“يوم الاسير” قبل وبعد اكتوبر، يوم الوجع الفلسطيني
جواد بولس
تاريخ النشر: 20/04/24 | 17:01احتفى الفلسطينيون قبل يومين بيوم الأسير الفلسطيني الذي يحل في السابع عشر من شهر نيسان/ أبريل من كل عام ؛ وهي الذكرى التي يؤكد فيها شعب فلسطين وفاءه لأبنائه الذين ناضلوا خلال العقود الماضية، وما زالوا يناضلون، ضد الاحتلال الاسرائيلي، وسجنوا وضحوا بحرياتهم، وبحيواتهم احيانا، في سبيل تحقيق مشروع التحرر الوطني الفلسطيني واقامة دولتهم المستقلة.
أكتب مقالتي في هذه المناسبة وقلبي مقبوض بالغصّات؛ لعل اقساها وآخرها كان رحيل “اسير الميلاد والامل”، وليد دقة بعد سبعة وثلاثين عامًا قضاها خلف القضبان “كسيف الوطن المسلول”، حيث لم تقدر عليه، خلالها، مخالب السجن ولا سياط السجان، الى أن تمكن منه المرض وانهكه؛ فغاب وابقى لنا تراتيل “زمنه الموازي”، بينما ما زالت اسرائيل تحتجز جثمانه وجثامين 27 اسرى اخرين.
واتذكر، على ضفة الوجع الثانية، حلول الذكرى الثانية والعشرين لاعتقال القائد مروان البرغوثي الذي اختطفته قوات الاحتلال من داخل رام الله في الخامس عشر من نيسان/ابريل عام 2002 بعد ان سجّل مسيرة حافلة في النضال السياسي والميداني، واعقبها بموقف القائد القدوة خلال محاكمته، ثم مضى أسير اصراره صامدا على درب العزة، فكان رمز التحدي والوحدة والاتحاد.
لقد حلّت هذه المناسبة هذا العام والشعب الفلسطيني يمر في ظروف مصيرية ومعقدة؛ زادتها تداعيات احداث السابع من اكتوبر الفائت تعقيدا وضراوة وغموضًا.
لا أحد يعرف متى وكيف ستوقف إسرائيل حربها المدمرة على غزة، ولا ما هي مآلات هذه الحرب وتداعياتها التي قد تتدحرج بخطورة وتهبّ نيرانها لتشمل مناطق ابعد من غزة وكامل التراب الفلسطيني، كما يظهر من عدة مؤشرات. كما ويشير حدسنا بما تضمره حكومتها الحالية التي لا يخفي معظم وزرائها نهمهم ورغبتهم باشعال المنطقة واغراقها “بأضغاث احلامهم” المبيتة، وقناعة بعضهم بان اسرائيل تعيش، هذه الايام، في عصر تحقيق نبوءة انبيائهم حول حتمية اندلاع حرب “اجوج وياجوج”. انهم يحاولون بنيران حروبهم كتابة سفر التكوين من جديد حيث ستصبح الارض كما كانت “خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة”، ونهاية الحكاية، كما جاء في كتبهم.
انها حرب مفتوحة ضد الفلسطينيين اينما تواجدوا، وفي سجون الاحتلال طبعا؛ فالحركة الاسيرة الفلسطينية” شكّلت في مسيرتها الكفاحية أحد أوضح محاور الاشتباك الدائم مع الاحتلال الاسرائيلي؛ وعكست، منذ البدايات، فهم المقاوم الفلسطيني لدوره في مسيرة التحرر: فلا مساومة مع الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى، لا صمود من غير تأطير كوادر الاسرى في جسم موحد، وتخطّيهم لهوياتهم “الفردية” “والفصائليه”، من دون أن يتنازلوا عن قناعاتهم الفكرية والسياسية المختلفة.
قد يحسب البعض، مخطئين، بأن الكتابة عن اسرى الحرية الفلسطينيين، في “زمن الموت” الذي تعيشه فلسطين، فيه نزعة من طبع “النزق” والشت عن راهنية الدم ؛ فالأسير، هكذا يظن هؤلاء، مهما ادلهمت عليه الليالي وتنمّر بردها، ينام بمأمن من قصف الطائرات، ويصحو على همهمة غيمة كانت وسادته في الخيال. أحقا؟
يبلغ عدد الاسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال 9600 اسير، من ضمنهم 3660 اسير اداري (المعتقلين بذرائع امنية وبدون تقديم لوائح اتهام بحقهم) وبينهم 22 امرأة و 40 طفلا (من تقل اعمارهم عن 18 عاما). ويبلغ عدد الاسرى الاشبال/الاطفال 200 اسير، اما عدد الاسيرات 80 اسيرة وعدد الاسرى المرضى يناهز 800 اسير، بينهم العشرات يعانون من امراض عضال او مزمنة وخطيرة . اما عدد من صنفهم الاحتلال كمقاتلين غير شرعيين فبلغ 849 ؛ وتوفي في السجون الاسرائيلية منذ السابع من اكتوبر 16 اسيرا.
