المنير في الوساطة والتجسير
تاريخ النشر: 22/11/11 | 1:48زمان كان كل بيت الو كبير وكانوا يقولوا اللي ما إلو كبير ما إلو تدبير.
كانوا يهبون إلى حل الخلافات ورأب الصدع والتدخل لحل الأزمات والمشاكل ويبذلون الجهود والوقت وحتى الأموال لفض النزاعات.
كانوا ما يشربوا القهوة إلا إذا لبيت مطالبهم.
كانوا يقولون حط الطويلة على القصيرة وكذلك كبرها بتكبر وصغرها بتصغر.
كانت أغلب الخلافات والنزاعات والطوشات تحدث على خلفية مشادات بين الصغار ( بخلاف اليوم ) وتتوسع حتى يتدخل أهل الخير والنخوة ويقولوا :- يا عمي شو بدك تلاحق الصغار واللي بيلاحق الصغير عقلوا صغير !! ( وإنما توقد النار من صغار الشرر ).
كان كبير العائلة يتحدث والباقي يصغي ويصمت ويقبل ولا يجرؤ على الاعتراض , وقد يقول البعض بالحوار والنقاش والإقناع والحق , لكن هناك مقاييس أخرى كثيرة يأخذها هذا الكبير بعين الاعتبار في حكمه وقراره وليست بالضرورة أن تكون مقبولة على الصغار وخاصة الشباب كالتسامح والتنازل وتلاشي الأمور والمشاكل ووأدها في مهدها لأن الشر لا يجر إلا الشر والخلافات تورث الكراهية والبغض والحقد وتؤذي القلب والعقل والنفس.
كان في حكمة الكبار وتجاربهم ما يجلسهم مجالس القيادة والزعامة والوجاهة .
الوساطة التي كانت والتدخل والسعي في الخير وحل الخلافات وإيجاد الحلول التي ترضي الأطراف بقليل من التنازل من قبل الطرفين صار يسمى اليوم بالتجسير .
كانوا يقولون شرارة بتحرق حارة .
ومجنون رمى حجر بالبير بدك مئة عاقل يطلعوه .
وتتصالح الناس في الأفراح والأتراح .
كان الرجل يقول إحنا طمعانين بكرمك يا أبو فلان وبنتأمل ما تفشلنا فيجيب على الفور :- أبشر ما انتو وجه فشل .
كانت أغلب الخلافات تحل بعيداً عن المحاكم في العشيرة أو القبيلة أو العائلة والبلدة فتعقد الهدنة وتتم المصالحة وكان الرجل فيهم على قدر كلمته ويحفظ العهد ويحترم الوعد والمواثيق وكان الغدر ونقض العهد من شيم اللئام على الكرام .
كان الوجيه والواسطة يتدخل في الخلافات الزوجية المستعصية ويرد المرأة الزعلانة إلى بيت زوجها ويتدخل ويتوسط في الخطبة والزواج .
ويتدخل في الخلافات بين الجار وجارة والقريب وقريبه وبين طرفي كل نزاع ويبذل الجهد والوقت وأحياناً يؤذى ويهان ويخيب ولا يلبى طلبه لكنه لم يكن لليأس عنده مكان وكان يصبر ويتحمل ويحاول ويحاول ويقترح ويذهب ويعود ويتعب حتى ينال شرف المصالحة وتجاوز الأزمة وإعادة المياه إلى مجاريها .
كانت عادة ما تتشكل مجموعة من أهل الخير التي تسعى في الصلح وكان الوسيط هو الضامن الذي يتحمل أي نقض في بنود الاتفاق والصلح وهو مطالب بتحقيقه وتنفيذه .
صحيح أنه كانت تتشكل مجموعات أو تقوم أفراد بتقمص الدور والظهور بمظهر الساعي بالخير وتشتغل في تكريس الخلاف وتوسيع رقعته من خلال التلاعب بالأطراف والقيل والقال ودس الجُمل وبلورتها وتبطينها وكانت لها أهداف ومصالح في ذلك (لغرض في نفس يعقوب) أو كي تضعف الطرفين وتكون هي الرابحة من استمرار وتأجيج وتوسيع هذا الخلاف وترسيخه لكن المساعي الحميدة كانت تكتب بماء الذهب وتخلد وتقدر بين الناس .
كان التناغم والتناسق بين الرجل وامرأته وكانت على الغالب وحدة الموقف والاتفاق حتى لو كنا نسمع الكلمة كلمة الرجل وكذلك شاوروهن وخالفوهن لكنها كانت مجرد مونولوجات لأن الحياة والعشرة كانت مقدسة وكانوا يجدون القاسم المشترك البسيط للمضي قدماً ومتابعة المسيرة الحياتية .
