يا غافلا وله في الدهر موعظة
جواد بولس
تاريخ النشر: 07/06/24 | 12:01من الطبيعي أن تطغى أخبار مأساة غزة المستمرة، على سائر ما يجري داخل المناطق الفلسطينية الاخرى؛ إلا أنه من المستحيل فصل تداعي الحرب العدوانية هناك عمّا يعانيه الفلسطينيون في الضفة الغربية المحتلة وفي القدس الشرقية – حيث يواجهون اعتداءات سوائب المستوطنين وكتائب جيش الاحتلال غير المسبوقة بوحشيتها وبدمويتها – وفصلها عما يعانيه الفلسطينيون داخل اسرائيل.
يواجه المواطنون الفلسطينيون في اسرائيل مرحلة سياسية خطيرة ومفصلية في حياتهم، من شأنها، ما لم تجابه باصرار حتى النجاح، أن تقوّض احتمالات بقائهم المستقر في وطنهم؛ وتهدّد بنسف هياكل البنى الاجتماعية والسياسية والمؤسساتية التي نجحت الاقلية الفلسطينية، الباقية في ارضها عام 1948، بإنشائها وتحويلها، بحنكة وبحكمة، الى أحزمة واقية وأطُر جامعة والى محركات ناظمة في مسيرة بعث الهوية واستعادة الثقة واحياء الامل.
لم تغب منذ 245 يوما عن معظم شاشات الفضائيات مشاهد الدمار والقتل المستمر في كامل انحاء قطاع غزة. وعلى الرغم مما يشاهده اهل المعمورة قاطبة، وما يُنشر من أخبار حيال الضغط الأمريكي الذي يمارس على الفرقاء، وعلى الرغم من المطالبات العالمية بضرورة وقف الحرب، لا يستطيع أحد أن يراهن متى سيحصل ذلك. او على العكس، لا احد يراهن متى ستتخذ حكومة بنيامين نتنياهو قرارها بتوسيع حربها على الجبهة الشمالية، وعدم الاكتفاء بإبقاء المواجهات مع حزب الله على شكل مناوشات محكمة وموزونة بالحبة والقنطار. .
من المحبط ومن المستفز أن تستمر عمليات القتل والتدمير الاسرائيلية طيلة ثمانية أشهر من دون أن تنجح البشرية ودول العالم ومجتمعاتها المتحضّرة والمتقدّمة بوقف العدوان وانقاذ أهل غزة من الموت ومن النزوح والتشرد. ومن المؤسف والمستفز أن يحصل كل هذا ولا يستطيع ما يسمّى بالعالم الاسلامي، بقياداته ومقدّراته وبجميع شرائح ، أن يؤثر في ردع إسرائيل، عدوّتهم في العقيدة وفي حروب المَهانة؛ أو بالتأثير على أمريكا، حليفتها في العدوان وفشلهم في اجبارها على أن توقف حربها المدمّرة وقتل وتشريد أبناء أمّة الإسلام. ومن المخجل والمستفز ان تستمر اسرائيل باحتلالها لأرض فلسطين وبعدوانها السافر الأخير على غزة من دون ان تحسب حسابًا لموقف الدول العربية، التي في أحسن الاحوال ما انفكت تظهر “عجزها” عاريا، بمشهد يدعو الى البكاء حينًا وإلى التقيؤ احيانًا ؛ وبعضها، دول عربية أسلامية، يُستدلّ بسهولة، من رياء حكامها ومن خرائط مصالحهم المفضوحة، انهم متواطئون مع مشروع إسرائيل وأمريكا، ويتمنّون مثلهما التخلص من هذا الكابوس الذي اسمه فلسطين وإزالة قضيتها عن “موائد رحمانهم ومن موالدهم”.
