من معالم تراثنا… بقلم الاستاذ احمد سلامه
تاريخ النشر: 22/11/11 | 11:12الدّيوان تحظى كلمة – الديوان لغوياً بعدة معان فهي: الوزارة, والمكتب, فيقال: ديوان رئيس الوزراء بمعنى مكتبه, وهي المجموعة الشعرية, وهي المضافة العامة.
وقد شكل الديوان بمعناه الاخير –المضافة العامة- اهمية خاصة في حياة الشعب العربي الفلسطيني على امتداد فترة زمنية طويلة. ففي العهد التركي كان الديوان مقرا ثقافيا واعلاميا واجتماعيا وحتى اداريا للناس في قرانا وتجمعاتنا السكنية, حينما افتقرت هذه التجمعات الى الوسائل الحديثة كالمذياع, والتلفزيون والسينما, وحين كانت القراءة تعتبر امرا نادرا…
وبما ان حياة الناس آنذاك تميزت بالبساطة في المسكن والملبس والمأكل والمشرب, فقد تناسبت الدواوين مع تلك الحياة. فكان اغلبها عبارة عن غرفة واحدة تتسع او تضيق, بحسب حالة اصحابها الاجتماعية وقدرتهم المادية, وكثرة الرواد او قلتهم في ذلك الديوان, وللديوان باب يطل على الشارع العام, ويضاء ليلا بمصباح زيتي, وتفرش ارضه بالفراش العربي, ويجلس الناس مسندين ظهورهم الى مساند او وسائد تصف بجانب الجدران الاربعة, فيجلس الحاضرون على شكل دائرة, مع تخصيص مكان خاص -صدر الديوان- للضيوف والاشخاص المتميزين, ووجوه القوم من المسنين واصحاب الرأي.
وقد ساعد في تنمية دور الديوان في مجتمعنا كون الناس يحيون حياة ذات هموم مشتركة وموحدة, فهم جميعا يفلحون ارضهم, ويعتاشون منها, والزراعة موسمية ومحدودة, وطريقة العمل بها واحدة لدى الجميع… فهذا موسم حراثة الارض, وتهيئتها, تدور بين الجميع, أمور مثل:(حسم السكة, وتنجير قطع عود الحراثة, وهل الارض موفرة ام لا…)
يليه موسم زراعة الارض بالذرة او الشعير او القمح شتاءً, والبطيخ والشمام صيفاً, فيكون الكل منهمكاً بالعفير والبذار والمقاثي, وفي موسم الحصاد, حيث يشارك الجميع في أعماله.
حتى الاولاد لهم ما يشاركون به في التحضير لموسم البيادر والدراسة, لاستخراج الحبوب, فيكون الكل مشغولاً في اعداد “النورج” او “لوح الدراس”.
هذا النمط من الحياة المشتركة والقريبة من الارض باعمالها الشاقة, تتطلب مقراً للاجتماع أو “نادي” في مفهوم اليوم, يجتمع فيه الناس, يتدارسون امورهم, ويتبادلون الخبرات, ويتسامرون ليروّحوا عن انفسهم, وينفضوا غبار يومهم الشاق, فتدور الحكايا النافعة والمسلية.
وكثيراً ما كان يلم بالديوان, احد الذين يعرفون القراءة والكتابة فيقوم باحياء “التعليلة” اما بقص الحكايا والاخبار والنوادر التي عرفها من خلال قراءته, أو قراءة فصول من روايات الادب الشعبي الجميل والمحبب. كحكاية الزير سالم, وتغريبة بني هلال, وقصص الابطال والشعراء كعنترة العبسي, ونمر العدوان, وابن عجلان وغيرهم, ويجري ذلك في جو من المشاركة الوجدانية والحماس والمتعة لدى الحاضرين, وكثيراً ما كان يحدث “انزعاج” من الحاضرين, اذا ما توقف الراوي ليكمل في الليلة القادمة, ويكون توقفه قد ابقى الزير سالم في الاسر, او نمر العدوان بعيداً عن معشوقته, فيعترض الحاضرون طالبين فك أسره, او لم شمله. وقد يكون الراوي ممن يجيدون “الجر” على الربابة فتتضاعف المتعة.
وفي ليالي الشتاء الطويلة والقارسة البرد, يتسلى الحاضرون في الديوان بلعبة “الصينية”, حيث ينقسم الحضور الى (ربعين), أو فريقين, ويتبارزان في اكتشاف الخاتم المخبأ تحت الفناجين الموضوعة على صينية من القش حيث كان هذا النوع شائعاً ومتواجداً في كل بيت . ولهذه اللعبة قوانينها وادبياتها المتعارف عليها, فهي تتضمن “تعزير” الفريق المنتصر للفريق المغلوب, دون ان يثير ذلك الضغانات والاحقاد, وهي لعبة ممتعة وشعبية, قد تستمر الى الساعت المتأخرة من الليل.
