لو أردنا وعملنا لنجونا
جواد بولس
تاريخ النشر: 15/03/24 | 13:47قررت ادارة “الجامعة العبرية” في القدس تعليق عمل بروفيسور نادرة شلهوب كيفوركيان في فرعيّ علوم الجريمة والعمل الاجتماعي في الجامعة بسبب تصريحات كانت قد اطلقتها مؤخرا، شكّكت فيها بالادعاءات الاسرائيلية حول قتل الاطفال واغتصاب النساء خلال الهجمة التي نفذتها عناصر حماس في السابع من أكتوبر المنصرم، وكذلك بسبب تصريحات اخرى قالت فيها ان “الصهيونية حركة اجرامية ويجب محوها والغاءها”.
لقد وقع في شهر تشرين الاول/ اكتوبر المنصرم صدام سابق بين ادارة الجامعة العبرية والمحاضرة شلهوب، في أعقاب توقيعها مع آخرين على عريضة أدانت العدوان الاسرائيلي على غزة واتهمت إسرائيل بتنفيذ جرائم حرب وابادة جماعية ضد الفلسطينيين.
لم تُقدم ادارة الجامعة في اكتوبر المنصرم على تعليق عمل المحاضرة شلهوب بل اكتفى رئيس الجامعة وعميدها بتوجيه رسالة تحذير شديدة اللهجة اليها، تضمنت نصيحتهما لها بأن تترك عملها في الجامعة. كانت الرسالة قاسية وهجومية وباسلوب لا يليق بعلاقة محاضرة وادارة جامعة تعمّدت ان تكتب: “نحن نأسف ونخجل بأن تحتضن الجامعة العبرية داخلها عضوة هيئة تدريسية مثلك. على ضوء مشاعرك، نحن نعتقد انه من الملائم ان تفكري بترك وظيفتك في الجامعة العبرية في القدس”. لقد اثار موقف ادارة الجامعة العبرية في حينه موجة من الاستنكارات المحلية والدولية، لكنه ووجه ايضا بانتقادات شديدة من قبل جهات يمينية اتهمت الادارة بالضعف وبالهزيمة.
لم يكن قرار ادارة الجامعة العبرية بتعليق عمل المحاضرة نادرة شلهوب هو الاول من نوعه على مستوى الدولة؛ فمنذ سنوات تنشط في اسرائيل عدة جمعيات يمينية متخصصة بملاحقة المواطنين والجمعيات والمنظمات، العربية بالاساس واليهودية المعارضة لسياسات تلك الجمعيات اليمينية المتطرفة ولاهداف الاحزاب الفاشية والعنصرية التي ترعاها وتحتضنها. تقوم تلك الجمعيات العنصرية وميليشيات العسس التابعة لها بتنسيق أنشطتها وتوزيعها وفقًا لميادين عمل متخصصة مختلفة؛ فبعضها يتخصص بملاحقة مواقف وتصريحات المحاضرين، العرب واليهود، في الجامعات، وبعضها يعمل بمراقبة انشطة الطلاب الجامعيين، واخرى تلاحق الصحافيين ومواقع التواصل الاجتماعي ومؤسسات المجتمع المدني خاصة تلك الناشطة في الدفاع عن حريات المواطنين وضد سياسات التفرقة العنصرية. لقد بدأت بعض تلك الجمعيات العسسية انشطتها منذ اكثر من عقد وقد نوهنا في حينه الى خطورتها وما قد تحققه فيما اذا غض النظر عن نشاطاتها. تعد جمعية “إم ترتسو”، ومعناها إذا أردتم، من أقدم هذه الجمعيات إذ بدأت نشاطها منذ أكثر من خمسة عشر عامًا وعملت خلالها بشكل حثيث وممنهج ضد المحاضرين والطلاب والمؤسسات التي كانت تتهمهم بمعاداة الصهيونية وبدعم مقاطعة اسرائيل وتنشر بحقهم تقاريرها وتطالب مؤسسات الدولة باتخاذ الاجراءات بحقهم ومعاقبتهم؛ وقد سجلت “انجازات” كبيرة في هذا المضمار. وعلى الرغم من وضوح أهداف تلك الجمعيات ومن كونها شاهدًا على أخطر افرازات جنوح المجتمع اليهودي نحو الفاشية والبرهان على نمو قوة محركاتها وتزويدها بوسائل محكمة وقادرة على ملاحقة كل من يعارض مخططاتها، لم يتخذ المجتمع العربي في اسرائيل اجراءاته الكفيلة بمواجهتها والتصدي لها. مرت السنون فاصبحت تلك الجمعيات والاجسام شبكة خانقة تملك قدرات مالية ضخمة واجهزة ادارية قوية ومهنية ومؤثرة على معظم مؤسسات الدولة ومراكز القوة الرسمية والخاصة: مثل الوزارات والشركات والمدارس والمستشفيات والجامعات والنيابات العامة والمحاكم، وصارت تقاريرها بمثابة لوائح اتهام قاطعة وملزمة للجهة المعنية المطالبة باتخاذ الاجراءات العقابية بحق من ورد اسمه في احدها.
