رسالة القنيريه .!
بقلم ; يوسف جمّال- عرعرة
تاريخ النشر: 12/04/24 | 12:21 كبرنا ورافقناه في طفولتنا .. ووصلنا معه الى عنفوان الشباب , ونحن لا نعرف عنه شيئاً إلا اسمه .. محمود القنيري .
كان يسكن في “خُشَّة “ليست ملك له , وإنما هي ملك لمختار البلد, منحها له ليسكن فيها, عندما التجأ الى بلدنا قادماً من قنير الروحة , بعد أن طُرد أهلها في النكبة, لم نعرف له عائلة , ولم نسأل عن السبب, وكان يعتاش على ما يتقاضاه كأجر لقاء عمله لدى الفلاحين , والذي كان يشتعل عندهم دون شروط . كان يقضي أيامه, و لياليه ساهماً صامتاً , لا يتكلَّم إلا في الحالات الضرورية, أو عندما توجّه له أسئلة , غالباً ما تكون إجاباته عن هذه الأسئلة مقتصرة على نعم أو لا.!
حدثنا يا عمي محمود عن قنير.. وأيام قنير.
هل أنت مقطوع من شجرة !؟ أطاح به سالم العاصي مرة..
أين أقربائك !؟ الى أين رحلوا !؟ ” تعمَّدت خديجة الحسن ان توجعه , كي “تقدح” منه شيئاً عن ماضيه.. ولكنه بقي صخرة متجمِّدة ملساء, ليس لها منافذ او ثقوب .
وكان هو الوحيد من بين رجال البلد, المسموح له بالجلوس على كرسيّ صغير من القش بالقرب من أمي , وهي تغسل ملابسنا.. كان يجلس صامتاً , وأمي تحكي عن أيام زمان..أيام الروحة قبل النكبة , وأحياناً “تحنِّن” للحجاج .. حيث تنشد الأغاني التي تغنيها نساء البلد في وداع الحجاج , وأحيانا تنشد أناشيد بكائية, تبكي الذين ماتوا او استشهدوا في معارك الوطن , أو الذين شتَّتهم النكبة ,في بلاد الشتات .. أو تحكي له مصائب أهل بلدنا, التي كانت “تحملها ” على ظهرها .
وكن القنيري يسمع وهو صامت ..
ولكنّي كنت أراقب تأثير أناشيدها وحكاياتها على وجهه .. فقد كانت ترسم موجات من التفاعل عليه , بحيث كنت أستطيع قراءتها , وفهم مدى تأثيرها البالغ على مشاعره .
شيئ واحد كان متَّفق عليه في بلدنا . محمود القنيري يحمل سراً خطيراً. ولكن فشلت كل المحاولات التي بذلها أهل البلد من أجلِّ نشل هذا السِّر من أعماق أسراره .
وأمر آخر كان في غاية الغرابة . إذ أنه رفض كل العروض التي عُرضت عليه , لمرافقة الذين يؤمون خرائب بلده قنير و آثارها . وكان كلما سمع اسم قنير , كان يغادر المكان هارباً الى “خُشَّته” ويغلق بابها فلا يخرج منها إلا بعد أيام , وعلامة الحياة الوحيدة , التي رصدت عنه , كانت أن جيرانه كانوا يسمعون بكائه ونحيبه الحارق , يتسلَّل من خلال الطاقة الوحيدة , التي كانت تبقى مفتوحة , كيّ توصله الى العلم الخارجي .
وأما قصة أمي والحطابات ومحمود القنيري , فهي على كل لسان من أهل البلد , فقد كانت أمي معتادة على الخروج مع “بنات الحارة” الى البر, يحملن فؤوسهن الصغيرة , لجمع حزم الحطب , التي فيها منافع كثيرة أهمها الوقود, الذي يحرك الحياة في بيوت البلد . وكان القنيري الرجل الوحيد من رجال القرية , المسموح له بمرافقة الحطّابات الى البرية , كان يساعدهن في قطع فروع الأشجار المستعصية , ويساعدهن في حزم الحزم ورفعها على رؤوسهن. وكان”يلقِّط ضُمّات” من الشجِّيرة وعُشبة الشاي , وغيرها من النباتات ,التي كان يستعملها أهل البلد للأكل ومداواة أمراضهم .. ولكنه لم يأخذ منها إلا القليل لنفسه, إذ كان عندما يصل الى مشارف البلد, يوزِّعها على الأولاد الذين يلاقونه في الطريق .
