مأزق مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي
د. جمال زحالقة
تاريخ النشر: 11/04/24 | 14:47ظهر في استطلاع للرأي العام، نُشرت نتائجه مطلع الأسبوع الحالي، أن 49% من المستطلَعين الإسرائيليين يرون أن أهم استنتاج من السابع من أكتوبر وما تبعه هو تغيير مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، وأجاب 19% منهم أن الأولوية المطلوبة، هي زيادة الاعتماد على الصناعة العسكرية الإسرائيلية، وقال 5% أن الأهم هو تعزيز الاعتناء بجيش الاحتياط، وهذه كلها مقوّمات للأمن القومي، ما يعني أن الغالبية الساحقة من الإسرائيليين يعتقدون أن المطلوب هو إعادة النظر فيه وفي عقيدته الأساس. وقد أجاب 19% فقط بأن الأسبقية هي المحافظة على «وحدة الشعب».
يبدو أن النخب الأمنية والسياسية والأكاديمية المتخصصة تعتقد أيضا بوجوب إجراء تغييرات جذرية وهيكلية في مفهوم الأمن القومي ومركباته ودعائمه المختلفة. فقد صرح رئيس الأركان الإسرائيلي الميجر جنرال هرتسي هليفي، بأن الدولة الصهيونية بحاجة إلى جيش «أقوى وأكبر»، وسبقه بنيامين نتنياهو إلى القول، بأنه يجب زيادة ميزانية الأمن بشكل كبير، وتوسيع وتطوير «الصناعة المحلية» للذخائر والأسلحة، وإدخال تغييرات في هيكل وحجم ومفاهيم الجيش الإسرائيلي. ولم يبق أحد من المتحدثين الإسرائيليين إلّا ودعا لإعادة النظر بمفهوم الأمن القومي.
لقد شكّل السابع من أكتوبر صدمة من الوزن الثقيل في أركان الدولة الصهيونية كافة، وبدأ الحديث عن ضرورة إدخال تغييرات وتبديلات، وحتى نسف العقيدة الأمنية القائمة، لأنها لم تعد ملائمة لتقديم أجوبة شافية تلبي متطلبات الأمن القومي الإسرائيلي. وهناك شبه إجماع أنّها ليست مشكلة من الدرجة الثانية، أي النظرية صحيحة والنقيصة في التطبيق، بل هي معضلة من الدرجة الأولى والعيب في صلب المفهوم وليس في الإنفاذ وحده. لا توجد وثيقة رسمية تحدد مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، وهو عمليا مفهوم شفوي، يشمل المبادئ التي صاغها مؤسس الدولة الصهيونية، دافيد بن غوريون، في مطلع خمسينيات القرن الماضي، ويستند أيضا إلى مجموعة من الأوامر العسكرية والقوانين الرسمية وإلى الكراريس والكتيبات والمقالات المنهجية، التي أصدرها مسؤولون أمنيون. هذا لا يعني أنه مفهوم ضبابي وهلامي، بل هو في الحقيقة وفي أسسه المركزية معروف ومتعارف عليه ويشكل بوصلة واضحة لعمل الجيش وسائر الأجهزة الأمنية. تقوم العقيدة الأمنية الإسرائيلية على «أربع أرجل» هي: الردع المؤثّر والإنذار المبكّر والدفاع القوي والحسم السريع. وما حدث في السابع من أكتوبر أن الأرجل الأربع منفردة ومجتمعة أصيبت بشلل وأخفقت بامتحان الواقع في حمل عبء حماية الأمن. وتبين في الوقت ذاته أن الفشل طال نظرية الأمن القومي ومركباتها المختلفة. وتبعا لذلك تدافعت النخب الأمنية والسياسية في الدولة الصهيونية في سباق الدعوة لإجراء تغيير جذري وشامل في مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي. وهناك إجماع في المجتمع الإسرائيلي بضرورة مراجعة المبادئ القائمة وتعريفها من جديد وتبديل أولوياتها، وبلزوم إضافة مبادئ جديدة جدّا وأخرى كانت مطروحة للنقاش سابقا، لكنها لم تضف إلى رباعي العقيدة الأمنية الإسرائيلية.
