اللقاء المفقود
بقلم يوسف جمال – عرعره
تاريخ النشر: 30/05/24 | 8:06حتى في يوم رحيلك.. تقسو علي..لا ترحمني..!!
حتى في يوم وداعك الاخير لا اجدك.. امد لك يدي كي تسعفني فلا تعرف يداي
سوى الوهم والضياع..!!
اردت ان تعطيني – ولو مرة- احاسيسا ومشاعرا تساعدني على بكائك.. اردت منك
– ولو مرة- ان تعطيني دواء يساعدني على فتح خزائن دموعي كي اشارك من
حولي بكائك.. اني ابكيك ولكني كعادتي.. كعادتك لم اجدك..!!
طالما اشتقت ان ابكيك في غيابك.. حجك مثلا..في سفراتك الطويلة.. ولكن كيف
ابكيك.. وانت لا تترك شيئا افقده في غيابك..!!؟
انك لم تضمني ولو مره بين ذراعيك.. لم تقبل وجنتي.. ولم تحاول مره ان توحد
مشاعرنا ولو للحظة.. لم تعنفني.. لم تصرخ بي.. لم تهينني.. لم تحرمني من شيء
مادي..ولكنك حرمنتي من كل المشاعر والاحاسيس التي تربط اب بابنته..!!
– قولي لبنتك ادير بالها على دروسها..!! هكذا كنت تتوجه الي.. عن طريق
امي رغم – في احيانا كثيرة- اكون اقرب منها مسافة منك “قولي لبنتك ان
تحتشم في اللباس.. قولي لبنتك ان تخفض صوتها قولي لبنتك ان ..”
في علاقتنا كان دائما يفصل بيننا طرف ثالث “قول لابنتك” او قولي لاختك” حتى
الاشياء المادية لم تناولها لي بشكل مباشر “خذي هذه النقود واعطها لبنتك” خذي
هذه الحلوى واعطها لبنتك”.
في موتك مات معك سؤال واحد حاولت الاف المرات ان اسأله لك “هل تحبني يا
ابي..!!؟
ربما احببتني ولكن الحب لا يصل الى الطرف الثاني عن طريق طرف ثالث.. هكذا
قوانين الحب السرمديه نعبر عنها اكثر اذا اقتربنا اكثر من الحبيب مشاعرا
وجسدا..!!
– ابوك مش موافق..!!
كلمات طالما سمعتها من امي على لسانك.. سالت امي مرة لماذا لا يتوجه الي
بصور مباشرة .. ويقول لي “مش موافق..!! فأجابت امي وموجه من الغضب
تجتاح وجهها.
– شوف البنت.. شوف الوقاحة..!!
فاسكت وانسحب من معركة مكتوب علي ان اهزم بها قبل ان تبدأ..!!
وتسلمت شهادة الصف الثاني وطرت من المدرسة الى البيت.. وكنت “الاولى على
الصف” وسلمتها لامي فامطرتني “بوابل من القبلات ولفعتني في حضنها حتى
كادت “تخنقني” فرحا ومن خرجت من بئر حضنها اصطدمت عيناي بوجهك الذي
كان متجمدا يخلو من اي حروف التعبير ما عدا ابتسامة لم اتمكن من فهمها كانت
بين السخرية واللامبالاة وقلت يومها موجها الحديث لامي:
– على مين طالعة هاي البنت..!!؟
فتركت وطرت الى سريري ورميت بجسمي عليه واغرقت وجهي في وسادتي
وانفجرت بالنحيب.. بالنحيب المكسور.. شعرت وكاني كنت اطير على بساط في
عالم من السحر فجاءت روح شريرة و “نفست” هواء هذه البساط فسقطت على
الارض فتحطمت روحي وتحولت الى اشلاء مبعثرة..!!
ومن يومها- الى ان تخرجت من المدارس- صرت استلم شهادتي “واقرئها”
لوسادتي بخليط من الفرح والبكاء..!!
