في ذكرى رحيل عاشق ومجنون حيفا
حسن عبادي
تاريخ النشر: 08/04/24 | 1:24ولد الشاعر أحمد دحبور في حيفا/ حيِّ وادي النسناس عام 1946، وهُجِّرَ منها في النكبةِ حين كان في الثانيةِ من عمرِهِ.
كانت حيفا حبّه الأزليّ، كانت تُحضرُها والدتُهُ دومًا في غنائِها، إذ تأخذُه معها في كلّ أغنيةٍ، بصوتها المميّز الجميل، إلى حلم حيفا، ذاك الصوت الذي يحملُ بأشجانِهِ حنينَهُ إلى حيفا، حيفا الجنّة، حيفا الحاضرة، العصيّة على النسيان.
تحدّث دائماً عن الذاكرةِ والطفولةِ والوجدانِ الفلسطينيّ الذي لا يُنسى، ولا يُغفر نسيانُهُ، تحدّث عن معاني المنفى والعودة، مؤكّدًا بجميلِ كلمتِه أنّ بحرَ حيفا لن يخونَ أبناءَ مدينتِهِ العزيزة، فمنه ستأتي موجةُ العودة القادمة لا محالة.
تجولنا ذات صباح في شوارع حيفا، جلسنا لنشربَ القهوةَ في أزقّة وادي النسناس مع أهلِها، متأثّرًا بتلك اللحظة أخذ يسترسل بأبياتِ شعرٍ من قصيدته: “يا طيورًا طائرهْ… يا وحوشًا سائرهْ… بلّغي دمعَ أمي أن حيفا لم تزل حيفا… وأني أسأل العابرَ عنها في ربوع الناصرهْ”.
كان للمنفى والاغتراب حضورٌ مميّزٌ في حياته، فهو حيفاويٌّ حتى النخاع، حمل حيفا معه إلى كلّ مكان، كما فعل صديقُهُ الـ “عائد إلى حيفا” طيّبُ الذكرِ غسّان كنفاني، فهو، نعم هو، مجنون حيفا!
جلسنا في مقهى بحريٍّ على سفوحِ الكرملِ وشاطئِ حيفا، لم يكفَّ عنِ الحديثِ عن معشوقتِه حيفا، وحين ناولتُه ديوانَهُ “هنا وهناك” ليوقّعَ عليه، انسكبت دموعُهً وألقى على مسامعِنا قصيدتَه “مسافر مقيم”:
“وكيف جئت أحمل الكرمل في قلبي
ولكن كلما دنا بعد؟
حيفا، أهذي هي؟
أم قرينة تغار من عينيها؟
لعلها مأخوذة بحسرتي
حسرتها علي أم يا حسرتي عليها؟
وصلتها ولم أعد إليها
وصلتها ولم أعد إليها
وصلتها ولم أعد”
انتمى شاعرنا إلى جيل الذبيحة وهو القائل:
“كنت المنادَى، ربما والمناديا
تذكّرت من يبكي عليّ فلم أجد
سواي، على جيل الذبيحة/ باكيا”
كان أحمد راويةَ المخيّم، وصل حيفا ولم يعُد إليها حين صُدِم بصدمة العودة، بقي يحملُ فجيعةَ الغيابِ، يحملُ الخيبةَ، لكنّ صوتَ اللجوءِ والعودةِ المشتهاة لم يكن ليخبوَ أبدًا، بل ما زال يشتعلُ يُحرقْ الأفئدةَ.
حيفا، كانتْ ولا زالتْ، تجمعُنا أينما كنّا، تسكُنُنا وتذكّرُنا بكلّ ما هو جميل حاضر… ففي حيفا يمسي الغيابُ حضورًا، ويمسي الحنينُ واقعًا…
وإذا كان أحمد وغسّان قد رحلا عنّا قسرًا، فهناك عودةٌ تدغدغُ أحلامَ أخوتِنا في الشتات، وهي قادمةٌ لا محالة.
حيفاك الأبيّة، تستصرخُك حيفا، وتؤكّدُ لك، أنّه على الرغمِ من محاولات السلطةِ اقتلاع الحيفاويّين من بيوتِهم وطمسِ الوجودِ الحضاريّ من طبيعة المكانِ، بحرًا وكرملًا وأحياء، سيبقى حيُّك، أيّها المولود في حيّ “وادي النسناس” العريق، باقيًا حاضرًا، عصيًّا على التغييب أو الغياب.
الرحمة لروح الذي زرع اللوز الأخضر في الدار…
عزيزي أحمد؛
أنت الحضورُ وإنْ غبتَ… أنت الشعرُ وإنْ سكتَّ، أنت الصوتُ الخالدُ وإنْ رحلتَ…
حيفا 08.04.2024