بالطبع كانت الخلافات وخاصة في بداية الحياة الزوجية وكذلك في الظروف الصعبة واختلافات الطباع والأمزجة لكن لم يكن التوجه إلى الشرطة والمحاكم لفض النزاعات وإبعاد الرجل عن بيته وأولاده والانفصالات وحالات الطلاق والخلع كما نعهدها اليوم .
صارت الأمور اليوم غير , صرنا نسمع :- من تدخل في ما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه ويا داخل بين البصلة وقشرتها ما بينوبك إلا ريحتها , وشو بدك بالهم اللي اسمه خميس , فخار يكسر بعضه , مخصنيش مدخلنيش, إنت بحالك وأنا بحالي , كل واحد يقلع شوكه بإيديه وامشي بجنازة ولا تسعى بجوازة ومالك ومال وجع الراس وحايد عن ظهري بسيطة وغيرها من الجمل التي تستثمر في غير موقعها ومكانها ومقامها الصحيح الدقيق .
ليس من باب التباكي على الماضي بقدر ما هو أسف على الحاضر وقلق من المستقبل القادم وخاصة أننا نرى أن الحال لا يبشر بالخير فالتفكك الأُسري والعائلي والاجتماعي في مجتمعنا في ازدياد مخيف والعنف في استفحال والعلاقات في خفوت وبرود واضمحلال وحالات الطلاق المتزايدة والقضايا في المحاكم الشرعية والمدنية بأعداد وكميات وأنواع تفوق الخيال .
وليس من فراغ أن ينادى بالتجسير في أيامنا هذه كأسلوب ونهج وأداة .
هذا الذي اشتق من جَسْرِ الهوة والهاوية والربط بين طرفين والوصل بينهما بجسر يتجاوز التباين والبعد والخلاف فيقرب البعيد ويسهل التواصل ويحقق الراحة ويوفر الجهد والطاقة , هذا التجسير لا يحمل في ثناياه إلا الوساطة والتدخل والسعي التي نادى بها الإسلام الحنيف
وقد اهتمَّ الإسلام بمسألة احتمال وقوع الخلاف بين المؤمنين وأخذها بعين الاعتبار ؛ وذلك لأن المؤمنين بَشَر يخطئون ويصيبون ، ويصعب أن تتَّفق آراؤهم أو تتوحَّد اتجاهاتهم دائماً ، ولهذا عالج الإسلام مسألة الخلاف على اختلاف مستوياتها بدءاً من مرحلة المشاحنة والمجادلة ، ومروراً بالهجر والتباعد ، وانتهاءً بمرحلة الاعتداء والقتال، والإسلام دين ينادي بالصلح ويسعى له، وليس ثمة خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة يصلح فيها العبد بين اثنين ويقرب فيها بين قلبين ، فبالإصلاح تكون الطمأنينة والهدوء والاستقرار والأمن وتتفجر ينابيع الألفة والمحبة .
ولهذا كان إصلاحُ ذاتِ بَيْنِ المسلمين وصلاحُ حالِهم، أفضلَ من درجةِ الصِّيام والصَّلاة والصَّدقة، وذلك لما فيه من حُسْنِ المعاشرة والمناصحةِ والتَّعاون على البِرِّ والتَّقوى، وكان من أفضلِ الصَّدقاتِ التي يحبُّ اللهُ ورسولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مَوضعَها، ومن أنفعِ التِّجارةِ بين العبدِ وربِّه، كما قال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي أيُّوبَ ـ رضي الله عنه ( أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى تِجَارَةٍ؟)، قال: بلى؛ قال: (صِلْ بَيْنَ النَّاسِ إِذَا تَفَاسَدُوا وَقَرِّبْ بَينَهُم إِذَا تَبَاعَدُوا).
وفي محكم التنزيل قال تعالى :- ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (الحجرات: 9) .
وقوله عز وجل ::-) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ((النساء:35).
وقوله تعالى (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) ) الشورى :40).
وقوله تعالى: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين )
( الأنفال:1).
وقول الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون )
( الحجرات:10).
وقال تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ) (النساء:114).
وقال الله عز وجلَّ : (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46).
قال تعالى : ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير )(النساء : 128).
وقال تعالى 🙁فمن خاف من موصٍ جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) (البقرة : 182).
وقال تعالى 🙁 ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ) (البقرة : 224).