ارتطم مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي بتحديات عديدة وتهاوت الكثير من مسلماته وركائزه، والمؤسسة الإسرائيلية باتجاه إعادة النظر فيه وإدراج تغييرات جذرية في مكوّناته الأساسية
وصلت بعض النخب الإسرائيلية إلى استنتاج بأن المبدأ الأول في عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي وهو الردع أصبح منتهي الصلاحية وغير فعّال وغير مجد، حتى لو لم يكن ذلك بالمطلق. والسبب في رأيها هو «الكيانات غير الدولانية» المعادية للدولة الصهيونية لا يردعها ردع، وهي مثقلة بالأيديولوجيا وبالحماس الثوريين، ومن الصعب تفعيل الضغوط السياسية والاقتصادية والدبلوماسية عليها. وهناك شبه إجماع بضعف بنيوي للردع في مثل هذه الحالات، وبضرورة منح الأولوية لمبادئ أخرى أكثر نجاعة في حماية الأمن القومي للدولة الصهيونية، لكن هذا التوجّه لم يتغلغل بعد إلى القيادة الحالية للجيش وللحكومة الإسرائيلية، وهو ما زال، ربما لانسجامه مع عناصر أخرى، عاملا مركزيا في ارتكاب فظائع الإبادة الجماعية والدمار الشامل في الحرب على غزة، والمبغى هو «الردع بالفظائع»، ومحاولة ترويع وتخويف وردع كل من قد يحاول مهاجمة إسرائيل بأن مصيره سيكون «مثل غزة» كما قال وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت. وذهبت نخب أخرى إلى أن مبدأ الإنذار المبكر لم يعد ضروريا للأمن القومي الإسرائيلي، خاصة بعد أن أخفقت أجهزة الاستشعار والمخابرات في دورها عشية السابع من أكتوبر. والعلة، كما قال بعض المنظرين العسكريين، هي أن الإنذار بهجوم على إسرائيل لتجنيد استباقي سريع لقوات الاحتياط، لم يعد بتلك الأهمية كما في الماضي، والتهديدات العسكرية الفعلية التي تواجهها إسرائيل اليوم هي من النوع الذي تستطيع التصدي لها من خلال قوات نظامية دفاعية برية وجوية أكبر، التي يمكن صيانتها وتفعيلها بتكلفة معقولة. هذا لا يعني أن إسرائيل ستقوم بإلغاء الأجهزة والوحدات المسؤولة عن الإنذار، فالاتجاه العام هو تقويتها وزيادة حجمها، ولكن الاعتماد عليها أقل، خاصة أنها متهمة بتحمّل عبء مسؤولية العمى الاستراتيجي للعسكر والساسة في إسرائيل. ويتعرض مجال الإنذار المبكر عموما لتغييرات مفاهيمية وعملياتية وأداتية كبرى، بهدف جعله أكثر نجاعة وأكثر قوة، ولكن الاعتماد عليه سيكون أقل بكثير من الماضي، حيث درجت القيادات الإسرائيلية على ترديد مقولة: «لدينا أعين ساهرة، ونحن سنعلم مسبقا عن أي تحرك عسكري ضدنا وسنعرف كيف نحضّر أنفسنا لمواجهته». ومن الواضح أن السابع من أكتوبر نسفت هذا التبجّح العنجهي تماما وحل مكانه تشكيك في دور أجهزة الاستشعار ونزعة قوية للبحث عن مركبات أخرى تغطّي على قصورها وتقصيرها.
في ظل تراجع نجاعة الردع وانكفاء أهمية الإنذار، ارتفع بشكل دراماتيكي وزن مبدأ «الدفاع»، حتى بعد أن حظي بانتكاسة غير مسبوقة في السابع من أكتوبر. لقد نصبت إسرائيل قوات قليلة على حدودها استهتارا بنوايا وبقدرات من تواجههم، والاستنتاج الأولي هو ضرورة نشر قوات نظامية كبيرة عالية التدريب على الحدود كافة. كما يتجه الجيش الإسرائيلي إلى بناء منظومات دفاعية مدمجة ميدانيا وتشمل المشاة والمدفعية والمدرعات والدفاع الجوي وسلاح الطيران والبحرية. ولعل الاستنتاج المباشر الفوري المجمع عليه هو ضرورة زيادة حجم القوات النظامية، ويجري الحديث عن زيادة مدة الخدمة والسعي لتوسيع التجنيد ليشمل أعدادا كبيرة من اليهود التوراتيين، الذين لا يخدمون في الجيش حاليا. كما تتطلع النخب الأمنية الإسرائيلية إلى تزويد الجيش بمنظومات دفاعية جديدة، يجري تطويرها محليا أو استيرادها من الولايات المتحدة، وتشمل أسلحة الليزر الدفاعي والهجومي وحرس الحدود «الإلكتروني» والمزيد من أجهزة المراقبة والتشويش. والأهم من كل هذا أن إسرائيل باتجاه إجراء تغيير كيفي في مفهوم «الدفاع»، يشمل إنشاء حزام حماية حدودي في غزة ولبنان وسوريا للتصدي لـ»منظمات معادية»، وكذلك مسعى للاحتماء بحزام أمان عربي ضد إيران، إضافة لذلك دعا نتنياهو إلى تبنّى مفهوم «الدفاع الفعّال»، وعدم الاكتفاء بالمرابطة على الحدود، في عودة لنظرية بن غوريون الأمنية.