واحببت .. وكان حبي الاول.. كان ذلك في بداية مراهقتي.. التقيت باول كائن
انساني ذكري يتوجه الي بصوره مباشرة وترافق نبرات صوته مشاعر الحب
والحنان.. يسمعني.. يلتفت الي.. “ينفخ” في مشاعري الحياة فتطير صاعدة بعيدا..
بعيدا الى عالم سحري لم تطأه قدمي.. لغته حروفها مصنوعه من الوان غريبة عن
العالم الذي كنت اعيش فيه.
– اتحبني حقا يا جمال..!!؟ سألته هذا السؤال الف الف مرة.
فأجابني مرة بعصبية بعد ان نفذت من لغته كل الاجابات:
– وكانك لا تصدقين انه يمكن ان يحب حبيب حبيبته..!!؟
ووصلك يا ابي الخبر.. وبعكس كل التوقعات غمرتني فرحة غريبة.. املت ان تتكم
معي لاول مرة بصورة مباشرة ان تعاملني.. تكيل الي الاهانات .. ان تسجنني.. ان
تدوس علي بقدميك.. حضرت نفسي لهذه الفرصة لهذا العرس..!!
ولكنك كالعادة- خيبت امالي في هذه المرة ايضا.. عاقبتني بعقاب اشد من عقاب
تخيلته.. بانك لم تعاقبني بل اكتفيت بالقول:
– خلي بنتك تبعد عن هذا الولد.. واذا كان حقا يريد ان يتزوجها فليتقدم
بالرسميات..!! قلت هذه العبارات وانا جالسة في مكان لا يبعد عنه الا امتار
قليله..!!
ولم ابتعد عنه كما طلبت ودخلنا نفس الجامعه.. وبنينا فيها علما ممزوجا بالحب..
ورسمنا خرائط لحياتنا المستقبليه لوناها بكل الوان الفرح والامل.. وفي احدى
المرات القليله التي سمعتك تتحدث عن مشواري الجامعي قلت يومها موجها الحديث
لامي:
– مطولي بنتك في الجامعه وهي “رايحه جاي” ..!! تمنيت ان ترد عليه قائله:
“اسالها فهي قدامك” ولكنها اجابت كعادتها” لما تخلص تخلص..!!” ولأول
مرة اجرأ على “مواجهتك” بالكلام فقلت وعاصفه هوجاء من الغضب تجتاح
كياني:
– اسألني انا يا ابي..!! انا التي اعرف..!! فنظرت الي فاتحا عيناك على
مصراعيها كأنك تريد ان تأكلني بهما وابتعلت سريعا الكلمات التي اوشكت
على الخروج من بين شفتيك وانسحبت من الغرفة دون ان تقول شيئا.
– شوفي بجاحة هذه البنت..هيك بتعلمك الجامعه تحكي مع ابيكي..!!؟ قالت
امي بصوت كله لوم وتأنيب.
ها انت مسجى في نومك.. رحيلك كل من حولك يصيح.. يصرخ.. ينتحب.. او
يدعو لك بأن يقبلك في جناته.
ما عدا انا..!! اسبح تائهة في شريط حياتك معي وحياتي معك.. ولا بد انك قد
لاحظت انني لم اذكر سيرة اخوتي الاثنين معي ومعك.. ولم احاول ان اقارن بين
معاملتك لهم ومعاملتك لي.. لقد كنت ابا وصديقا لهم داعبتهم.. لاعبتهم.. ناقشتهم..
انبتهم.. عاقبتهم.. قبلتهم.. ضممتهم.. عاملتهم كما يعامل الاب الانسان اولادهم..
