دراسة نقدية في رواية عناق على حاجز إيرز للكاتبة الفلسطينية دكتورة / رولا خالد غانم
تقديم د.عمر محفوظ
تاريخ النشر: 13/05/24 | 7:18توطئة
السرد النسوي
لكل نص خصوصيته التي يتوافق أو تختلف مع غيره من النصوص على معنى أن السرد لا يتقبل الأحكام الكلية أو المطلقة إذ هو رهين ببيئته ورهن أنساقها الثقافية ورهن بمجموعة العادات والتقاليد والأعراف التي تسود بيئة بعينها لكنها قد تكون مغايرة مع بيئة أخرى.
“والنسبية تبيح كذلك لثقافة كل كاتبة وأفقها الثقافي وارتفاع سقف التمرد عندها أو انخفاضه مما انعكس على السرد النسوي”([1]) في طريقة طرحه لموضوعات بشكل جديد من وجهة نظر أنثى عانت وتمردت، فالكاتبة تدخل عالم الكتابة متكئة على مخزون الذاكرة التاريخي واللحظوي.
الذاكرة لا بمعنى التذكر وحفظ الوقائع واسترجاعها.. بل بما هو هي ملكة مقاومة للنفي ولسطوة الموت والفناء. هي مستوى للمتخيل.. وعالم لهذا المتخيل ينزاح في اتجاه استقلاليته، ويملك في هذه الاستقلالية، قدرة هائلة على المراكمة والتداخل.
يحاور الكاتب المتخيل من مسافة الكتابة، ينسج متخيله الخاص، ويعيد ترتيب وتقويم زمن الذاكرة.. فالمتخيل له زمنه، وللكتابة زمنها المختلف.. وبين الزمنين تستمر علاقة الفرد بالواقع أو المرجع من حيث هو، أي الفرد، حضور في هذا الواقع، في نظام العلاقات فيه، في ما يحدد له موقعًا يحكمه ويتجاوزه كفرد.
من عالم المتخيل.. الغائب الحاضر، منه كذاكرة يبليها الزمن، يأتي الكاتب إلى الكتابة زمنًا ضد فنائه، يبني عالم نصه متخيَّلا له نظامه ونسقه، يعيد تنظيم وترتيب وبناء الواقع بالشكل الذي يراه جماليًا وأخلاقيًا، إذ يحاول حوارًا مع هذا المتخيل، يقدمه عملاً أدبيًا سرديًا أو غيره([2]).
لكن الحديث عن كتابة المرأة هو حديث استثنائي، فالمرأة عاشت زمنها، أو زمن متخيلها، دون أن تكون معنية بحفظه وتدوينه، فتسربت ذاكرتها وغدت عرضة للطمس.. دخلت المرأة عالم الكتابة خالية من ذاكرة ثقافية تتكئ عليها وتثبت موطئ قدميها في عالم تأخرت كثيرًا في دخوله، وعندما فعلت أحست بكثير من الغربة في هذا العالم المرتب والمعد سلفًا، والذي لم تسهم هي في بنائه وتأسيسه، وبالتالي لم يكن لها وجود فيه. فالمرأة في اللغة، كما في غيرها من مجالات الحياة، ظلت موضوعًا، وليست ذاتًا أصيلة.
فمن الثابت زمنيًا أن الرجل مارس الكتابة قبل المرأة، وحيث كان سباقًا إلى ميدانها فقد اعتلى عرشها، وادعى سلطانها واحتكره لنفسه، حتى أصبح محور بنيتها وأساس الثقافة فيها، وفرضت بنية التفكير الأبوي نفسها في تشكيل القيم والأعراف الأدبية مثلما فرضت نفسها في تشكيل كافة صيغ الواقع، مما لم يسمح بظهور أدب نسائي يستجيب لرؤى المرأة ويعبر عن تجاربها ووجهة نظرها. فظل الرجل هو صانع خطاب المركز، وهو الذي يرتب صلات هذا المركز بأطرافه قربًا وبعدًا وانقيادًا وتبعية، لاسيما بعد أن اكتشفت الكتابة فغدت نمطًا مفتعلاً في صناعة اللغة وتقنية الخطاب، بحيث غدا الرجل هو منتج المعرفة ومستهلكها. وظلت المرأة على هامش الثقافة، وخارج دائرة الفعل. انفرد الرجل بتدوين المسيرة الإنسانية، وتسجيل الوقائع والأحداث، وصناعة التاريخ، فطغى حضوره، واستولى على كامل رقعة التاريخ، في حين أقصيت المرأة وهمش دورها، وطُمر تاريخها حين غابت عن كتابة التاريخ وصناعة الثقافة([3]).
وتؤكد العديد من الدراسات في هذا السياق أن المرأة كانت حاضرة باستمرار، وأن لها تاريخًا كما للرجل. لكن المشكلة أن تاريخها ودورها لم يحفظ ولم يدون. تقول ديل سبيندر: “لقد صنعت النساء تاريخًا بقدر ما صنع الرجال لكن تاريخهن لم يسجل ولم ينقل، وربما كتبت النساء بقدر ما كتب الرجال، ولكن لم يتم الاحتفاظ بكتاباتهن، وقد خلقت النساء دون شك من المعاني بقدر ما خلق الرجال، لكن هذه المعاني لم تكتب لها الحياة حين ناقضت المعاني النسائية المعاني الذكورية وفهم الذكور للواقع… وبينما ورثنا المعاني المتراكمة للتجربة الذكورية فإن معاني وتجارب جداتنا غالبًا ما اختفت من على وجه الأرض”([4]).
