الوحدة والمسؤولية قبل غزة وبعدها
جواد بولس
تاريخ النشر: 11/05/24 | 9:49أفاق المواطنون العرب في اسرائيل صباح يوم الاربعاء الفائت، على مشاهد عملية هدم 47 منزلا تعود لعائلة أبو العصا في منطقة” وادي الخليل” قرب قرية “أم البطين” جنوبي البلاد. ويذكر ان عملية الهدم قد تمت بعد ان رفضت المحكمة العليا الاسرائيلية التماس السكان اصحاب البيوت، وقبلت الموقف الرسمي الاسرائيلي بحجة أن البيوت قد بنيت بدون تراخيص على أراض تملكها الدولة.
تعاني جميع البلدات العربية في اسرائيل، ومنذ سنوات طوال، من ازمة في البناء وسياسة هدم البيوت بحجة عدم حصول اصحابها على التراخيص؛ ويكفي ان نتابع نشرات الاخبار المحلية في الاشهر القليلة الماضية حتى يتكشف لنا حجم هذه المأساة التي تجسد في الواقع أحد اوجه سياسات الاضطهاد والعنصرية الاسرائيلية القديمة/الجديدة. لكن عملية الهدم هذه المرّة تحمل مؤشرًا جديدا على خطورة سياسة الحكومة الاسرائيلية الحالية الترهيبية والاقتلاعية تجاه المواطنين العرب، وامعانها في تنفيذ خططها الرامية الى “تدجينهم” وتشديد الخناق عليهم، ليس في قضية السكن ومصادرة الاراضي وحسب، بل في جميع مناحي الحياة العامة واليومية.
لقد نشر مركز “عدالة” قبل اربعة أيام تقريرا بعنوان “ملاحقة الطلبة الفلسطينيين في المؤسسات الأكاديمية الاسرائيلية خلال الحرب على غزة” وذلك في اعقاب حملات القمع غير المسبوقة التي شنتها الجامعات والكليات الاسرائيلية على الطلاب العرب منذ بداية العدوان الاسرائيلي على غزة وضد حرية التعبير. وأكّدت “عدالة” على أن اجراءات المؤسسات الأكاديمية تأتي “وسط حملة تحريضية منظمة ضد المواطنين الفلسطينيين في الداخل، تهدف الى تجريم وقمع أي معارضة للعدوان الاسرائيلي على غزة. وقد قامت عدة جامعات باحالة الشكاوى ضد الطلاب الفلسطينيين الى الشرطة الاسرائيلية مما ادى الى اعتقالهم و/أو توجيه التهم اليهم” والشروع، احيانا، باجراءات تأديبية ضد الطلبة بسبب مواقفهم المعلنة.
لقد قرأنا عن تداعيات قضية بروفيسور نادرة شلهوب كيفوركيان التي ما زالت تواجه ملاحقة عنصرية من قبل الشرطة الاسرائيلية بعد ان رفعت ادارة الجامعة العبرية حمايتها عنها؛ وقرأنا كذلك عن بعض الحالات الاخرى المماثلة؛ لكننا لم نسمع ولم نقرأ قصص مئات المواطنين الذين وقعوا ضحية لسياسة الملاحقة الارهابية وبعضهم قد سجنوا أو طردوا من جامعاتهم او من اماكن عملهم. نحن اذن ازاء حملة قمع عنصرية واسعة تدل على استحكام هذا “الفقه” وانتشاره كحالة مهيمنة في الشارع اليهودي وفي جميع مؤسسات الحكم والادارة في الدولة. لقد تحولنا جميعًا، كمواطنين فلسطينيين، خاصة بعد السابع من اكتوبر، الى أهداف محتملة امام تلك السياسة، حتى لو اعتمدنا سبل التقية والحذر الاخرس أو الانساني المتأني كما حصل مثلا مع الطالبة الفلسطينية التي تلقت اشعارا مفاجئا بتعليق دراستها في كلية اسرائيلية بسبب نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي صورة رجل فلسطيني يجلس وسط الانقاض في غزة، مصحوبة برمز تعبيري (ايموجي) على شكل قلب مكسور. وبعد تقديم مركز عدالة لاعتراض على قرار الكلية، استدعت الكلية الطالبة الى جلسة تأديبية حيث قال خلالها احد أعضائها: “في حين تدور حرب في الخارج، فمن المثير للصدمة ان ترى شخصا من الوسط (العربي) ينشر صورة تتعاطف مع غزة.” على الرغم من اعتراض “عدالة” أدانت اللجنة الطالبة وفرضت عليها عقوبة تعليق الدراسة لمدة عام، بالاضافة الى الغاء منحة تعليمية كانت قد حصلت عليها سابقا. ورفضت الكلية استئناف “عدالة” على القرار؛ كما جاء في تقرير مركز “عدالة” المذكور.
لن يراهن عاقل على ما تخفيه الايام المقبلة لنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل؛ فكل المؤشرات تدل على أن القادم سوف يواجهنا بظروف أخطر وأشد قساوة؛ ولا يكفي في سبيل مواجهتها ان نعلق آمالنا على الاحتجاجات التي تشهدها مدن وعواصم العالم ودولها وجامعاتها، ولا اعدّ بينها الجامعة العربية، حتى لو استبشرت قلة منا فيها الامل؛ أو، كما يؤمن البعض بيننا، قيادات وشعبًا، بدنو اجل النظام الغربي، وفي مقدمته البيت الابيض، واندحار اسرائيل واقامة امبراطورية الخلافة الاسلامية ودخول الاسلام الى كل بيت في قارات المعمورة وفي طليعتها بيوت الامريكيين والاوروبيين. حينها ستصبح، وفقا لرؤاهم، القدس عاصمة الخلافة الموعودة.