لقد اشتدت معالم هذه الظاهرة بعد السابع من اكتوبر المنصرم؛ فنتيجة لهول الصدمة داخل المجتمع اليهودي، ولتفشي الاجواء الفاشية باشكال واحجام غير مسبوقة، وتحول ظاهرة استعداء جميع المواطنين العرب داخل اسرائيل الى موقف صهيوني شرعي ومبرر وشائع، اصبحت جميع اجهزة الرقابة والعسس، اكبر قوة و اكثر تأثيرا وفعالية؛ فبدأنا نلمس في الاشهر الماضية تنامياً في اعداد ضحاياها مثل المحاضرة نادرة شلهوب وقبلها ما جرى مع الدكتورة وردة سعدة التي طردت في أواخر شهر أكتوبر المنصرم من عملها كمحاضرة في “كلية كي” لتأهيل المعلمين في مدينة بئر السبع بسبب نشرها بعض البوستات ضد الحرب على غزة. هنالك المئات ممن فقدوا عملهم او طردوا من جامعاتهم أو سجنوا وحكموا ولم نسمع عنهم وعن مأساتهم. ومن المتوقع ان تزداد وتيرة وحدّة هذه الملاحقات خاصة اذا لم تجد تلك القوى الفاشية والعنصرية من يواجهها؛ فسوى بيانات الشجب التي تحررها قيادات الاحزاب والحركات السياسية، ونداءات الغضب وتأثيم بعضنا البعض، وبعض بيانات التضامن مع الضحايا، لا سيما اذا كانت الضحية شخصية عامة مشهورة وذات مكانة مهنية معروفة، سوى هذه الردود لا توجد أية محاولة جادة لدراسة وتقييم الظاهرة ووضع أية مخرجات وبرامج عمل مؤثرة تضمن حماية مجتمعاتنا وتوفر للافراد حواضن واقية ومشاعر الأمان وتخرجهم من حالة الخوف التي يعيشونها يوميا.
يدور في هذه الايام نقاش على نطاق محدود، بين بعض الاكاديميين والمثقفين العرب، حول صور التضامن الممكن اتخاذها مع المحاضرة نادرة شلهوب. يأتي هذا النقاش ومعظم فئات المجتمع العربي في اسرائيل تعيش في حالة عزوف تام ولا تتفاعل مع تداعيات الحدث ؛ فالصمت سيّد في الشارع وبين النخب الاكاديمية والمثقفة والتكنوقراطية التي سكتت عما حصل مع ضحايا الاشهر الماضية وتسكت في حالة المحاضرة نادرة شلهوب كيفوركيان، وستسكت ايضا طالما بقيت النار بعيدة عن احراجهم.