لم تعرف الثقافة العربية، وثقافتنا المحلية كجزء منها، نموذج المرأة الكاتبة إلا في أزمنتها الحديثة، في سياق التحول الثقافي الاجتماعي خلا عصر النهضة، وبعد أن خرج الحديث عن حرية المرأة وتعليمها من عداد المسكوت عنه واللامفكر فيه، إلى عداد القضايا المطروحة للنقاش والأخذ والرد على يد مصيلحي ومصلحات عصر النهضة، ما ساعد على ظهور الوعي النسوي، وتصاعد الدعوات النسوية التحررية الداعية إلى إعادة الاعتبار للمرأة ومنحها الفرصة للمساهمة في كافة مجالات الحياة. عندها جرى توزيع جديد لاقتصاد الكلام بظهور عدد من الأقلام النسائية، وغدت المرأة موضوعًا تؤلف فيه المرأة بعد أن ظلت موضوعًا يؤلف فيه الرجل ويصوغه حسب رؤيته.
لقد كان أكبر رهان واجهته المرأة هو أن تمتلك الكلمة لتعبر عن ذاتها، وقد شكل دخول هذا المجال بالنسبة لها جزءًأ من عملية التحدي والمقاومة وإثبات الذات، وإذا كان هذا ينسحب على كل كتابة إبداعية فإن كتابة المرأة لم تكن تفترض مجرد إثبات ارتباط التجربة الفردية بالوجود العقلاني حسب “الكوجيتو” الديكارتي: “(أنا أفكر، إذًا أنا موجود)، كما هو الحال في كتابة الرجل، وإنما كان على المرأة الكاتبة، قبل ذلك، أن تثبت ذاتها كإنسان لا يقل عن الرجل: (أنا امرأة إذًا، أنا موجودة) ([5]).
لكن قرار الانفصال عن تراث ضخم من الفرضيات الذكورية في مجال الكتابة لم يكن سهلاً، خاصة في مرحلة البدايات حيث اللغة مازالت تحمل ذاكرتها المشحونة بالفحولة. فكان أن أبدعت المرأة إبداعًا محدودًا تنفست فيه قيم الإبداع الذكوري، ولم يكن بمقدور المرأة الكاتبة في بداية تجربتها ألا تعيش تجربة التماهي الرجولي، لأن الكتابة كانت “نمط حياة يسكنها الرجل على الدوام”([6])؛ ولأن الذات المؤنثة لم تكن قد بلغت بعد لحظة الاستقلال والوعي الحقيقي بذاتها الأنثوية في مواجهة ذكورية اللغة. فالذات الأنثوية كانت خاضعة لشرطها الحضاري والنفسي، حيث تنظر حسب قائمة للسمات والملامح المحددة، وتصغي حسب برنامج إعلامي معين، هو ذاك السياق الذكوري الذي تنطفي أمامه الأنوثة والذات المؤنثة([7]). وحيث إن الرجل يعتبر هو الكائن لذاته، بينما المرأة كائن بغيره، فإن قول الرجل كان يأتي دائمًا ممتلئًا، لأنه الأصل، ويأتي قول المرأة فارغًا، بمعنى أنه الصدى للقول الفعلي([8]).
تنتمي رواية عناق على حاجز ايريز للكاتبة الدكتورة / رولا خالد غانم إلى ما يسمى نقديًا بالرواية السياسية، ذلك النمط الذى يغوص فى بنية وعي المجتمع الذى يشهد حراكًا سياسيًا فى محاولة لاستجلاء الفكر السياسى، والوقوف فكريًا عند جدلية الصراع بين المحتل وصاحب الأرض بين المغتصب والقوى الثورية، ومايستتبع ذلك من عمليات قهر وقمع وظلم سلطوى، ورصد ما يحدث فى غزة والضفة الغربية وبيت حانون وبيت لاهيا والمعابر والحواجزو السجون والمعتقلات وغرف التعذيب؛ فالحدث السياسي في هذا النمط من الروايات هو العنصر الفاعل والمحرك لبقية الأحداث لا مجرد أن يكون حدثًا هامشيًا عارضًا …..
خطوات التحليل للرواية السياسية
1- فهم السياق التاريخي الذي ظهرت فيه الرواية
2- وما هي الأحداث أو الظروف التي دفعت المؤلف للكتابة
3- تحليل مضمون الرواية وتحديد الرؤية السياسية التي يحملها المؤلف للكتابة
4- وما هي الرسالة التي يريد ايصالها .
5- دراسة الشخصيات وصفاتها ومواقفها تجاه الأحداث
6- تحليل لغة الرواية وأسلوب الكتابة المستخدمة لفهم كيفية إيصال المؤلف للرؤيته السياسية والتأثير على القارئ
7- وضع الرواية في سياق الأدب السياسي العام وتحليل التأثير الذي تركته في الساحة الاجتماعية
. وهذا ما جعل الروائي “ستندال” يقول: “السياسة فى عمل أدبى مثل طلقة مسدس وسط حفل موسيقي، عالية الصوت وسوقية إلى حدٍ ما”. إن هذه العبارة تشى بحالة من النشاز التى تخلقها الأفكار السياسية المجردة فى العمل الأدبى المتخيل والذى تعد الشاعرية من أهم سماته.
