛ لأن أهلها قد نذروا أن تبقى مدينتهم تاجًا فلسطينيا على رأس التاريخ وعروسا تراقص الفجر على صهيل “براقها” وتتعطر بدماء من سار على دروب آمالها وآلامها.
حاصرت اسرائيل القدس وأحاطتها بالحواجز العسكرية من جميع جهات الريح. كان هدف حصارها ابعادها عن عمقها الفلسطيني وقطع تواصل الفلسطينيين الذين كانوا يؤمّونها عاصمة لأمانيهم وعنوانًا لحجيجهم السياسي والديني. لم تغِب مآرب حكومات اسرائيل الخبيثة عن ذهن قيادات المدينة، فقاموا، وعلى رأسهم فيصل الحسيني، ببناء وبتفعيل منظومة كاملة من المؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية والسياسية والقانونية، ووضعوا جميع طاقاتها في خدمة المجتمع المقدسي هادفين الى توطيد معالم الهوية الجمعية المقدسية الفلسطينية والى تعزيز اللحمة ومشاعر الانتماء ومقومات البقاء. كان “بيت الشرق” عنوان الصمود والبناء ومقاومة سياسات الاحتلال الاسرائيلي، وتحول، بإصرار وحنكة وحكمة فيصل الحسيني وبدعم القيادة الفلسطينية وبتلاحم واسناد اهل المدينة وقيادات جميع الشرائح والنخب الوطنية، الى رمز وطني معنوي أقرّت به معظم دول العالم، والى عنوان سياسي كبير ومؤثر، والى قلعة يجد المواطن الفلسطيني بين جدرانها أمنه ويجدّد لها عهده ويفديها اذا ما استدعت الحاجة الى ذلك، كما حصل فعلا عندما حاولت حكومة بنيامين نتنياهو عام 1999 اغلاق “بيت الشرق”، فهبّ أهل القدس وتمترسوا مع قائدهم داخل القلعة وحموها بأجسادهم وبعزائمهم حتى اجبروا الاسرائيلي ان يتراجع عن قراره.
كانت تلك القدس الصابرة المتكاتفة الهاجسة المتألمة الحالمة النظيفة الجميلة الغزالة النمرة العروس والمقاومة. كانت.. لكنها لم تعد؛ فالقدس ابنة العقد الثالث بعد زمن فيصل ورفاقه صارت تفتش عن قبة تربي تحتها حلمًا عساه يفيق، ذات يوم، ويصير أملا. في القدس الجديدة صارت الاسواق تبكي أهلها وتهرب الحجارة من غزاتها؛ وفي القدس الضعيفة صار المقدسي المستعدّ “تحفة” قد نجدها تحت قنطرة خائفة وحزينة. وفي القدس المهزومة صار بخور الكنائس، بعد أن حوّلها بعضهم من “بيوت للرب الى مغائر لصوص”، يحرق في طقوس الباعة والسماسرة والصرافين الذين يملؤون الهياكل والمنابر، وفي القدس التائهة والخائفة صار الدجالون يوقعون صكوك الغفران ويمسكون الرايات ويعلقون نياشين الشرف على صدور (الاسخريوطيين) على صنوفهم.
لقد رحل فيصل الحسيني في آخر شهر مايو/أيار عام 2001؛ وبعد أقل من سبعين يومًا انقضّت حكومة اسرائيل وأذرعها على “بيت الشرق” وعلى معظم المؤسسات والجمعيات الفلسطينية في القدس واغلقتها، ثم مضت تنفّذ سياساتها المبرمجة حيال المدينة ومواطنيها. بدأوا فكثفوا زحفهم الاستيطاني وبتقطيع ما تبقى من مدينة عن طريق بناء شبكة شوارع تخدم المستوطنات التي زرعوها في قلبها وعلى جميع أطرافها. جرى ذلك وقد قررت إسرائيل، بعد هدم المؤسسات واتساع فوهة الفراغ القيادي واختمار عوامل اخرى، “ابتلاع” المجتمع المقدسي وافتراس أفراده. نجحت إسرائيل بتنفيذ مخططها وسجلت تقدمًا على معظم جبهات المدينة فسقطت المفاصل، وسطت اسرائيل بالكامل تقريبا على قطاعات الصحة والتعليم والسياحة والخدمات والرفاه والبناء، حتى بات المواطن المقدسي عاريا لا سقف وطني يحميه، ومهزومًا أمام منن الاحتلال وبراثن مؤسساته.
هكذا وصلنا الى القدس الملتبسة، التي خسرت “شرقها” وخواصرها، وخلّت شبابها “يحجّون”، بشكل عادي وطبيعي، الى “غَربها” كي يتعلموا الرماية في الجامعات العبرية، وفنون القيادة في معاهد الدولة المحتلة، ويعودون الى مجتمع ما زال يغط في غفوته ولا يعنيه كيف رحل الشرق عن مدينتهم وتاه شبابها.
حدثتهم لأكثر من ساعتين، فاستزادوا. كانوا حزينين ومتحفزين؛ والخلاصة أنهم استوعبوا ان قصة سقوط “البيت” تختزل كل الحكاية، وانه عندما يموت” الفارس العاشق” سيقصّ الغريب ضفائر عروسته، وعندما يغفو الناطور ستسقط القلعة.