حين كذّبت غزة شعار “معا سننتصر” وإحترقت وحدها
جواد بولس
تاريخ النشر: 05/04/24 | 9:23 شهدت شوارع المدن الاسرائيلية، بعد الاعلان عن تشكيل حكومة نتنياهو الاخيرة، موجات من المظاهرات التي بدأت بحضور شعبي متواضع مدفوع بتوجس بعض شرائح المجتمع الاسرائيلي من هدف الحكومة في تنفيذ مشروع “الاصلاح القضائي”، كما اعلنت عنه حكومة نتنياهو، وقناعة المتظاهرين بأن مخطط احزاب الحكومة اكبر من ذلك، وسيفضي عمليا، في حالة انجازه، الى هدم مؤسسات الدولة السيادية والاجهاز على سلطة القانون واستقلالية المنظومة القضائية، بجميع فروعها، وتحييد دور هيئات الرقابة “الدستوريه” في تأمين التوازنات الضرورية بين سلطات الحكم الثلاثة: الشرعية والتنفيذية والقضائية؛ وحماية حقوق المواطنين الاساسية.
ركزت شعارات المتظاهرين الاوائل على ضرورة حماية الديمقراطية الاسرائيلية، وحصرت اهدافها، في البدايات، بالتصدي لمخططات التيارات السياسية القومية العنصرية والدينية المتزمتة، لا سيما بعد ان حظيت احزابها باكثرية مطلقة داخل الكنيست/ السلطة التشريعية، وباشر قادتها بتنفيذ مخططهم بالاستيلاء على جميع مفاصل الحكم استعدادًا لتشييد الدولة اليهودية الجديدة او بالحري مملكتهم وفق المفاهيم التوراتية التي تربوا عليها وآمنوا بها ونالوا من ناخبيهم الثقة والتكليف لتحقيقها.
ومع مرور الوقت بدأت بعض النخب القيادية اليهودية الجديدة تنتبه الى ان المطالبة بحماية الديمقراطية الاسرائيلية والدفاع عن المنظومة القضائية لن يتحققا الا اذا تم التعاطي مع المسببات التي اعطبت ديمقراطيتهم عبر العقود الماضية، وافضت الى ولادة التيارت السياسية والدينية المتعصبة والفاشية وتعاظم قوتها كما حصل؛ فكيف يمكن لديمقراطية حقيقية ان تثبت في عرى احتلال شعب آخر وقمعه ؟ وكذلك كيف لها ان تكون حقيقية اذا لم تضمن المساواة لاكثر من خمس مواطني الدولة العرب؟
اذكّر اليوم بهذه التفاصيل لعلاقتها بما يجري داخل اسرائيل في هذه الايام، وربما لان البعض قد نسي تداعيات المشهد الاسرائيلي الذي كان، ونسينا كيف تحوّلت مظاهرات الاحتجاج الصغيرة الى مظاهرات ضخمة تضم مئات الالاف من المواطنين وتغزو شوارع المدن الاسرائيلية وميادينها حتى اصبحت حركة تتمتع بقوة شعبية مؤثرة نجحت بفرض موقفها على حكومة نتنياهو واجبرته على الاعلان عن تجميد مخطط “الاصلاح القضائي”، تحت شعار رأب الصدع داخل المجتمع اليهودي والتفتيش عن قواسم مشتركة بينهم حيال شكل الدولة اليهودية ونظام الحكم فيها.
وقبل مناورة حكومة نتنياهو المذكورة واعلانها عن تجميد خطتها في الاصلاح، من الجدير ان نتذكر كيف بعد ان كان شعار المحافظة على الديمقراطية يرفع في المظاهرات “عاريا” من اي مضمون حقيقي، أو وهو مقرون بضرورة حماية المنظومتين القضائية والرقابية وحسب، صرنا نسمعه من بعض الخطباء وهو مقرون بتأكيدهم على ضرورة التخلص من الاحتلال الاسرائيلي للفلسطينيين، وتأكيدهم، في نفس الوقت، على ان لا ديمقراطية بدون تأمين مساواة كاملة لمواطني الدولة العرب. لقد بدأ الشعار ثلاثي الاضلاع يبرعم وينطلق وان كان في حقول من شوك.
لن أدّعي اليوم اننا كنا قاب قوس من اقناع المجتمع الاسرائيلي بأن لا ديمقراطية في دولة تشرعن فوقية الجنس اليهودي على سائر مواطنيها غير اليهود؛ او أن لا ديمقراطية مع احتلال ومع سياسات قمع واضطهاد وعنصرية؛ لكننا، رغم ذلك، كنا نشهد مخاضات تتداعى في سيرورة سياسية اجتماعية متدافعة وجديدة، لو قيض لها ان تستمر لنقلتنا، ربما، الى فضاءات هي آمن لنا، بالتأكيد، من التي فاضت علينا بعد السابع من اكتوبر .
ففي ذلك اليوم “السابع” لم تسترح السماء، كما علمتنا الكتب، بل صبت جام غضبها وحممها على العباد؛ فكان ليل وكان نهار، وزال عصر وحل طوفان، وشنت اسرائيل حربًا فسال دم وساد دمار .