تجدر الإشارة إلى أنه ليست كل رواية تستقي من العالم السياسي مادتها تقع فى تلك المنطقة التى تبعدها عن شاعرية العالم الحكائي المتخيل. إن السياسة حاضرة فى كل الخطابات الأدبية، فهي محور فكري لا يمكن تغافله، فكل شيء مرده السياسة ومرهون بها على مختلف المستويات: الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. ولكن الأمر يتعلق أولًا: بدرجة تفعيل هذه البنية حتى نقول إن الخطاب خطاب سياسي، وثانيًا: أن انتماء هذا الخطاب إلى الجنس الأدبي مرهون بفنية عرض الحدث السياسي ودرجة انصهاره في بنية النص المتخيل؛ لأن الرواية أولًا وأخيرًا عمل متخيل وإن أشار إلى أحداث وقعت بالفعل فى صيرورة الزمن.
كما لا بد من التمييز بين الرواية السياسية التى تتعامل مع الواقع السياسي بمباشرة ودون مواربة، وبين رواية التخييل السياسي التى تعمل على تفعيل تقنية الرمز وتوظيف الأقنعة الاستعارية، هذا النمط يدخل فى علاقة غير مباشرة مع الواقع الراهن الذى يتم تشفيره عبر وسائط كالأسلبة والتهجين والتناص والمعارضة، حتى لا يصطدم الروائي بإحدى حوائط التابو الثلاثة، ومن ثم يتم اللجوء إلى التراث واستلهمامه واستدعاء شخصيات تاريخية واستنطاقها. فتتداخل الأزمنة، ويتقاطع الماضى مع الحاضر فى ظل ذلك النظام المشفر.
إن الخطاب السياسى واضح تمامًا منذ بداية تَخَلُّق سطور الرواية، من الإهداء حتى اللقاء على معبر اريريز.
يتنامى الحكي ويتدافع فى ظل انفتاح النص الروائى (المتخيل) على السياق التاريخى (الواقعى)، فيتطرق النص إلى بعض الحالة السياسية والاجتماعية التى مرّتَ بها عائلة محمد شرف.
وتشتغل تقنيتا الملخص والحذف على الجسد السردى لتلاحق زخم الأحداث وتوالدها. أما الحوار فيأتي مصاغًا بالفصحى وعبره يتم شحن السرد بشحنات أيديولوجية عبر أصوات تتلاقى حينًا عند بؤرة المطالبة بضرورة التحرك ومقاومة إحباطات الفترة، وتتضاد حينًا مع السلطة السياسية التى يُعلِّق عليها البعض.
ويعد الحوار الذى تم نسجه في الرواية ص 6و7 بواسطة نور وشرين وربا وشفاء
فتحت نور الباب فدخلت شيرين من فورها تجرّ صبيّين صغيرين معها..واتجهت إلى الدّاخل..دونما أيّ كلام…تابعتها نور بنظراتها ثم أقفلت الباب برصانة، ولحقت بها إلى لداخل.
شيرين امرأة متوسّطة الطّول، ممتلئة الجسم، ناصعة البياض، عيناها عسليتان واسعتان، دفعت بالصّبيين أمامها، ثمّ نزعت منديلا ورديّا عن رأسها وألقت به على الكنبة المقابلة، ثمّ رمت نفسها جالسة، بينما الجميع يتابعون حركاتها، أخذت نفسا عميقا ثمّ أطلقت ابتسامة عريضة من بين شفتيها، وبادرتهنّ القول:
– من اليوم وصاعدا، ستسأمن خلقتي.
ردّت باستفسار الحاجة عائشة ذات الوجه الأبيض والجبين المشرق العريض المحلّى بالشّعر المفروق الذي تتخلّله خصلات بيضاء، تظهر من تحت حجاب أبيض يتدلّى على كتفيها العريضين:
سنستأنس بك، لكن ما سرّ تراجعك عن البقاء في بيت أهلك بعد اعتقال زوجك؟
ردّت شيرين، وهي تبلع ريقها بصعوبة:
لا يسع المرأة سوى بيتها يا خالتي، كما أنّهم لن يفرجوا عن (فارس) قبل عامين، وكما تعرفين والدتي لم تعد تقوى على مقارعة الأطفال، وقد صرت بعد معاركتي للحياة إنسانة تعجبك..قويّة بما يكفي لا تهاب شيئا.
– ما شاء الله حولك ..يظهر أنّك قد صقلت فعلا.
– ولهذا بالفعل اتخذت القرار في الرّجوع إلى بيتي.
قاطعتها ربا وهي واحدة من اللواتي يتجمّعن في بيت الحاجة عائشة.
– منذ متى وزوجك في المعتقل؟
– منذ العام الماضي.