وفي أحد أيام التحطيب , خرجت فيه أشعة الشمس خجلة بعد ان تعرَّت من أثوابها السوداء . ونشر السريس والعبهر والسنديان ,والقندول عبقها في البرية . وصلت الحطابات الى”خلَّة التفاح” التي إعتدن ان يحطِّبن فيها . وكان يرافقهن كالعادة محمود القنيري . وإذا بصوت يمزِّق الصمت الذي كان يسود المكان :
قفوا وارفعوا أيديكم .. ارفعوا أيديكم الى أعلى .
إرتفع الصوت كي يؤكِّد ما بدأه من أوامر ..
وقفت الحطابات استجابة لأوامر الصوت, ورفعن أيديهن الى الأعلى .. أما محمد القنيري فقد انسحب بهدوء ,واختبأ وراء صخرة كبيرة .
ألا تعرفن أنَّ قطع أشجار البرِّ ممنوع في اسرائيل .!؟ صرخ بهن أحد الجنود..
لا..لا نعرف يا سيدي ! ردَّت عليه واحة منهن بكلمات راجفة ..
كذّابة .. كذّابة. صرخ جندي آخر بهن..
ليست هذه المرة الأولى , التي يقبض عليكن بالجرم المشهود ! أكمل مهددا متوعداً..
الصحيح أننا نعرف . ولكننا لا يمكننا العيش بدون هذا الحطب! ردت أمي عليه بشيئٍ من الشجاعة ..
اجتاحت أمي سيول من مشاعر الغضب والتحدّي , مدفوعة بشعورها أنها أكبرهن سناً, وأنها مسؤولة عن سلامتهن .
تقدَّمت خطوتين الى الأمام ,صانعة من جسمها حاجزاً بشرياً , بينهن وبين مجموعة الجنود, متأهبة لتلقي ضرباتهم و إهاناتهم. ..
إرفعن أيديكن مرَّة أخرى..نريد أن نفتش . صاح أحد الجنود..
ماذا!؟ .. ماذا!؟ تريد تفتيشنا !؟ صرخت بهم أمي مذهولة..
نفتش ثيابكن بحثاً عن المُهرَّبات من الأردن.. صرخ بها الجندي بتلذذ..
تفتشون أجسامنا بعد ان نموت. ردَّت عليه أمي متحدية ..
أليس لكم أمهات وأخوات.. كيف تقبلون بهذا العمل.!؟ والله عيب عليكم ..عيب على شرفكم . إستغاثت إحدى الحطابات .
إسكتي .. إسكتي أنت.! ان هؤلاء لا يعرفون العيب . أسكتتها أمي..
رفعت أمي الفأـس متحدية الجنود ,الذين بدأوا يقتربون من الحطابات , مصوِّبين بنادقهم نحوهن . وعندما اقتربوا منهن , بدأوا بمدِّ أيديهم الى أجسامهن وثيابهن , وهن يتراجعن الى الوراء , محاولات الابتعاد عن أيديهم , التي كانت تهاجمهن بشراسة, وملأ زعيقهن واستغاثاتهن أجواء البراري .
إرموا أسلحتكم على الأرض .. وابتعدوا عن النساء.. وإلا أفرغت كل هذه الرصاصات في رأسه ! إرتفع صوت اسكتَ كل الضجيج الذي كان يسيطر على المكان.
نظر الجنود والنساء باتجاه الصوت, فإذا به محمود القنيري يحمل بندقية, ويضعها في رأس أحد الجنود .
لقد خرج من وراء الصخرة , واختطف بارودة أحد الجنود وصوبها نحوه , فتجمَّد الجندي تحت فوهتها مستغيثا .. فصرخ فيهم:
سأعدُّ.. حتى ثلاثة.. فإن لم ترموا بنادقكم . سأقتله. واحد..اثنين .أكمل القنيري, وعيناه تقدحان شرراَ.. وقد اعتدلت قامته واستقامت, وارتسمت على وجهه , شعاعات من الزهو المحموم.
رموا بأسلحتهم على الأرض , وهم يرتجفون من الخوف والذهول والإنكسار.
فانسحبوا الى سياراتهم , وأشعلوا محركاتها هاربين من المكان. وعند العصر رجعوا الى البلد .
وتوجهوا الى بيت المختار واسترجعوا بندقيتهم,”وشربوا” الإهانة “وغطوها”..” ولملموا الطابق”,”وتصرَّفوا” وكأن الحادثة لم تقع , وذلك خوفاً من عقاب قادتهم , ومن فضيحتهم أمام رفاقهم الجنود .
بعد هذه الحادثة , تغيَّر محمد القنيري ,أصبح يمشي في طرقات البلد بقامة مرفوعة , وتكشَّفت غطاءات الظلال الكثيفة عن وجهه ,فأصبح أكثر إشراقاً , وبدأ يستجيب لنداءات حبِّ الاستطلاع , التي كانت تلاحقه من قبل أهل البلد , حتى جاء ذلك اليوم الذي تكلَّم فيه..ونشلِ ذلك السر الدفين من أعماق بئر ذاكرته.