بعد كل بيان تنديد وشجب تطلقه “جامعة الدول العربية” او “منظمة التعاون الاسلامي”، اكاد اسمع بين سطوره حكام هذه الدول وهم يتمتمون في صلواتهم كما يملي عليهم شيخهم نتنياهو ووعّاظه ويرددون مثلهم في السر: فلتكن غزة الذبيحة أولا، وبعدها سوف تنخّ الضفة المحتلة، ثم لن يبقى أمام “مملكة اسرائيل” إلا مهمة واحدة أخيرة هي تدجين من عصوا نداءات “جيش الانقاذ”، تلك الحفنة من “أيتام العرب”، الفلسطينيين الذين بقوا أشواكا في حلق اسرائيل وعثرة أمام تحقيق أحلام أنبيائها. “لقد حان الوقت”، هكذا يقول حكام إسرائيل الجديدة للمواطنين الفلسطينيين بعد السابع من اكتوبر، “فإمّا أن تقبلوا أقفاصنا وتعيشوا كما عاشت “النمور في يومها العاشر”، أو أن تكتبوا، ككبار شعرائكم، معلقاتكم على “أعواد المشانق”، أو، ربما، أن تستكملوا “تغريبة” اجدادكم وتمضوا على وقع حداتكم نحو الشرق والى المهاجر . انه زمن محنتنا الكبرى وهي على عتباتنا ترقص وتعربد. ومن لا يراها قادمة نحوه ولا يشعر بها، فإنه سيشقى ولن ينام في بيته آمنا. انها المحنة التي يتوجب التفكير في مواجهتها، والا سنجد انفسنا قريبا لاهثين وراء سفينة في ليل كله رمل وضجيج، أو سننتظر، كما انتظر الذين سبقوا، قطارا من بخار وغبار في محطة هي “مثل وشم ذاب في جسد المكان”، ورحلوا.
يستبشر “المتشائلون” والواثقون بدنوّ الفرج، والمؤمنون بحتمية نصر صاحب الحق والقضية العادلة، بمواقف بعض الشعوب العربية والاسلامية، التي عبّرت بعض قطاعاتها عن وقوفها مع غزة ونصرتها؛ فهذه الشعوب ليست كملوكهم وامرائهم وحكامهم، هكذا يؤمن المتفائلون. كنت أتمنى أن أشعر وأن أفرح مثلهم، لكنني أعرف أن هذه الشعوب تعيش على دين ملوكها ووقع سياط أمرائها ونبض حكامها. قد تفور، كما الشهوة، بعد”غزّةٍ” في خاصرة كرامتها المتخثرة، التي حفظها تاريخ أمة تربّت على “طبائع الاستبداد” ولم تهتدِ الى دين يحررها ويوحدها منذ يوم “سقيفة بني ساعدة”. إنها أمة عاشت في ثنايا “الملل والنحل” وتحت عباءات “أمراء مؤمنين” جاءوا فذَبحوا وذُبحوا وكَفّروا وكُفّروا، وليس جديدا عليها “اغتيال الصحابة والأولياء ..فتاريخها كله محنة .. وأيامها كلها كربلاء”. هكذا علّمتنا بطون الكتب وهكذا ردّدت “بنات الصحاري” في بكائيات من سلفوا ومرثيات من درسوا “فيا غافلا وله في الدهر موعظة، إن كنتَ في سِنةٍ فالدهرُ يقظان “. يجب أن يقال هذا الكلام لغزة ولرام الله، وللقدس طبعا؛ لكنني أقوله اليوم للناصرة ولعكا ولأم الفحم ولكل الأهل في الداخل، فنحن نقف على حافة الهاوية وأمامنا جراحات غزةَ عِبر، وعبرات القدس دروس، فلنتذكر أنّ “قصبٌ هياكلنا، وعروشنا قصبُ” ووحدنا سنواجه “الغول والعنقاء والخل الوفي”.
