من تراتيل آذار ، نار الحرية خالدة
جواد بولس
تاريخ النشر: 08/03/24 | 19:38يحلّ آذار/ مارس هذا العام ونساء فلسطين ما زلن يعشن في عالمهن الملتبس، رموزًا للبطولة وللعفة اللتين تستعيدان تاءيهما الانثوية حتى يصير الوطن أنثى: أمًا أو اختًا أو زوجة أو شهيدة، أو حبيبة في الاحلام او ذبيحة على “موائد شرف” القبيلة.
قد يكون آذار/مارس أجمل الشهور في فلسطين، ففيه تطلق الأرض جدائلها، وعلى صدورها ينهد اللوز ويسبح في عيونها القمر. وفيه تستعيد فلسطين سفر تكوينها: جبالًا حبلى بالغضب وبالنرجس وبالأمل، ونساء يغزلن على زنودهن أحلامهن ومن خواصرهن يندلق الصبح احمر كالوجع. هكذا كان منذ أن انزلت السماء سورة المطر، وهكذا كان يجب أن يكون لولا مشاهد أنهر الدم المتدفق وتبعثر الاشلاء في شوارع غزة، ولولا سهر الامهات في الضفة الغربية ليطردن شوائب الخوف عن عيون اطفالهن وينتظرن عودة الرجال من عالم مجهول تسكنه العتمة والموت.
تخطف الحرب على غزة ومشاهد ضحاياها أنظار العالم فتحظى بدهشة البعض وبصمت الكثيرين. وفي خضم هذا المشهد العبثي الدامي لا يسمع الناس عما يمارسه الاحتلال مع الفلسطينيين الذين لا يقتلون، لا سيما من يسجنون أو يؤخذون رهائن. واليوم ونحن في حضرة نساء فلسطين أذكر بأن عدد الاسيرات القابعات في سجن “الدامون” القريب من مدينة حيفا بلغ ستين أسيرة معظمهن من سكان الضفة الغربية، علمًا بأنه لا يتوفر لدى المنظمات الحقوقية الفلسطينية المتخصصة في متابعة شؤون الاسرى الفلسطينيين أية معلومات عن أسيرات غزة بسبب التعتيم الاسرائيلي التام على قضية اسرى غزة وبضمنهم الاسيرات. يبلغ عدد الاسيرات الاداريات 12 اسيرة، بينما هنالك 22 أسيرة أم وأسيرتان قاصرتان. ووفقًا لعدد من التقارير التي وردت حول وضع الاسيرات، اكدت كلها على قساوة الظروف التي تحتجز فيها الاسيرات، وانهن تعرضن لحملات من التنكيل والتعذيب ولعمليات تفتيش مذلة تمت وبعضهن عاريات وبمرافقة تلفظات، وتهديدات بالاعتداءات الجنسية. وجاء في التقارير ان بعض الاسيرات ما زلن يلبسن نفس اللباس منذ يوم اعتقالهن الاول علمًا بأنه مر على بعضهن اكثر من شهر. وقد شكت بعض الاسيرات من مشاكل صحية ولكن ادارة السجن ترفض نقلهن الى المستشفيات حتى ان على بعضهن بدأت تظهر اعراض لأمراض نفسية. ومن المعلومات التي وردت على لسان الاسيرات يتضح انهن يعانين من البرد القارس والاكتظاظ وسوء التغذية والتجويع وسياسة القمع اليومي .