– وما هي تهمته؟
أخذت شيرين برهة من الشّرود..بدا عليها أنها ذهبت باتجاه ذاكرتها وراحت تخامرها تلك المشاهد التي حدثت أثناء اعتقاله، ولقد أشعل هذا السّؤال الشّرارة التي حاولت كثيرا أن تسجنها في ذاكرتها، ولكن ما العمل؟ لا حيلة الآن. أوقدت جذوتها شرارة هذا السؤال، فأضرمت النّار في تلك الجنبات المتخفيات خلف بطانة الذّاكرة..أطرقت وشردت برهة مستغرقة في الأمر، بينما لاحظ الجميع تبدّل سحنتها واضطراب هيئتها..نظروا جميعا نظرات فيها عتب وتأنيب..ولكن سرعان ما هجمت الإجابة من فمّ شيرين هجوما مدوّيا حين قالت:
كان يوما مشؤوما من أيام شهر آذار من العام الماضي..مشؤوما لدرجة استعصائه على النّسيان..إذ كانت في تلك الليلة قد غشيتنا سكينة الأنس..فاستغرقنا بين نوم ويقظة وحلم..لا أخفيكم أنّها كانت من أشدّ الليالي أثرا في قلبي..لشدّة ما شعرت بالحميميّة والدّفء..ولشدّة ما كانت حركاته تثير في روحي الثرثرة والشعور الربيعي المؤنّث..حقا لقد كنا بين اليقظة والحلم..بين النّوم والبرزخ..كمثل عاشقين لكنّهما في قلب كهف محاط بالصّخور.
هل تتخيّل إحداكنّ أن تكون عاشقة مستغرقة بحبيبها..لكن المكان قارسا ومحاطا بالصّخر والهواء المالح..لم يخطر ببالي أن أفتقد حضوره بهذه القسوة..كنا قد قضينا يوما أنا وهو بصحبة ولدينا..وتجوّلنا في البلدة القديمة في مدينة نابلس..يا لها من مدينة..ويا لسحر حضورها من أسر!
المهم ..كانت ليلة غارقة بالحبّ..في أوّلها..لكن ما إن مشت دقائقها قليلا حتى انقلبت بنا السّفينة..وكأنّنا في عرض بحر خضم متلاطم الأمواج..تستعر فيه الرّياح كاستعار أصوات الحطب في قاع جهنم..
اندهشت المرأة مجددا، وسألت:
– وما الذي حصل إذن؟
– في سكينة دخولنا إلى برزخ الحلم والنّوم معا..تطاير الهدوء من حولنا..تقاذفته شظايا أصوات خلف الباب تتعالى.. وكأنّها مدافع أو حجارة تساقطت على أسقف معدنيّة..ليتكنّ تتخيّلن الفزع الذي أصابني، لقد اضطربت حتى بتّ أسمع صوتا سريعا متعاليا في قلبي مصحوبا بشيء من الرّهبة..بينما في الخارج قذائف الأصوات تتساقط فوقنا أنا وهو والأولاد.
– افتحوا الباب، وإلاّ حطمناه.
قفز فارس من فوره مندفعا، انتعل حذاءه واتّجه بملابس النّوم بسرعة البرق نحو الباب وفتح لهم، وما هي إلا ثوان حتى عصّبوا عينيه وجرّوه بقوة على السّلّم، وبعد التّحقيق معه، تبيّن أنه كان يخطّط مع زملائه لخلق سبل لمقاومة المحتلّ الصّهيونيّ، وبأنّ بحوزته سلاحا.
ربا باندهاش:
ألم يفكّر بطفليه، فهما بحاجة لرعاية، ولا شكّ بأنّه يتوقع أن يكون أسيرا؟
قاطعتهما شفاء، وهي صاحبة البيت الذي أصبحت تستقبل به نساء البناية، بعد وفاة زوجها.
– ماذا سمعت من قصّتها يا ربا، دعيها تحدّثك عن قصّة حياتها، صدّقيني تصلح لأن تكون رواية، وأنت تبحثين عن قصص تستحقّ التّوثيق والكتابة .
فقد اشترك السرد والحوار باستراتيجية التعبير عن شخصية كل من نور وشرين وربا وشفاء
2- التوظيف السياسي لأفعال الكلام جاء في صفحة 4 من الرواية
إذن لقد خدش الوقت حياء قلبك..ألم أخبرك بأنّه لا يستقيم مع الحبّ أن تتركه يمشي وحيدا..فارغ الحقيبة..مكسور الجناح..غير محمول على الأجفان..أخبرتك أم لم أخبرك؟
كان عليك أن لا تنام بجانب تلك البحيرة من الصّمت؛ لأنّ تمساح الخوف سوف يقضم اصبع أحلامك..لكن أنا سوف أغرس في حفرة أشواقك هنا ضمّة من يدين عاشقتين، وسوف أعبر من أجلك كل حواجز هذا العالم، انتظرني هناك.