ولكل امرء حلمه وعقيدته ..
ستبقى تحدياتنا الحقيقية التي نقف امامها اليوم موجودة بعد انتهاء الحرب على غزة، او ربما ستكون بعدها اكبر واخطر وأكثر تعقيدا؛ واعتقد ان هذا ما رمى اليه مازن غنايم، رئيس بلدية سخنين، في حديث له امام وفد لجنة المتابعة العليا لمتابعة شوون الجماهير العربية في اسرائيل، الذي جاءه مهنئًا بعد انتخابه رئيسا لللجنة القطرية لرؤساء المجالس المحلية العربية ، حين قال: “ان تحديات مجتمعنا المتراكمة، في جميع مناحي الحياة كبيرة وتستلزم تجميع قدراتنا الى أقصى درجات الوحدة والمسؤولية”. ولا يخفى على احد ان من بين هذه التحديات، علاوة على بناء الوحدة العسيرة داخل اللجنة القطرية للرؤساء، وايجاد السبل النافعة للعمل مع “لجنة المتابعة العليا” لتجسيد وضمانة انجاح معادلة تكامل الادوار وتوثيق “الصلة بين السياسي الوطني والمدني الخدماتي”، سنجد، كما اكد في حديثه: آفة الجريمة والعنف، وقضايا الارض والمسكن والتربية والتعليم وضمان حق مجتمعنا العربي في الميزانيات والموارد الحكومية. وقد يضيف البعض مثلي ايجاد الحلفاء من بين اليهود، فمعهم ستكون جبهتنا في وجه الفاشية والفاشيين أمتن.
اتمنى لمازن غنايم أن ينجح في مهامه الصعبة وان يحقق الوحدة وأن يجد شركاء له في تحمّل المسؤولية، عربا بالطبع وربما بعض اليهود الذين ما زالوا يؤمنون بان حروب الدم لها منطقها الشيطاني ونهاياتها المفجعة؛ فنحن في زمن كدنا ان نفقد فيه الأمل بعد أن ضيعنا البوصلة امام اسرائيل التي تحوّلت الى فضاء عدمي وكيان رافض لايفائنا حقوقنا الاساسية وراحت تفتش عن خلاصها بين انقاض غزة وضباب مدافع جيشها. لقد قلت اسرائيل واخاف من هذا التعميم الذي يدفعني الى حافة اليأس ونحو غريزة الهروب حيث تقف بيني وبينه كهولتي وكلمات قلة من يهود يخافون مثلي من منطق الدم وروائح المذابح. ساستعين في هذه العجالة بما كتبته فتاة يهودية تدعى “مايا كيدم” على صفحتها، ففيه الوجع وفيه الامل ايضا ؛ فبالرغم من انها فقدت، في السابع من أكتوبر، ستة من ابناء عائلتها في كيبوتس نير عوز (اختها وزوج اختها وثلاثة اطفالهما وام الزوج) وجهت رسالتها لشعبها وقالت : “لم يكن موت عائلتي مبررا. الحسرة والوجع والحفرة التي في القلب كلها لي، لكن الكارثة ليست لي وحدي. عائلتي الجميله المحبة للسلام وللنور، عائلتي ملائكتي، ستة ارواح اختفت من هذا العالم في يوم واحد هم ليسوا لي وحدي. الاف قتلوا في يوم واحد وبيوت دمرت .. كل هذا ليس لي وحدي، عشرات الالاف ماتوا في غزة والاعداد ما زالت تتزايد. جوع ودمار وخراب باحجام لم تتكشف في وسائل اعلامنا. كل هذا يحصل باسمنا. هذه هوة تحفر منذ زمن طويل. اذا كنتم مستعدين ان تحيوا في هذا المكان ومع من باسم الجبن والانتقام والأنا يختار منذ نصف عام طريق القتل الذي لا مستقبل له بدل الاتفاقيات التي تضمن لكم المستقبل، فليكن هذا مكانكم. انا لا اتمنى ان تتالموا مثلي ولا اطلب منكم الشفقة، بل اقول: كفى لهذه الحرب الملعونة، كفى لهذا الدم المسفوك. فقط السلام يجلب الامن.. ما الجنون بقول هذه الجمل وما المستهجن فيها؟ اسال بجدية لانني برغم الضربة التي المت بي ما زلت مؤمنة بذلك. لا اريد ان اخجل. ليخجل من قدّس كل حياته للقوة والعنف الذي انزل علي وعلى عائلتي هذا الدمار. من غير المعقول ان تكون الحرب هي فرصتنا الوحيدة في هذا المكان. لا تصدقوهم. اكثر من نصف عام ونحن ننفذ بهلوانيات هذه الحكومة المظلمة والواقع يتهدم امامنا وكارثة انسانية رهيبة في غزة. يوجد طريق واحد للخروج من الظلام ومواجهة قوى الشر وهو ايقاف دائرة العنف والشروع في عملية سياسية . ومن لا يفعل ذلك هو عكس القائد وعكس القوي”.
قالت وتركت في النفس أثرا.
قد يقفز الآلاف ليقولوا انها واحدة من شعب لا يؤمن مثلها؛ وجوابي لهم فليكن ! ولكن من كان منا مثلها ليقبلها حليفة على دروب الحياة؛ وقد يقول آخر: بين شعبي عشرات الآلاف الذين فقدوا عائلاتهم ولم يطلبوا الشفقة. أقول: أعرف ودموعي معهم وكل جوارحي، وحكمة لاعب النرد حين قال: “يموت الجنود مرارا ولا يعلمون الى الآن من كان منتصرا”، ومع هذا وذاك سيبقى واجب قياداتنا الاهم هو ان تبني الوحدة القادرة وان تتصرف بمسؤولية الخلاص.