ومن اللافت ان مكتب المفوض العام لحقوق الانسان لدى منظمة الامم المتحدة نوّه في بيان صحفي صادر في التاسع عشر من فبراير/شباط المنصرم الى تقرير خاص اعدته مجموعة من الخبيرات الامميات المتخصصات في اجراء عمليات تقصي الحقائق ضمن ما يسمى “مجلس حقوق الانسان” وضمنوه شرحًا وافيًا حول الاعتداءات الاسرائيلية على النساء والبنات الفلسطينيات أعربن فيه عن قلقهن بشأن ادعاءات ذات مصداقية حول انتهاكات صارخة ومتواصلة لحقوق الانسان والتي تعرضت لها نساء وفتيات فلسطينيات في قطاع غزة والضفة الغربية. وجاء في التقرير ان نساء وفتيات فلسطينيات تعرضن لعمليات اعدام تعسفي-غالبًا مع افراد اسرهن بمن فيهم الاطفال. لقد عبرت معدات التقرير عن صدمتهن من تقارير رصدت الاستهداف المتعمد والقتل خارج نطاق القضاء لنساء واطفال فلسطينيين في اماكن لجأوا اليها طلبًا للأمان او اثناء فرارهم. ووفق التقارير اكدت الخبيرات ان بعض النساء كن يحملن قطعًا من القماش الابيض عندما قتلهم الجيش الاسرائيلي او القوات التابعة له. كما أعربن عن القلق البالغ من الاحتجاز التعسفي لمئات الفلسطينيات وتعرض الكثيرات وفق التقارير، لمعاملة غير انسانية ومهينة وللضرب وحرمن من الحصول على الفوط الصحية الضرورية اثناء الدورة الشهرية ومن الغذاء والدواء. وابدت معدات الوثيقة الأسى بشأن تقارير افادت بتعرض فلسطينيات في الاحتجاز لأشكال متعددة من الاعتداءات الجنسية مثل تعريتهن وتفتيشهن من قبل جنود ذكور في الجيش الاسرائيلي، كما ويدعى أن فلسطينيتين على الاقل اغتصبتا، فيما هددت اخريات بالاغتصاب والعنف الجنسي.
لن أرهق القراء بتفاصيل موجعة جاءت في التقرير المذكور فوفقًا لما قرأناه ووفقًا لما تم رصده في التقارير التي اعدتها المؤسسات الفلسطينية بناء على شهادات الاسرى والاسيرات، يمكننا الجزم بأن الأسيرات الفلسطينيات يعانين في السجون الاسرائيلية مثل ما يعانيه الاسرى أو حتى أكثر منهم في بعض الجوانب والتفاصيل.
كنت اتمنى لو أستطيع ان أُعرّف، في هذه العجالة، بحالة كل أسيرة وأسيرة سواء القابعات حاليا في العتمة أو من أوفين ديونهن وخرجن، حرائر، الى سجونهن الكبيرة، في فلسطين المحتلة؛ فقصة كل واحدة منهن يجب أن تحكى لأمة العرب وللمسلمين وللتاريخ. ولكن، ليس في وسعي أن أفعل ذلك، لكنني سأحدثكم عن “خالدة “. تلك الشابة النابلسية التي كبرت في أفياء جبل-النار “وطلعت على الريح ، وطلعت على الشمس” ، ومضت يافعة تنثر غبار فلسطين نجومًا واحلامًا وتغني ورفاقها ” يا حرية يا زهرة نارية يا طفلة وحشية يا حرية ” ولم يثنها السجن ولا السجان ولا ضياع الشباب وراء القضبان أو على مفارق الانتظار والقلق .