أفعال القول وهي جملة من الأحداث الكلامية الهادفة والمعبرة والمؤدية إلى الحصول على القوة الجازبة ، ومن تلك العناصر: – متضمنات القول : تطالعنا متضمنات القول من خلال الظواهر الداللية والخفية في قوانين الخطاب على أن الخطاب بكل مؤشراته اللفظية والتركيبية والدلالية يتوجه إلى المجتمع العربي بجملته وليس إلى دولة واحدة ، وهو في خفايا خطابه يذكر بأهمية مقاومة الظلم والاحتلال ،
3-الاستلزم الحواري فالناس في خطاباتهم قد يقولون ما يقصدون وقد يقصدون أكثر مما يقولون ، وقد يقصدون عكس ما يقولون ، فجعل همه إيضاح االختالف بين ما يقال وما يقصد مما يقال هو ما تعنيه الكلمات والعبارات بقيمتها اللفظية وما يقصد هو ما يريد ً على أن السامع قادر على أن يصل إلى مراد المتكلم بما يتاح له المتكلم أن يبلغه إلى السامع على نحو غير مباشر اعتمادا من أعراف الاستعمال ووسائل الاستلزام فأ ارد أن يقيم معبرا من القصيدة الثورية عند المتلقي
في ص 82من الرواية
توطّدت علاقة شيرين بفارس لدرجة أنها لم تستطع أن تبدأ يومها دون سماع صوته، الذي كان يمنحها أملا وطاقة، تجعلها نشيطة طوال اليوم..لاحظت والدتها أنّها أصبحت مفعمة بالحياة والحيوية، ففرحت من قلبها، وشكّت في الأمر حين قالت، وهي تنظر بعينيها الواسعتين بإمعان وتقول:
أراك كما وردة تفتحت بعد ذبول، هل تخفين عني شيئا؟
نظرت شيرين في وجهها نظرة استغراب، وقالت:
لا شيء هناك، سوى أن قلبي قد تعافى من الصّدمات، كان الزمن كفيلا؛ كي أشفى، أليس هذا ما تمنيته؟
اغرورقت عينا هالة بدموع الفرح، وقالت:
لطالما أحطتك بدعائي، يبدو أن الله قد استجاب من شدّة إلحاحي.
– لا تفرطي في خشيتك علي يا أمّي، فأنا لم أعد صغيرة ولا ضعيفة، توكلي على الله.
أصبح فارس شغل شيرين الشّاغل، صورته مطبوعة على هاتفها وحاسوبها لا تفارقها أبدا..نبرات صوته ترنّ في أذنها ترافقها أينما حلّت..أخذت تفكّر بطريقة تراه فيها بعد أن تمّ رفض طلبه بإصدار تصريح للقدوم إلى الضّفة الغربية….كم أصبحت غزّة بعيدة بفعل الحواجز، رغم أن المسافة بين شيرين وفارس لم تقف حجر عثرة أمام نبضات قلبيهما. لم ييأس فارس بسبب رفض إعطائه تصريح دخول للضّفة، بل راح يبحث عن بدائل، حين اقترح على شيرين قائلا:
سأرسل لك دعوة للمشاركة في مؤتمر يتعلّق بالإعلام، سأطبعه باللغة الانجليزية، وقدّميه أنت بدورك للارتباط الفلسطيني وهو يقدّمه للجانب الإسرائيلي، ربّما ننجح ونلتقي تحت سماء غزّة.
سحبت شيرين نفسا عميقا وهي تضع يدها على قلبها، وقالت:
غزّة، كم حلمت بزيارتها..معقول يتحقّق حلمي، وربي يكرمني ويجمعني فيك في ظلّها!
– مع أنها أصبحت مقبرة لأحلام الشّباب بفعل الحصار والانقسام، لكنها بنظري أجمل بقاع الأرض.
– يكفي أنّها أنجبتك.
– سلمت لقلبي، يا حبيبتي.
أردفت شيرين:
لنفرض أنّ تصريحي رُفض.
ردّ عليها فارس بابتسامة خفيفة:
نلتقي في جمهورية مصر العربية، أو في الأردن..ما عليك..لن تنتهي حلول الأرض ولا السّماء، المهم أن تتفاءلي بالخير..وأن تعلمي بأنّي دوما في انتظارك مهما كلّفني الأمر.
ردّت عليه بخجل:
وأين سنعيش بعد الزّواج، أي مكان سيحتوي قلبينا؟
– ربما قارة إفريقيا، أو أوروبا..المهم أن نلتقي.
ردّت باستهجان:
– وفلسطين، معقول نهاجر ونترك بلادنا؟
– هجرة مؤقتة، راجعين كلّنا راجعين، ومن قال لك أنّنا تخلّينا عن حلم العودة، هذا استحقاق لا يسقط بالتّقادم.
– هل تصدّق أنّ جارتنا الحاجة أمّ محمود ما زالت تحتفظ بمفتاح منزل أهل زوجها الذين كانوا يعيشون في أمّ الزينات قضاء حيفا، صدأ المفتاح وتوفّت معظم العائلة، وهي ما زالت تنتظر؟
– ليست جارتكم فقط، كلّ من هجّر من بيته وأرضه احتفظ بالمفتاح على أمل العودة، ولا يضيع حق وراءه مطالب.
– تخيّل نعود نعيش كلّنا في حيفا وعكّا يافا وفي كلّ المدن التي احتلّت عام1948 .
– هذا أكيد، يوما ما سنعود، وإن لم نعد نحن حتما سيعود أولادنا أو أحفادنا، لا تقلقي.
– أفكّر في إنتاج فيلم وثائقي يحكي عن قضيّة تهجيرنا.
– فكرة جميلة، أين ستصورينه؟
– في حيفا، أو عكا.
– وكيف ستتمكّنين، وليس بحوزتك تصريح؟
– سأحاول إصدار تصريح.