وبالاضافة الى هذا الدور التثقيفي والترفيهي للدواوين, فقد كانت ايضاً مقراً لتعلم قيم المجتمع وسلوكياته.
فالصغير يحترم الكبير وينصت له اذا تكلم, ويتعلم منه بكونه بخبرته يشكل مدرسة للقوم, في وقت انعدمت فيها المدارس أو كادت, ووجهاء القوم من المسنين يناقشون الخصومات التي قد تنشأ, ويجدون لها الحلول فهم يشكلون “مجلس قضاء” عرفي وآراؤهم مسموعة لدى الجميع, وكثيراً ما يلجأ بعض الناس الى الديوان فيعرض فيه مشكلة حيرته, أو أمراً أزعجه, فيجد المداولة والاهتمام من الحضور, وربما خرج وقد فرجت كربته, وخف همه…
وهكذا كان الديوان في مجتمعنا بمثابة الرابطة الاجتماعية ومقراً لتبادل الآراء, وتعلم الخبرات, وحل الخصومات وعقد راية الصلح, واستقبال الوفود من القرى والمناطق الاخرى, ومأوى للمسافرين وابناء السبيل والضيوف الذين يؤمون القرية, فيبيتون في الديوان ويقدم لهم المأكل والمشرب… ويترك أمر الاعتناء بنظافة الديوان, وسد حاجته… الى شخص ما من العائلة او الحمولة, وقد يشارك الجميع في القيام بأمره.
اما في المدن العربية الفلسطينية فقد كانت للديوان أهميته, من حيث كونه منتدى يجتمع فيه أبناء الحمولة, أو الحي للتداول في أمورهم وأمور البلاد عامة, الا أن اهميته في القرى كانت أظهر حيث شكل العمود الفقري لحياة الناس الاجتماعية.
وبتغيّر الاحوال السياسية في منطقتنا, وتواتر الاحداث الهامة, ابان الحربين الكونيتين تفاعلت الدواوين في تناقل أخبار الحرب والسياسة, وتكوين مواقف ومفاهيم معينة على مستوى الوعي الجماعي, واستيعاب ما يجري من احداث, ثم بلورة المواقف الجماهيرية من قضايا المنطقة, وخاصة ما يخص العرب والمسلمين عامة, فكان الديوان بالنسبة لاهل القرى والارياف جريدتهم ومركز اعلامهم.
وقد بدأت في هذه الفترة, وما أعقبها بعض الصحف في الظهور, وكانت تصل القرى ولو بشكل قليل جداً, الا انها كانت تأخذ طريقها الى الديوان فتقرأ هناك على مسمع من الحضور….
وبتوالي الاحداث السياسية, ونشوب رياح العصرنة على منطقتنا, وتطور انماط الحياة, وتنوعها, في فترة الانتداب البريطاني وما تلاها, أخذ التعليم ينتشر بين طبقات الناس من المدن والقرى الفلسطينية, ونشأت أنواع جديدة من الاعمال والنشاطات كالوظائف العامة, والصناعات الخفيفة, التي نمت في المدن الفلسطينية كنابلس والقدس والخليل وغيرها, بالاضافة الى أطراد تقدم حركة التعليم, وافتتاح العديد من المدارس والمعاهد, وانتشار الصحف والمجلات والكتب, واتساع رقعة توزيعها.
وقد امتدت فترة التغييرات في أنماط الحياة في مجتمعاتنا الفلسطينية حتى يومنا هذا… حيث سيطرت الحياة الفردية حتى داخل الاسرة نفسها, وحيث توفرت في كل بيت الوسائل الحديثة للثقافة والترفيه والتسلية, كالتلفزيون والمذياع والحاسوب مما جعل دور الديوان في حياة الناس يتلاشى الى ان اختفى أو كاد…
لكن الديوان سيظل معلماً من معالم شعبنا, وعاملاً من العوامل المهمة التي ساعدت في حفظ تراثه, وهويته عبر الايام.
حياك الباري استاذي الكريم وجمل ايامك بالعطاء ودوام السعادة..
مقالتك جوهرية المضامين ..من معالم التراث..
جدير بنا ان نورث ابناءنا القيم الايجابية من العادات القديمة..
جدير بنا ان نتعلم الماضي..وناخذ منه الدروس والعبر الفاضلة
جدير بنا ان نتعاون جميعا لنجعل مجتمعنا مجتمع مثقف
جدير بعناصر المجتمع ان يتالقوا بادوارهم بمسرح الحياة
شُكراً لكَ أبا نِبراس