في الأضحى فلسطين هي الضحية

جواد بولس

تاريخ النشر: 15/06/24 | 8:07

ستحتفل الامة الاسلامية بعد يومين بعيد الاضحى، وفي العالم ستستمر الفضائيات بنقل مشاهد اهل فلسطين وهم يتساقطون قتلى وجرحى وأسرى ونازحين “مضحّين” عن أمة كاملة تمارس شعوبها وحكامها “اسلاماتها” بمنتهى التقوى والقناعة والفرح والدعاء بالفرج وبالنصر على أعداء الاسلام.
أقول ذلك مدفوعا بغضب وبوجع وبقلق ازاء ما ينتظرنا، نحن المجتمعات الفلسطينية كل في موقعه؛ فإن كانت غزة هي عنوان الدم الهادر وأم الشقاء الحالي، فالضفة الغربية المحتلة تعرف انها تقف على باب الأتون المستعر وتنتظر اقحامها في هذه المواجهة التي تخطط لها اسرائيل كي تكون الأخيرة في معارك السماء والحاسمة لصالح من يدّعون انهم اصحاب ارث الرب في هذه البلاد.
كل المشاهد المنقولة من رفح وخان يونس والنصيرات وسائر مناطق القطاع، ومن كفر دان وبيتين وجنين وسائر مناطق الضفة الغربية تهز الأبدان، وتذكّر العقّال بحكمة عدل الخالق الغائبة عن الذين يسجدون له حتى وهم بين الانقاض او فوق الرماد. يشعر الفلسطيني في هذه الأيام، رغم تردد الوهج من الجنوب ووعد ووعيد “بركان الشمال” أن الآتي، على أطباق الاخوة الاعداء، لن يكون الا هباء، وأن الأمل الباقي يتلوى فريسة بين فكّي الاحتمال. لقد قالوا في المجاز والاحلام، أن فلسطين هي يوسف، لكنّها هيهات؛ فهي، في عصر احلاف قيصر وزمن الايلافات الجديدة، صارت سبيةً ترجو رحمة الرحمن ولطف “روما” ومنّة السلطان .
في كل زاوية في فلسطين موت وبكاء ووجع؛ ويبقى وجع الاسرى الفلسطينيين اقرب الاوجاع الى قلبي، لا سيما ونحن نقف على شرفات التضحيات والاماني.
لقد هزتني مؤخرا صور لبعض الأسرى الفلسطينيين الذين تحرروا من سجون الاحتلال بعد أن قضوا فترات اعتقالاتهم العادية او الادارية. كنت أعرف بعضهم منذ سنوات طويلة، مثل الاخوة عمر عساف وباسم التميمي وعبد الخالق النتشة وبسام الزماعرة ونبيل النتشة وعزام سلهب ومحمد كرسوع؛ وعندما شاهدت صورهم التي بدوا فيها كأشباح مستنسخة عن أصولها، فهمت كيف تبتكر إسرائيل الجديدة طقوس تعذيبها وتمارسها على اجساد الفلسطينيين وعلى نفوسهم، قاصدة تجويف أرواحهم من الداخل وتحويلهم الى مجرد هياكل واهية أو سرابات هائمة.
لقد سمعنا، مع بداية حملات الاعتقال الاسرائيلية المتتابعة منذ السابع من اكتوبر، عن ممارسات اسرائيلية قمعية غير مسبوقة بوحشيتها تنفذ بحق الاسرى الفلسطينيين؛ لكننا لم نستطع، كمحامين او كمؤسسات حقوقية تعنى بشؤون الاسرى، توثيق ما يجري، وذلك لان سلطات الاحتلال منعتنا من زيارة السجون ؛ وحظرت، كذلك، احضارهم الى قاعات المحاكم؛ كما وامتنعت عن نقل أي معلومات عنهم . ولكن مع مرور الوقت وافلات قصاصات من اخبار الفظائع المرتكبة داخل السجون ومعسكرات الاعتقال، ومع زيادة الضغوط