وعن أم كلثوم بنت عقبة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال : (ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً أو نمى خيرا، وأما الإصلاح بين الناس فشعبة من شعب النبوة والصرم بين الناس شعبة من شعب السحر).
وعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ عن رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟)؛ قَالُوا: بَلَى؛ قَالَ: (صَلاَحُ ذَاتِ البَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ) (لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ).
وحث الإسلام المسلمين أن يسعوا في الإصلاح ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري : (رد الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن)، (من تفسير القرطبي :ج5 ص384).
قال شيخُ الإسلام ابنُ القيِّم: (الصُّلحُ الجائزُ بين المسلمين هو الَّذي يُعْتَمَدُ فيه رِضَى اللهِ سُبحانه ورضَى الخصْمَيْنِ، فهذا أعْدَلُ الصُّلحِ وأحقُّه، وهو يَعْتَمِدُ العلمَ والعدلَ، فيكونُ المُصْلِحُ عالما بالوقائعِ، عارفًا بالواجبِ، قاصدًا للعدلِ، فدرجةُ هذا أفضلُ من درجةِ الصَّائم القائم…) وهذا سِرٌّ بَديعٌ في فقه الإصلاحِ .
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه : ( من أصلح بين اثنين أعطـاه الله بكل كلمة عتق رقبة ).
وقال الأوزاعي : (ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة من إصلاح ذات البين ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار ..).
وقال الشاعر :-
إن المكـارم كلها لو حصلت …… رجـعت جمـلتها إلى شـيئين
تعظيم أمر الله جـل جـلاله …… والسعي في إصلاح ذات البيـن
إن ما احتوته وتضمنته الشريعة الإسلامية من حث على التجسير ورأب الصدع والوساطة وإصلاح ذات البين وما احتوته اللغة والأدب من مواقف وقصص في هذا الباب لهو خير دليل على سبقها وتفردها فيه والتشديد على أهميته وضرورته والحث على العمل به .
ها نحن نرى فشل العديد من البرامج التربوية , والمشاريع الوقائية والإرشادية والعلاجية والنظم والتعليمات واللوائح المستحدثة البراقة والفشل في النظريات والتخطيط والتطبيقات والآليات والتنفيذ والدليل على ذلك النتائج والأوضاع التي نعايشها فلا السلام طل ولا الأمان حل ولا العنف قل ولا الشر ذل ولا الجهل فل ومل ولا الخير هل وظل .
إن العودة إلى هذه الأسس والثوابت ما هو إلى اعتراف بعجز مدارس التربية وعلم الاجتماع وعلم النفس في تحقيق الأهداف المرجوة وإقرار بأن الأسلوب التربوي والاجتماعي الإسلامي والتهذيب والمعاملات والحقوق والواجبات هو مفتاح السعادة والاستقرار الاجتماعي والحياة الفاضلة .
من هذا المنطلق لا يعقل أن تدرس سائر الشعوب ما لدينا من نظام اجتماعي مبني على التراحم والتكافل وتتبنى العديد من جوانبه وتصقله وتبلوره وتعتمده في مجتمعاتها بينما نعرض عنه نحن ونتوجه لتبني نظمهم الاجتماعية الفاشلة التي يضجون منها ونغرق في تقليد جوانبها السلبية ونفاخر بها بأنها تقدم وتطور وحضارة .
الشريعة الاسلامية..العادات والتقاليد.. الاساليب التربوية….القانون والمحاكم..
والاطر المهنية لمحاربة ظواهر العنف..كلها اساليب وانظمة لتسيير الامور الحياتية
نحو حياة طبيعية بها استقرار سلام وامان…
الحياة الاستهلاكية بمستواها الحالي سببت خلل ومشاكل بين التاس…هذه الحياة
تلزمنا مواكبة التغيير بتطوير المفاهيم ثقافيا وجوهريا…
مجتمعنا بحاجة الى نهضة ثقافية..لتطوير السلوكيات العقلانية..لصقل الشخصية
الحديثة التي تجعل الثقافة نهج يومي ..من خلاله ننمي مكارم الاخلاق والسلوكيات
الابجابية….الفشل حاصل بمجتمعنا للتخلف الثقافي الذي نعاني منه..
استاذي الفاضل..حياك الباري وجمل ايامك بالعطاء الخالد..
مقالاتك جوهرية المعاني والمضامين..بوركت .والى الامام..
قلتها بالبدايه الي ما الوكبير ما الو تدبير …….. احييك استاذ مقالنك تعالج حالنا واي حال حالنا