في الواقع يدفع ضحايا سياسة الملاحقات الفاشية والعنصرية ثمن حالتين عبثيتين منتشرتين داخل مجتمعنا العربي في إسرائيل: الحالة الاولى هي عجز مؤسسات وقيادات مجتمعنا عن تشخيص خطورة الظاهرة منذ نشأتها، وعجزههم بالتالي عى مواجهتها او العمل على حصر اضرارها. والحالة الثانية هي تبسيط الكثيرين لهذه المسألة واكتفاؤهم في معظم الحالات بتأثيم الافراد التابعين لشريحة الضحية وتلويمهم أو توبيخهم او اتهامهم بالعجز والتواطؤ ومطالبتهم بالتعبير الفعلي عن تضامنهم مع زميلهم /زميلتهم وحثهم على التنحي من وظائفهم او اتخاذهم لخطوات احتجاجية فعلية. وكي لا اكون مجرد منتقد لاي مجتهد اسدى نصيحة او قدم اقتراحًا او عبّر عن رأيه، اقر بانني لا املك حلا سحريا لهذه القضية الحارقة التي سيشتد وزرها علينا جميعا. لكنني لا اعتقد بان مطالبة العاملين في الجامعة العبرية، في الحالة الراهنة مثلا وفي غيرها طبعا بالتنحي من وظائفهم الادراية هو الفعل النضالي المؤثر والصحيح؛ فالبطولات الفردية أو الفئوية، على اهميتها كأبداء موقف تضامني مع الضحية واحتجاجي على معاقبتها ظلمًا، لن تنقذ ضحايا المستقبل، وارتجالية ردود الفعل ليست سياسة صائبة، وتحميل عبء هذه المأساة على اكتاف من يتوجهون لوظائفهم ليجدوا خبزهم كفافهم قد تكون عملية سهلة لكنها، غير منصفة في واقعنا الراهن الذي تستنكف فيه جميع مركبات المجتمع وقياداته عن تحمل مسؤولياتها النضالية ولا تتقدم الصفوف وتدفع الثمن اولا.
نحن ازاء قضية مركبة ومعقدة وخطيرة؛ وعلينا، أولا، ان نعي ونقر بحجمها وبمخاطرها علينا جميعا، ثم علينا ان نسعى مجتهدين لمواجهتها، كل من موقعه ومعا من خلال مؤسساتنا. والى ان ننجح بذلك لا يجوز ان نكتفي، وتشديدي على ان نكتفي، بتلويم تلك الفئات التي تعلمت واجتهدت وترقّت وحظيت بوظيفة تستحقها، سواء في مستشفى او مصنع او جامعة او مدرسة، فهؤلاء جميعا هم “أهل معارف” هذا الزمن.
وقصة ” أهل المعارف” تعلمتها من الراحلة أمي المعلمة سعاد (وضبط تفاصيلها لاحقًا مشكورا الاستاذ عصام عراف)، فعندما كنت طالبا في الجامعه العبرية وكنت أتناقش مع والديّ المعلمين في الشؤون السياسية، كانت امي تروي لنا حكاية المعلم الشاعر ناصر العيسى، ابن قرية الرامة الجليلية. في ثلاثينيات/ أربعينيات القرن الماضي أطلق المعلم ناصر عيسى لحيته مثل سائر المعلمين في فلسطين، احتجاجا على سياسات الانتداب البريطاني ضد فلسطين. وفي احد الايام دخل صفه بعد ان حلق ذقنه، فبدت على وجوه الطلاب الاسئلة وعلامات الاسف. فهم المعلم موقف طلابه فاجابهم بقصيدة قال فيها : “وقفت أمام مرآتي اناجي / بها وجها كثيف الشعر كاسف ، وقلت أيا مليحتي أخبريني / أأحلق شعر ذقني أم أجازف”. بدأت مرآته تستغرب تردده وتتساءل عن دواعي جبنه وهو الشاعر المقدام صاحب القصائد “الثائرات كالعواصف” فأجابها، وكان ذلك بيت القصيد : ” فقلت بلى ولكنني جبان / وإن الجبن في أهل المعارف” .
“أهل المعارف” كانوا المدرسين في المدارس الحكوميه أيام الانتداب البريطاني؛ لكنها كانت وبقيت كنية لكل موظف او عامل او طالب رزقه من أي “حكومة انتداب” ، اذا لم يجد قيادة ومجتمعا يحمونه ويؤمنون له الى جانب كرامته الامن ومعدة مرتاحة ومأوى آمن .