لمعت برأس فارس فكرة، فقال:
– صوّريه في المخيّم، وأنا سأساعدك.
– أيّ مخيّم؟
– ليس مهمّا أي مخيم، جميعها مخيمات، وهي أماكن قسرية مؤقتة صنعتها النكبة.
– لدي اقتراح.
– تفضلي.
– إن صدر تصريحي، سأصوّر الفيلم في مخيّم جباليا.
– جميل جدا، وإن لم يصدر؟
ضحك الاثنان بصوت عال وقالا مع بعضهما البعض:
– سنصوره في مخيّمات الضّفة الغربية.
كانت شيرين تشعر بسعادة مطلقة حين تحدّث فارس، تشعر بانسجام تام معه. وتتمنى أن لا تتغير صورته مع الأيام، لكّنها لم تتوجّس لحظة كما كانت تشعر في بعض الأحيان مع من ارتبطت بهما سابقا، وشعرت أن دخول فارس لعالمها لم يكن من باب الصّدفة، بل كان مقدّرا بعد أن صفعتها الأيام، ونالت من نفسيتها وعافيتها، فلا بدّ من العدالة الإلهية بعد طول عذاب.
ذات يوم أعلنت كليّة الإعلام في جامعة الأقصى عن عقد مهرجان للأفلام الوثائقية القصيرة، واختارت فارس منسّقا له كإعلامي ناجح..كانت فرصة ذهبيّة لاستضافة شيرين للمشاركة به على أن تكون عضو لجنة تحكيم.
أخذت شيرين تدعو أن يلعب معها الحظ دورا، ويصدر لها تصريح بعد التّنسيق بين الارتباطين الفلسطيني والإسرائيلي، طبعت كتابا باللغة الإنجليزية أرفقت معه الدّعوة، وأرسلته لمكتب الارتباط، الذي لم يؤمّلها حيث أخبرها موظف هناك بأن هذا احتلال يتعامل وفق مزاجه، ويرفض معظم المتقدمين.
قرّرت شيرين أن تقدّم الطلب وتفعل ما عليها، ومن حسن حظّها تمّت الموافقة، فنزل الخبر عليها كالصّاعقة حين هاتفها موظف الارتباط يخبرها بصدور تصريح لها لمدّة يومين، كان أوّل ما فعلته الاتصال بفارس وسط ذهول جعل عينيها تبرقان من شدّة الفرح، قالت بانفعال:
مرحبا فارس، هناك مفاجأة سارّة بانتظارك.
فارس بانبهار:
لا تقولي صدر التصريح.
شيرين بضحكة عميقة.
نعم صدر، سنلتقي بعد يومين.
– الحمدلله رب العالمين الذي أكرمنا.
– لعنة الله على الاحتلال.
– ألف لعنة.
– كيف يمنع قلبين من الاقتراب من بعضهما البعض؟
– بل كيف يمزّق أحشاء وطن، ويفرّق بين أعضائه؟
– ما علينا..دعينا نفرح الآن.
– ما المخطّط، ماذا سنفعل خلال يومين فقط.
– سنصنع المعجزات.
– كيف؟
– بعد أن أعانقك وآخذك في الأحضان، سأجعلك تستثمرين كلّ لحظة في غزّة.
– كيف؟
– ما عليك، سأجهّز لكلينا برنامجا مكتظّا، المهم أن تصلي بالسلامة.
– إن شاء الله، وكيف سأدخل حدود غزّة؟
– من حاجز بيت حانون(إيريز).
– إذن سأغادر مدينة نابلس باكرا، وأتوجّه إلى مدينة رام الله ومن ثمّ القدس، من خلال حاجز قلنديا وسأنطلق باتجاه حاجز إيريز.
– لا شكّ، كم أتمنى لو تقفزين عن كلّ الحواجز والمدن، وتكونين بين أحضاني.
– شوق جميل.
– صبر جميل يا جميل.
– شوك جميل.
– لا شوك ولا حواجز ولا حدود تثنيني عن انتظارك واللقاء بك، لا تخافي.
– كم أنا محظوظة بك!
– كم أنا ممتلئ بك!
أخذت شيرين تستعدّ لزيارة غزّة..جهّزت الكاميرا الخاصة بها وبعض المقتنيات التي يسمح بإعادتها حين مغادرة غزّة، وبعض الهدايا لفارس، عاشت لحظات صاخبة وهي تتخيل فارس على أرض الواقع، وليس من خلال العالم الافتراضي.
صباح يوم الأحد استيقظت شيرين في تمام السّاعة الخامسة صباحا واستقلّت سيّارة بعد أن ودّعت عائلتها، وقبّلت طفلها وهو نائم، وذهبت باتّجاه موقف السّيارات، لم تجد سوى راكب يريد الذّهاب إلى رام الله
,
3- الاخباريات وغرضها الانجاز
هو نقل المتكلم واقعة من خلال قضية يعبر بها عن هذه الواقعة ، التي تحتمل الصدق والكذب ، والحالة النفسية في الرواية ص 102 تعبر عنا هي
عادت بسمة للتّفكير بعصام لم تستطع مجافاته واقتلاعه من حياتها التي ترسّخ بها؛ لتضعف أمام رسالة منه بعد غياب دام مدّة قصيرة:
“حبيبتي بسمة تغيبين عني فيغيب عن وجهي البهاء، فأبحث عنك في بقايا صور، وفي قائمة الأسماء ووكالات الأنباء، يرافقني طيفك كظلّي، وتحتلين العقل والقلب والأحشاء، طمئنيني عنك فأنت في الرّوح تسرين، وأنت كل ما تبقى من عمري والبقاء”.