قد يكون التفاؤل في هذه الاوقات الحرجة بعد انتشار اليأس بين الناس، أوجب وأكثر الحاحا ؛ لكنني أومن “بأمر مبكياتي” واشعر بان الاوضاع داخل اسرائيل تتجه نحو الأسوأ والاخطر بعد أن أكملت القوى اليمينية المتطرفة والفاشية المستشرسة بهدوء عملية إطباق سلطتها المطلقة على معظم مرافق الدولة. ففي ظل الحرب على غزة والضجة حولها، وما استحوذته وما زالت من انتباه عام وانشغال المجتمع اليهودي بتداعياتها، استغلّ أقطاب الحركات اليمينية، بعد أن اضطروا الى تجميد خطوات انقلابهم مع تعاظم المعارضة الشعبية والمؤسساتية لمؤامراتهم ، استغلوا الأجواء التي نشأت بعد السابع من اكتوبر واستأنفوا تنفيذ مشروعهم، خطوة وراء خطوة، حتى أنجزوا معظمه. لقد لاحظ الكثيرون من المتابعين أن أصحاب مؤامرة الإنقلاب يتقدّمون ويحتلّون المواقع، مستفيدين من أجواء الخوف التي انتشرت داخل المجتمع اليهودي بعد السابع من أكتوبر، ومستغلّين حالة الجنوح الشديد بين اليهود نحو استعادة مكانة قوتهم العسكرية وقوتهم على الردع التي خسروا. والنتيجة كانت أنّ المناخ السياسي العام في الدولة بات جاهزًا لتنفيذ مشروع تدجين المواطنين العرب وتأديب قياداتهم ومؤسساتهم، وتحويلهم الى رعايا “إيجابيين” أو، إذا ما قاوموا ورفضوا، تدفيعهم الثمن و”تحييدهم”؛ وهو المصطلح الذي بدأ الاعلام العبري يطلقه على من يقتله الجيش أو أذرع قوات الامن الأسرائيلية الأخرى في المواجهات مع الفلسطينيين، وتستعمله ايضاَ، عن جهل وعن حماقة، بعض وسائل الإعلام العربية !
أعيش في قلق مطّرد وأقرأ كل يوم أوراق عمل وتقارير تعدّها مؤسّسات بحثية محلية ومعاهد دراسات وباحثون أكاديميون حيث يأتون فيها على تشخيص مفصّل للمخاطر التي نواجهها، نحن الفلسطينيين في الداخل، وشروحات حول مآرب حكومة نتنياهو السياسية النهائية. لكنني لم أجِد في معظمها مقترحات لحلول يقدّمها هؤلاء الباحثون لمواجهة المخاطر الموصوفة بدقة وبشمولية.
وبلغة مبسطة وواضحة أسأل نفسي أولاً وجميع من بحث وحلل أزمتنا الراهنة: ماذا علينا أن نفعل إن قررت حكومة اسرائيل غدا تقليص وسحب حقوقنا الاساسية ورهنها بقائمة شروط تعتمد مبدأيّ الولاء للدولة اليهودية والندّية بين طرفي معادلة المواطنة، أي حقوق مدفوعة مقابل واجبات متمّمة كما تحدّدها قوانينهم العنصرية وعقيدتهم المبنية على مبدأ الفوقية اليهودية. لم تعُد هذه مجرد خرافات أو تكهنات يستحيل حدوثها، فنحن على أبواب هذه المرحلة وما قد تفضي إليه من مواجهات حقيقية. سؤالي موجه لجميع قياداتنا ونخبنا الذين يؤثرون، في هذه الظروف عدم التطرق الى هذه القضية بغير خيار المواجهة في الساحات وفي الحارات، حين يتحدث عنه البعض كمعطى محتوم علينا، في ظل أي خيارات أخرى. وحتى من يتحدث عن ضرورة المواجهة لا يوضح ما شكلها وما هي حدودها، علما أنه سيكون اخطر الخيارات من منظوري؛ فوفق سياسة “التحييد” التي رأيناها تنفذ أيضا في بعض مواقعنا في الداخل، سنكون نحن، الأعداء، ضحاياها المؤكدة، فهل لدينا غير احتمال المواجهة ? وهل سنسمع مواقف التيارات السياسية البارزة بيننا، أعني التيار الإسلامي بشقيه الشمالي والجنوبي، والتيار القومي بتفرعاته العديده والتيار الجبهوي، إزاء علاقة المواطنين الفلسطينيين مع إسرائيلهم الجديدة، وهل ترى هذه التيارات أننا نواجه اليوم خطرًا وجوديًا، أم تعتقد أنها مجرد غيمة سوداء ستبدّدها صلاة وشعار وأغنية؟
سؤال/نفير أطلقه وشعبي وننتظر الجواب؛ فهل من مجيب ؟