عاملتهم بلغة المشاعر وبادلوك نفس اللغة.. اما معي فتعلموا منك كيف يتعاملون
معي ولم يتكلموا معي بصورة مباشرة حتى في طلباتهم مني:
– ياما قولي لبنتك خليها تحضر لي فطور.. قولي لبنتك خليها تكويلي
القميص.. اطّلعي ياما شو عملت..!! وشربت كاساتي المرة التي قدموها لي
على طبق من صنعك.. الا ان تمردت ولم اعد “اجيب” اي طلب من طلباتهم
“وحلت” امي المشكله بقولها:
– اتركوها..انا بعملكم كل طلباتكم..!! وتركوني.. وابتعدوا عني وعشت انا في
عالمي بعيدا عنهم..!!
جميعهم –يا ابي- يوجهون انظارهم نحوي او هكذا اشعر.. كل عيونهم تسألني نفس
السؤال:” لماذا لا اشارك في حفل موتك..!!؟”
حاولت ان استحضر اشياء حزينه ابكتني من الماضي القريب والبعيد فمثلا عندما
ارسلت المعلمة رسالة اليك تدعوك لحضور حفل استلام الشهادات.. وتخيلت
الموقف الذي سيحدث.. جميع الاباء سيحضرون الحفلة الا انت.. حتى رلى يتيمه
الاب سيحضر الحفلة عمها..وعندما سلمت امي الدعوة على غير عادتي قالت دون
اهتمام:
– ما انت بتعرفي ان ابوك ما بحضر هيك حفلات..!! وبكيت ليلتها وبكيت..
خرجت الى شرفة غرفتي التي تقع في الطابق الثالث محاولة رمي نفسي الى
اسفل.. وفي الصباح لم اقم من فراشي بقيت نائمة فيه متجنبه الموقف القاتل
الذي سيحدث معي في المدرسه.. وفتحت امي الباب في الساعه العاشرة اي
بعد ابتداء دوام المدرسة بساعتين وتقدمت من فراشي ووضعت يدها على
جبيني وقالت:
– مبين البنت مريضه..!! اعملك كأس ليمون..!!؟ ولم اقل شيئا.. وابقيت كاس
الليمون في المكان التي وضعته فيه.. وغبت في عالمي..ولكن الموقف
المحزن المبكي –يا ابي- غاص في قاع بئر الحزن والحرمان واخذ قسطه
الكبير من الدموع والنحيب.. ولم يبق له في مقلتي شيئا اعطيه اياه..!!
حتى الى عرس موتك يا ابي لم اتلق دعوه “اهراك”وشلك المرض “واتعبت”
درجات المستشفيات وكل تساؤلاتي حول مرضك ما نوعه..!؟ ما خطورته..!؟ كيف
تتعامل مع معاناتك..!؟ لم تجد لها اجوبه كانت امي تجيبني:
– ابوك مريض مثل ما يمرضوا الناس..!! فاكتفيت بما اسمعه من نتف
الوشوشات التي كانت تتطاير بعيدا عن افواه العائلة والاقرباء.
– العرس بدار جيرانكم..!!؟ تقدت مني احدى عماتي وطرقتني بهذه الكلمات.
فانسحبت من بين النساء المجتمعات حولك. وهربت الى سريري.. الى وسادتي
وانفجرت بالبكاء. بكاء تفجر مرة واحدة واجتاح كل الحواجز التي كانت امامه. بكاء
كان يرافقه “اللطم” والعويل والنحيب. كانوا يواروك التراب وانا ابكي..!! يودعونك
وانا ابكي..!! لا ادري يا ابي ان كنت ابكي عليك ام على نفسي. ام على حياة
قضيناها في بيت واحد ولكننا نعيش في عالمين يبعدان عن بعدهما الاف الاميال من
المشاعر والاحاسيس والعواطف .. انتقلت الى العالم الاخر دون ان تبق لي “قطعه”
منك مخزونه في ذاكرتي تضيء شمعات من الحنين اليك ..او مشاعل تنير طريقي
وداعا يا ابي..!!
لقد كنت بالنسبه لي في حياتك كما ستكون في مماتك …!!
عشنا ولم نلتقي.. وساعيش دون ان نلتقي..!! كنت دمعه جفت قبل ان تسيل..!!