انتشت روح بسمة من شدّة السّعادة، وشعرت بأنّ الحياة التي تخلو من صوت عصام، لا طعم لها ولا تعدّ حياة، ردّت عليه وهي تخط ابتسامة خجولة:
” عزيزي عصام في ظل غيابي المتعمّد بعد تفكير عميق بعلاقتنا التي لا أفق لها، كنت أستلّ صورك ليلة ليلة..أتمعّنها وأغوص في أعماق تفاصيلها؛ لأسلب منها ما يسعد روحي، ويزيل همّي، ويضيء عتمة قلبي، ويعيدني للحياة، كنت أراقب خطاك من بعيد، أمسح على كتفيك برفق، أقرأ عليك تعويذة، وأحيطك بدعواتي حتى تبقى شامخا صلبا لا تنحني ولا تنكسر”.
ردّ عليها بعد دقيقة :” الحياة لا تسير على وتيرة واحدة، فهي متقلبّة، وكل شيء فيها ممكن أن يتغيّر بلحظة إلا مشاعري تجاهك في كل يوم تزداد توهّجا، لا أحد يعلم ما الذي سيحصل في المستقبل، على أية حال الأيام تنقص والمحبة لك تزيد، لقد تغلغلت في حياتي حتى أصبحت تسرين في دمي كما يسري في الوريد”.
بعد أيام صدر قرار بترقية عصام لمنصب أعلى من منصبه، فتذكّرت شيرين دعواتها له بالرّفعة وعلو الشّأن، فكتبت له رسالة:”
لهذه القامة التي لا تنحني ألف تحية، إلى الفارس الحرّ الصّلب اللين سوية، إلى خير معلم ممكن أن يقود الرعية، إلى الحكيم الرحيم ومدرستي في الإنسانية، إلى من علمني معنى الوطنيّة، ومعنى الحفاظ على الهويّة، سر وعين الله ترعاك من كل من أراد لك الأذيّة، هذه الأيام صرت حيث كنت أراك، وغدا تتجسد أحلامي في البقية”.
4- الوعديات وهي من العناوين الهادفة لالنجاز في المستقبل ، وغرضها الانجاز هو التزام المتكلم بفعل شيء ما في المستقبل وشرطه
الخاص هو القصد ، والا ينفصل المحتوى القصدي عن الغرض الانجازي ، والمحتوى القضدي فيها دائما فعل المتكلم في المستقبل في الرواية ص 41
وسط صخب وعجقة وخلال تواجد بسمة بالقرب من ضريح الرّئيس الراحل ياسر عرفات خلال فعاليات ذكرى النّكبة، رنّ هاتفها، سحبته من الحقيبة بلطف، ودقّقت النّظر فيه، وإذا به عصام، ردّت وهي تمسح العرق من على جبينها في هذا اليوم شديد الحرقة.
– صباح الخير يا بسمة، أين أنت؟
– أنا بالقرب من ضريح الرئيس، أجري بعض اللقاءات.
– متى ستنتهين؟
– ربّما بعد نصف ساعة، أين أنت؟
– أنا على دوّار المنارة، وفي مقدّمة المسيرة، بانتظار سماع بعض الخطابات، ومن ثمّ الذهاب إلى المكتب، هلّا رافقتيني.
– ربما نذهب سويّا، إن عثرت بين الجموع..وإن لم نلتق..اذهب أنت وأنا ألحق بك.
– اتفقنا.
أنهت بسمة لقاءاتها، وسعدت باهتمام جمهورها الذي استمرّ في التقاط الصّور معها، واصلت سيرها على الأقدام باتجاه دوّار المنارة، وخلال سيرها تعثّرت بحجر فكادت أن تقع على الأرض، سقطت كوفيتها من على كتفيها فالتقطتها بسرعة، ثمّ سحبت هاتفها المحمول من الحقيبة، وحدّقت في مرآة صغيرة على شكل خارطة فلسطين ملصقة خلف جدار الهاتف، ما زال وجهها يشعّ نورا رغم عناء السّفر وحرارة الشّمس، وصلت مقدّمة المسيرة التي توقّفت بالقرب من منصّة يعتليها بعض القادة من أجل إلقاء خطابات اعتادوا إلقاءها على مسامع الناس، خطابات تثير الحماس لدى أبناء الشعب وتدين وتستنكر عمليّات الإجرام المتواصلة بحقّ أبناء الشّعب الفلسطيني وسلسلة النكبات التي ما زالت مستمرّة، كل ذلك بعد الترحم على شهداء غزّة، والوقوف دقيقة صمت للاستماع لصافرة إنذار تذكّرهم بمآسي النكبة وتعبّرعن سخطهم تجاه سيناريوهات الرّعب والإرهاب، فكانت نذير شؤم بالنسبة لبسمة، حاولت تجاوز مشاعر الحزن والقهر، خصوصا بعد أن رأت عصام وسط هذا الحشد..اقتربت منه وطلبت منه الذهاب إلى المكتب، فالشّمس عمودية ولم تعد تحتمل..مشيا مسافة لا بأس بها لحين الوصول إلى السّيارة.