ستة شهور مرت، تغيرت فيها قواميس اللغة وادوات بديعها وبيانها؛ فكتبَ الرصاص احرف الديمقراطية طلقة طلقة ، وصار الاحتلال كنايات مغروسة في الاجساد، والمساواة تحولت الى استعارة عن خنجر يتربص بفريسته القادمة؛ اما اسرائيل فلم تعد “دولتنا” التي “تحترمنا وتشك فينا” بل سجاننا المتأهب بسوطه وبحافلاته. كل ما كان عندنا ولنا قبل السابع من اكتوبر صار اصداء لأحلام وأنات ” لبنات جبال” بعيدة. في السابع من اكتوبر رفعت صهيون شعار ربها واعلنت : “معًا سننتصر” على اعدائنا؛ فكلنا بعد اليوم ابناء صهيون واحد ولا فرق بين نتنياهو وجولان، ولا بين لابيد وابن جبير، وجئولا هي اخت لمايا.
ونمنا كالفَراش حول القناديل وسكتنا نعدّ خاءات خيباتنا وننظر نحو غزة وقد كانت فتاة لا تعرف النوم، تطير “وتغطي صدرها العاري باغنية الوداع وتعد كفيها وتخطىء حين لا تجد الذراع “، ولا تبكي؛ فكيف يبكي من يعيش بين موتين وبحر ؟
مرت شهور الذبح حتى سمع المدى صهيل الذباب، وطفح الدم وصار ريقا في حلوق الناس. بعد ستة “دهور” تفوق فيها الوجع على هرم الينابيع فبدأت قلة من الناس تستعير ضمائرها وتعيد تفاصيل المشهد قطرة قطرة، وبدأت تعي ان غزة هي الضحية ويجب على حكومة نتنياهو ان توقف حربها عليها وتتوقف عن قتل نسائها واطفالها وابريائها “فثلثا الاشخاص الذين قتلوا ،( أكثر من ٤٢ الف شخص قتلوا في غزة ) هم من النساء والاطفال، وهذا امر لا يغتفر” ، هكذا صرح قبل ايام السينتاور الامريكي برني ساندرز، وهو صوت من الاف مؤلفة من الناس بدأوا يتهمون حكومة اسرائيل ويطالبونها بوقف الحرب فورا.
لم تقتصر موجة التحولات في الرأي العام على الساحات الدولية وحسب، بل بدأنا نشعر بها ايضا داخل اسرائيل، حيث لم يكتف المعارضون باطلاق التصريحات وبانتقاد حكومتهم. في الاسابيع الاخيرة بدأت تنتظم موجة جديدة من مظاهرات الاحتجاج التي يشارك فيها الاف المواطنين، يطالبون بالعمل من اجل ارجاع المخطوفين وبضرورة اجراء انتخابات جديدة للكنيست. قد تكون تداعيات المظاهرة التي جرت يوم الثلاثاء الماضي امام بيت نتنياهو في شارع غزة في القدس، مؤشرًا على احتدام الوضع بين نتنياهو وحكومته من جهة وبين جميع القوى الاجتماعية والسياسية التي وقفت ضده بعد تشكيل حكومته من جهة اخرى. وقد يكون الصدام بين المتظاهرين ورجال الشرطة، الذي جرى على مقربة من منزل رئيس الحكومة ، واستدعى حضور رئيس جهاز المخابرات العامة بنفسه الى الموقع، دليلا على ما سيحصل في القريب العاجل سواء على مستقبل اواصر الوحدة اليهودية اليهودية التي فرضتها بشكل مصطنع وديماغوغي أحداث السابع من أكتوبر، او على طريقة تعامل الشرطة مع من سيعارضون حكومتهم.
ان ما يحدث في الايام الاخيرة داخل اسرائيل، لا سيما عودة ظاهرة الاحتجاجات الى الشوارع، هو تطور هام ولافت؛ وقد يتحول في ظروف مواتية الى حركة شعبية معارضة شبيهة لتلك التي تراجعت تحت وطأة طوفان السابع من اكتوبر.
اعي ان ما يحرك المتظاهرين في الاحتجاجات الاخيرة هي مسألة المخطوفين الاسرائيليين والمطالبة باعادتهم، واتهام حكومة نتنياهو بهدر ارواحهم على مذبح مصلحته الشخصية وغريزته للبقاء في الحكم، واعرف ان دوافع بعض القوى المبادرة والمشاركة في تلك الاحتجاجات سياسية، ورغبتهم في اجراء انتخابات جديدة للكنيست هي اسقاط حكومة نتنياهو، ومع ذلك علينا، نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل والفلسطينيين بشكل عام، ان نتابع هذه التطورات لا كمتفرجين لنا مصلحة بتوسيع الشقاق الذي نجح نتنياهو بطمره تحت شعار “معا سننتصر” فحسب؛ بل كاصحاب مصلحة مباشرة في اعادة الشارع الاسرائيلي الى مواجهة الاسئلة المصيرية الصحيحة والتوصل الى الاجوبة الصحيحة المصيرية، من اجلهم ومن اجلنا.
لقد كان السابع من اكتوبر يوم اتحد كل افراد الشعب اليهودي داخل إسرائيل واتفقوا ان يقضوا بسببه على اهل غزة .. لكن غزة بقيت وستبقى لاهلها النازحين النازحين النازحين ولجثث ابنائها وحجارتها المشبعة بالدم وبالدموع وباحلام البائسين الباقين.
فهل كما كانت غزة “الفريسة” سببا للوفاق التام داخل اسرائيل ستكون غزة الحياة سببا في صحوة الاسرائيلي من خرافاته؟