خالدة الرطروط جرار، فلسطينية عمرها اكبر من عمر الاحتلال الاسرائيلي بأربعة اعوام؛ اقتحمت قوات الاحتلال الاسرائيلي، في ليلة السادس والعشرين من شهر ديسمبر الماضي، منزلها في مدينة رام الله وألقت القبض عليها بعد تفتيش البيت. لاحقًا اصدر قائد الجيش امر اعتقال اداري بحقها لمدة ستة شهور وزج بها في سجن الدامون الذي يقع على قمة جبل الكرمل. ليست هذه أول مرة تعتقل فيها خالدة جرار؛ فهي منذ اختارت طريقها في مقاومة الاحتلال، أيام الدراسة الجامعية في بير زيت في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ومضت، مع رفيق قلبها ودربها غسان جرار، تبني قصور احلامهم عرفت كيف تحتمي الفراشة في حضن السنبلة. لقد تناوب الاحتلال في ملاحقتهما فكان يعتقل غسان ويفرج عنه ثم يعتقله ليبعده ثم يفرج عنه حتى جاء دورها وعلا نجمها وانتخبت في العام 2006 نائبا في المجلس التشريعي الفلسطيني كمندوبة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وبرزت كناشطة يسارية تدافع من اجل تحرير فلسطين وعن حقوق الاسرى والمرأة الفلسطينية وكي ترى كريمتيها يافا وسهى نجمتين في سماء فلسطين. سجنت مرات عديدة لدوافع سياسية وكيدية. واذكر انها كانت في العام 2017 اسيرة في سجون الاحتلال عندما توفي والدها ولم تعطَ فرصة لوداعه، فلم تنكسر وعاشت مع ذكراه ووعده؛ وكانت في العام 2021 اسيرة عندما توفيت ابنتها الشابة سهى اثر نوبة قلبية حادة ولم تسمح لها سلطات الاحتلال بالمشاركة في جنازتها او وداع جثمانها. اذكر حينها كتبت عنها ولها: “لقد سمعت خالدة نبأ وفاة ابنتها سهى حين كانت مع رفيقاتها في غرفتها في سجن الدامون، فأمضت ليلتها ، هكذا اتخيل، وهي تعصر قلبها قطرات من أسى ولوعة وحنين لا يداوى. اعرف ان خالدة لم تراهن على موقف مصلحة سجون الاحتلال الاسرائيلي ازاء مطالبة محاميها بالسماح لها بحضور جنازة ابنتها، فهي وزوجها غسان ابناء لأجيال فلسطينية خبرت منذ عقود كيف يكون “الشر عاديا” وكيف يكون التاريخ أسود وتكون “تاؤه” مربوطة على قرني محتل ظالم وشرير . فعندها، هكذا تعلما، لا يصح التنبؤ والانتظار، فالشر لا يعرف الا ان يتمظهر بطبيعته العادية الواحدة البسيطة والواضحة ونتائجه دائمًا متوقعة وبديهية”. قابلت خالدة بعد الافراج عنها معزيًا بابنتها, فوجدتها أمًّا تحاول أن تلملم انفاس الليل في قبضتها لتمسك ببعض من سهاها؛ فنحن، هكذا قال لي غسان على مسمعها: “في النهاية نبقى بشرا نحب حتى اخر الانفاس ونعشق الفجر وهو يراقص محيّا بناتنا ونذوب حين يغرقونا بالرقة وبالغنج. لقد قصم ظهرنا هذا الرحيل…”. كانت حزينة فبكت كما يبكي المقاومون عشاق الحرية، وبقيت قوية وواضحة كالسهم.
مر عامان منذ رحيل ابنتها والوداع الذي لم يكن، فعاد الاحتلال يمارس “شره العادي”. اعتقلوا خالدة مرة اخرى دون سبب حقيقي وزجوا بها في ظروف حياتية أقسى وأخطر مما عرفناه في الماضي. وللمرة الثالثة تفقد خالدة عزيزا على قلبها ففي منتصف شباط./ فبراير توفي ابن شقيقتها الاسير السابق وديع شحادة بنوبة قلبية ومرة اخرى كان عليها ان تواجه الفراق وهي خلف القضبان. خالدة اليوم، هكذا اتخيل، رغم عبثية الظروف، تحاول أن تدخل الفرح الى قلبها وقلوب رفيقاتها الاسيرات وتستحضر معهن طقوس فلسطين الانثى في آذار.
فخاصرة آذار في فلسطين تبقى نازفة؛ وخيره يأتي كالوعد من وراء جبال الغيم. ينام في عيون النرجس ويصحو ليعلن أن البقاء للحياة وللحب، ومن يضحي ويحب، مثل زهر اللوز، يعرف أن أجمل الحب هو ذاك الذي يكون فكرة أو ذلك الذي يتدفق من غير سبب.
فلكنّ ، أدعو في آذار وفي كل يوم، بالفرج وبالسلامة وبالفرح، وأعرف ان نار الحرية، كما تعرفن، خالدة ولن تخبو.