المبدأ الرابع في العقيدة الأمنية الإسرائيلية هو «الحسم السريع»، وقد جرى التعويل عليه في السابع من أكتوبر، لستر عورة جيش الدولة الصهيونية بعد أن تهاوت في ذلك اليوم باقي مركبات الأمن القومي الإسرائيلي: الردع والإنذار والدفاع. وقد عرّف رئيس الأركان الإسرائيلي السابق، جادي أيزنكوت، الحسم بأنه «نصر عسكري سريع وساحق»، ويشمل احتلال أراض وسحق قوة «العدو». يبدو أن آيزنكوت نفسه قد تراجع عن هذا التعريف بكل ما يخص الحرب على غزة، وهو يقول باستحالة تحقيق «النصر المطلق»، الذي تحدث عن نتنياهو، ويدعو إلى إعطاء الأولوية لإطلاق سراح المحتجزين، وإلى ربط الحسم بتسويات سياسية وليس فقط بفعاليات قتالية. ولكنّ هناك تيارا قويا في المؤسسة الأمنية، وبالأخص في محيط نتنياهو، يصر على أن الحسم «هو في النتيجة العسكرية النهائية، وليس في الحلبة السياسية. الجيش ملزم بالانتصار في الحرب لأن إنجازاته العسكرية هي التي ستحدد طبيعة الحالة الأمنية لدولة إسرائيل». هذا ما كتبه الجنرال المتقاعد يعقوب عميدرور الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي واحد المقربين لنتنياهو، ويبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يتبنى مثله الحل العسكري، ويقلل من شأن الحل السياسي.
إزاء مأزق المركبات التقليدية لمفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، طرحت مجموعات من المنظرين العسكريين الإسرائيليين رجلا خامسة، هي «المنع الاستراتيجي»، وتستند إلى ضربات استباقية متواصلة تهدف إلى القضاء على أي تهديد على الدولة الصهيونية، قبل أن يتحول إلى خطر فعلي، وهي تختلف عن «المعركة بين الحروب»، التي يعمل بها الجيش الإسرائيلي منذ سنوات، ويتضح شكلها وأسلوبها في الضربات المتلاحقة في سوريا. ووجه الاختلاف أن المنع الاستراتيجي هو التزام بالقضاء على التهديد وليس البقاء في حالة أدنى من عتبة الحرب، كما هو إطار «المعركة بين الحروب». وفي إطار هذ الطرح يكون «المنع» هو الأولوية حتى لو أدّى ذلك إلى حرب، وهذا ما كان عليه فعلا في موقف قيادة الجيش وغالانت في الدعوة لضربة استباقية في لبنان، التي لم تخرج إلى حيز التنفيذ بضغط أمريكي واستجابة من نتنياهو لهذا الضغط.
لقد ارتطم مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي بتحديات عديدة وتهاوت الكثير من مسلماته وركائزه، والمؤسسة الإسرائيلية باتجاه إعادة النظر فيه وإدراج تغييرات جذرية في مكوّناته الأساسية. والمنحى العام في الدولة الصهيونية هي الاعتماد على الأمن أكثر وعلى السياسة أقل، ولا يعقل أن تلعب إسرائيل بلعبة الشطرنج العسكرية ويواصل العرب مقابلتها بلعبة الشيش بيش السياسية، واجهوها بالشطرنج السياسي على الأقل.
كاتب وباحث فلسطيني