لقد رفع الاسرى شأن المصلحة الفلسطينية العليا الى مرتبة شبه “مقدسة”، ومضوا يشيدون، داخل السجون الاسرائيلية، كيانًا حرًا ألتزم أفراده بممارسة حياتهم اليومية بانضباط متفق عليه ووفق قيم نضالية وانسانية واخلاقية اثبتت جدارة تضحياتهم الفردية، وابهرت سجانيهم/ أعداءهم وفرضت عليهم التعامل مع الاسرى الفلسطينين، باحترام نسبي، كجسم واحد وليس كأفراد ضعفاء ومكسورين ومشتتين، كما كان الاحتلال يخطط له ويرغب بتكريسه. لم تكن تلك المسيرة سهلة؛ فلقد حاول السجان الاسرائيلي” تدجين” الاسرى الفلسطينيين بعد الاحتلال مباشرة حين قررت محاكمه ان تعاملهم “كجناة وارهابيين” وتفرض عليهم احكامها وفق ذلك المنطق. كان هدف المحاكم العسكرية ليس فقط معاقبة المناضلين الفلسطينيين وحسب، بل ردعهم وتيئيسهم وكذلك ردع اجيال المناضلين القادمة؛ وكان دور السجون هو النيل من “أرواحهم” والتحكم فيها وإبقاء كل واحد منهم مجرد “فريسة” لا أمل لها ولا حيلة إلا في “حضن السجان” ومننه.
افشلت الحركة الاسيرة كل محاولات كسرها وصدت جميع مكائد الاحتلال الاسرائيلي ومؤامراته ضدها؛ بيد انه مع مرور السنين والتغييرات التي طرأت على الحالة السياسية والاجتماعية الفلسطينية وتراجع مكانة القضية الفلسطينية في المنطقة وتأثرها بقواعد لعبة الامم ومصالحها المتغيرة، حصلت بعض التصدعات داخل الحركة الاسيرة، مما ادى الى اضعاف مكانتها كحصن آمن ومنيع لجميع الاسرى داخل السجون، وتراجع دورها الوطني العام وشرعيتها في التأثير على المشهد الفلسطيني باعتبارها جبهة كفاحية موحدة وبوصلة ثابتة كانت ترشد من تاه، افرادا او قيادات او فصائل، الى المقدس الوطني الذي كان يختزله شعار: الوحدة ثم الوحدة وليبق العدو اولا واخيرا هو الاحتلال الاسرائيلي.
من المؤسف ان حالة الضعف التي بدأت علاماتها تظهر على جدران زنازين الحركة الاسيرة وبوادر التشرذم لم تدار ولم تداو من قبل من كانوا امناء على سلامتها ومناعتها؛ فبالرغم من ان جميع القوى الوطنية والاسلامية شعرت بها وقدّرت مخاطرها القاصمة لم تواجهها بل قام بعضهم بتبنيها وبتزويدها بفتائل الاشتعال. لقد كان وما زال الانشقاق بين حركتي فتح وحماس اقوى من دوافع ودواعي التغلب على الفرقة على مستوى الوطن وداخل السجون ايضا، فساهمت تلك الانشقاقات باقناع الاحتلال ان الحركة الاسيرة اصبحت “فريسة” سهله راح يطاردها بكل غرائزه الدموية ونهمه الذي لا يعرف شبعا.
لقد كان متوقعًا او طبيعيًا ان يتغير الوضع الداخلي الفلسطيني بعد السابع من اكتوبر، لكن ذلك لم يحصل، وبقيت احوال “الفلسطينيتين”، فلسطين منظمة التحرير وفلسطين الاسلامية، على ما كانتا عليه، او انها صارت اسوأ؛ فغزة، بعد السابع من اكتوبر، صارت تبدو ابعد عن رام اللة واحوال الحركة الاسيرة اخفاها الغبار.
لننتظر ونتمنى؛ عسى الايام تزوّدنا بالاحسن.
جاءت ردات الفعل الاسرائيلية بعد السابع من اكتوبر مجنونة؛ ولم تترك للاسرى فرصة حقيقية لترجمة تداعيات المشهد وتوظيف الراهن الفلسطيني كمؤثر مستجد يستدعيهم لاعادة النظر في واقعهم الذي كان ملتبسا قبل ذلك التاريخ. لقد انهالت الضربات على الاسرى بصورة غير مسبوقة ببشاعتها ووحشيتها وحولت حياتهم الى جحيم طال جميع مرافق حياتهم، واستهدف مكانة قياداتهم والاعتداء الجسدي الخطير عليهم وعزلهم المطلق عمّا يجري في الخارج، وتفكيك البنى القيادية الهرمية بينهم، حتى بات التواصل العادي بينهم شبه معدوم .
لم تكن مخططات حكام اسرائيل الجدد قبل السابع من اكتوبر مختلفة عن مخططاتهم اليوم؛ لكنهم شعروا، بعد السابع من اكتوبر، بأن السيف قد وقع وبأن فرصتهم صارت ناجزة وممكنة. ولم يتعظ الاسرى الفلسطينيون قبل السابع من أكتوبر من اهوال الفُرقة ومن الاحترابات الداخلية ومن سياسات طأطأة الرأس، ولم يتعظوا بعده؛ فلو فعلوا، لو، لكانت اوضاعهم اليوم مختلفة، ولكان ثرى فلسطين يحتضن جثامين من سقطوا في الاسر، والمرضى لا ينتظرون مصير رفيقهم وليد ومن رحلوا قبله وكان، وكان ..
اقول هذا بحسرة وبوجع وبملامة، لا استثني منها احدا.