كان يجلس بالقرب من أمي ,على كرسيه المعتاد , يشاركها في سماع برنامجها اليومي , وهي “جالسة على” لجن الغسيل.
وإذا به “يرمي”شيئا أنهكه حمله :
سمعتِ عن زينب القنيرية!؟ رمى بسؤال نادر , جعل من فم أمي دائرة متجمدة ..
آه .. سمعت عنها .. ردَّت أمي عليه , وهي تغرف من وجهه, لعلها تستطيع ان تقرأ شيئاً , يُسعفها في تبيان مراميه..
زينب القنيرية , التي كانت تهرِّب السلاح للثوار في معركة قنير . أكمل موضحاً .وهو يتفحَّص بعينيه وجه أمي ليتبيَّن تأثير حديثه عليها..
أنت تعرف “شو ” صار مصيرها!؟ سألت أمي مواصلة استعجاله , في سرد قصته قبل ان يتراجع عن روايتها ..
لا أعرف .. لقد أخذوها من أمامي بعد أن قيدوها وقيدوني . قال والدموع بدأت تتساقط من عينيه ..
كيف !؟ ماذا حدث ؟ استغاثت أمي والدموع تملأ عينيها..
وهنا بدأ القنيري يروي قصته .. وقصة زينب .. القصة التي طال إنحباسها في ذاكرته :
” بعد ان أجبر اليهود أهل قنير على الرحيل , لم نبق إلا أنا وزينب, رفضنا أن نخرج من البلد . قرَّرنا ان نموت في بيوتنا. ولما دخلوا البلد , أخذونا مقيَّدين وقدمونا “غنيمة” للقائد , الذي كان يجلس تحت شجرة السنديان بجانب النبعة , وفي يديه خرائط كان ينظر فيها.
ولما رفع عينيه عن الخارطة وتفحَّصنا .. قال مشيراً نحوي : “هذا إرموا به بعيدا وراء الحدود..(خسارة!) فيه الرصاصات!.
أما هي- مشيراً الى زينب – فاتركوها لي أنا (بحاجة.!) إليها. أكمل القائد وهو يقهقه مع جنوده .
لم تُجدِ صرخاتي واستغاثاتي , مستنجداً ان يتركوها, ويفعلون بي ما شاءوا..حاولت تقطيع القيود, كي أستشهد في الدفاع عنها وأخلِّص نفسي , بعد أن تخيَّلت ما هم عازمون على اقترافه من إهدار لشرفها , فكانت القيود أقوى من طاقتي .
فجرّوني وأنا أصيح من “قحف ” رأسي : ” بجيكم” يومكم .. “بجيكم” يومكم . لن يذهب شرف وكرامة زينب هدراً. كل ظالم وله يومه.”.كل ظالم “وبجيه ” يومه! ” .
توقَّف القنيري للحظة.. مدَّ يده ومسح دموع عينيه .. وفتحهما على مصراعيهما ليرجعا الى الماضي وأكمل:
“كانت زينب واقفة بين جنود اليهود, منتصبة القامة رافعة الرأس يزيِّنه وجه دائري , كأنه رغيف خبز قمح صنع من قمحات قنير ,وتطل منه ابتسامة قنيرية.. تسخر منهم غير مبالية بما يفعلون بها. ولم أراها بهذا العنفوان إلا في يوم زفافها للشهيد حسن الحجاري .
ونادتني وهم يجرّونني , نحو سيارتهم صائحة :
يا محمود! يا محمود! قل لأهل قنير أينما وجدوا:
زينب القنيرية استشهدت وهي رافعة الرأس.
بشِّرهم أن قنير ستعود الى أصحابها ,وسيأتي اليوم الذي سيعودون إليها ..
يا محمود بشِّرهم .. بشّرهم يا محمود ..
كانت مرتفعات الروحة تتجاوب مع صوتها .. وتردَّده باكية ..
كان يروي احداث قصته , وعيناه مفتوحتان على مصراعيهما , وكأن أحداثها تحدث أمامه, وينقلها بصورة حيّة ومباشرة .
وعندما لفظ آخر كلمة من قصته, أسلم نفسه الى حضن نحيب شديد يقطع القلوب .
وبعد ان “أخذت أمي روعها” من البكاء , همست بصوت مخنوق :
والآن عرفت..لماذا استمتَ في تخليصنا من جنود حرس الحدود.
لقد رأيت في كل واحدة منكن زينب ..إنها مشاهد لن تعود مرة أخرى.
لن تذهب تضحيات زينب القنيرية هدرا !”.أكمل والتحدي ينطلق من عينيه .