وعندما وصلا المكتب، شعرت بسمة ببعض الارتباك، والاحتياج لعناق يشعرها ببعض الدفء، بعد ليالي قارسة الرّهبة، وبالفعل بعد أن أغلق عصام الباب، باغتها بضمّة أزالت كل ما بداخلها من قهر وحزن، أمّا هي فوضعت يدا خلف ظهره ويدا حول عنقه، وقالت:
اشتقت لك.
ردّ بنفس متثاقل:
– وأنا أيضا، لو تعلمين كم أحتاجك!
شدّها نحو صدره، وعانقها بكلّ قوّة، ثمّ أغلق ستائر النّوافذ، وجلس على مقعد أمام مكتبه، فجلست هي على رجليه وطوّقت رقبته بيدها، وأخذت تداعب خصلات شعره، وتحسسّ على أذنيه، اقتربت شفاهه من شفاهها، فراح يقبّلها ويمصّ لسانها، ويدسّ يده في صدرها، أسكرتهما اللحظات وشعرا بتخدير لذيذ، هربا معه من حياتهما المؤلمة، وسرقا من الزمن قسطا من السّعادة، فلا بأس بقليل من الجنون؛ ليبقى الفلسطيني صامدا على أرضه وسط مسلسل رعب وقهر لا ينتهي.
قمع عصام مشاعره، واكتفى ببعض الحركات التي بالكاد تشبع رغباتهما، خوفا من قدوم زائر، أو انكشاف أمرهما، أشعل سيجارته كما العادة، وأخذ يتغزّل بها كما لو كانت أنثى تجعله يسترخي ويهدئ أعصابه؛ مما أثار سخط بسمة التي ردّت بغضب:
– هي حبيبتك، وعدوّتي أنا، كفاك افتتانا بها، لا تنزع جمال اللحظات.
– حاضر، ما رأيك بفنجان قهوة؟
– لا شكرا.
– كوب شاي؟
– لا شكرا..
وكعادته قفز بذاكرته نحو الماضي، فهو أسيره وسيبقى يدور في فلكه مهما تقدّمت به سنوات العمر، ذكريات السّجن، الطفولة المشبّعة بالمعاناة لا انفكاك منها ولا خلاص، صغت إليه بسمة بكل هدوء، وراحت تتخيّل كلّ مشهد يتقن وصف أدق تفاصيله، وتتمعّن حركاته بدقّة، مسك كفة يدها ثمّ قلبها وأخذ يتأمل شرايينها، ويقول:
– ما أجمل يدك!
أخذت تشير إلى شريانها، وتقول:
هل ترى هذا الشريان جيّدا؟
نعم.
– حبّك يجري به، يجري في عروقي مجرى الدمّ.
تذكّرعصام أنه على موعد مع الطّبيب، فطلب من بسمة مرافقته، خاصّة أنها كانت تلحّ عليه الذّهاب إليه، للاطمئنان على صحّته التي تؤرّقها، ذهبا واستمعا لنصائح الطّبيب وتعليماته تجاه مرض السكّري الذي أصيب به عصام مؤخرا، ثمّ ذهبا إلى أحد (الكافيهات) في مدينة رام الله، تحدّثا في الكثير من الأمور، منها ما يتعلق بالماضي المشحون بالأسى، ومنها ما يتعلّق بالمستقبل المجهول، ومنها ما يتعلّق في الوضع السّياسي، ثمّ افترقا بعد قضاء عدّة ساعات برفقة بعضهما البعض.
حان موعد زفاف شيرين على جواد، أخذت العائلة تستعد لهذا اليوم الذي سيكون خرافيا وستظهر به شيرين بأبهى الصور، ستكون أجمل عروس بفستانها الأبيض، وتاجها البرّاق، الذي سيخطف الأنظار..اختلطت على والدتها المشاعر، فهي سعيدة لزواج ابنتها من شاب مهذّب يمتلك من الصفات ما تحلم بها أيّ فتاة، وحزينة في ذات الوقت لأنّ البيت سيخلو من وجه شيرين، التي تبثّ الحياة فيه بضحكاتها وأحاديثها الشائقة التي لا تنتهي، وحزينة أيضا لأنّ أباها لن يعيش لحظات الفرح معهم، ويخرج ابنته من بيته.
–
([1]) رشا العلي، ثقافة النسق (م. س)، ص431.
([2]) يمني العيد: في معرفة النص، دار الآداب – بيروت، لبنان، 1999م، ط4، ص13-15.
([3]) عبد الله الغذامي: المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1996، ص 79.
([4]) بثينة شعبان: 100 عام من الرواية النسائية العربية، منشورات دار الآداب، بيروت، 1999م، ص25.
([5]) رفيق صيداوي: الكاتبة وخطاب الذات، ص13.
([6]) محمد نور الدين أفاية: الهوية والاختلاف، دار إفريقيا الشرق الدار البيضاء، 1998م، ص59.
([7]) الغذامي: المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 1996م، ص153.
([8]) إلهام منصور: رواية (حين كنت رجلاً)، رياض الريس للكتب والنشر، 2002م، ص200.