المحلية والدولية على الاحتلال، وفي اعقاب الافراج عن عدد من الاسرى بعد انتهاء فترات اعتقالهم بدأت المعلومات ترشح والاخبار تؤكد وتنشر . لقد صدمتنا الوقائع وفاقت مضامين شهادات الاسرى المحررين ما تخيلناه؛ لقد تبين أن بعض مراكز الأسر والتحقيق كانت تعمل مثل “المسالخ” حيث يعذب فيها الاسرى بعنف ويهانون باساليب لا يليق الكلام عنها ، ثم يزج بهم في اقفاص او غرف او ساحات في ظروف حياتية وصحية لا تصلح لحياة البشر. سوف يكتب التاريخ ، رغم سياسات التعتيم وتواطؤ وسكوت وسائل الاعلام العبرية والعالمية، عن هذه الممارسات الاسرائيلية الساقطة، وسوف تظهر حقيقة الظروف التي ادت الى استشهاد اثني عشر اسيرًا قضوا في سجون الاحتلال بعد السابع من اكتوبر، وعشرات الاسرى الغزيين، وليس فقط 36 اسيرا كما اعترفت سلطات الاحتلال رسميا، الذين قتلوا داخل معسكرات الاعتقال، فمواكب الاسرى سيبقون أحياء ورواة لقصص الصبر والتضحيات
لقد اخترت ان اكتب حول هذه الغصة قبل حلول عيد الاضحى لانني رفيق هذه التجربة منذ اكثر من اربعة عقود، واشعر انني ملزم ، في هذا الظلام الدامي، ان الفت نظر العالم والمعيّدين من الامة الاسلامية، الى واقع الحركة الاسيرة التي تمر بأحلك ساعاتها وأقسى تجاربها، وتواجه محاولة الاحتلال ردم ارثها النضالي العريق والثابت، تحت انقاض بيوت غزة، ومن خلال خلق حالة ترهيب واهانة وقمع وردع “وتحييد” لكل مناضل فلسطيني او مناضلة يصرون على مواصلة الطريق ومواجهة الاحتلال وكنسه.
لقد كانت ممارسات الاحتلال الاسرائيلي دائما قمعية ووحشية خاصة ضد الحركة الأسيرة الفلسطينية؛ ولطالما كنت شاهدًا على محاولات صناع سياسة القهر الاسرائيلية ضرب هذه الحركة وقصم ظهرها، لكنهم كانوا على الاغلب يفشلون؛ اما ما نراه اليوم فهي حالة غير مسبوقة من التغول والانفلات في الاراضي المحتلة وداخل السجون وهذه الهجمة تتم بمشاركة منسقة ومتكاملة بين عناصر جيش الاحتلال وعناصر ما يسمى “مصلحة السجون الاسرائيلية” وقطعان المستوطنين الموكلين بتنفيذ عمليات الترهيب والاعتداءات المسلحة والقتل ، السريع والكثيف، بالتوازي مع الانقضاض على الاسرى والمعتقلين داخل السجون والمعسكرات واشهرها، في هذه المرحلة، هو معسكر “سدي تيمان”.
بلغت حصيلة الاعتقالات في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية 9200 اسير، وهذا العدد يشمل كل من اعتقل منذ السابع من اكتوبر سواء من ابقي بالاسر او حرر. اما عدد الاسرى الاجمالي الحالي في سجون الاحتلال فيبلغ 9300 اسير، يوجد من بينهم 3400 اسير اداري كانوا قد اعتقلوا من دون توجيه لائحة اتهام بحقهم ويخضعون الى اجراءات قانونية صورية لا تؤمّن لهم دفاعًا مناسبًا ولا قواعد المحاكمة النزيهة. ويوجد في الاسر حاليا 75 اسيرة تخضعن لظروف قاسية للغاية وللتنكيل الدائم، ويذكر ان من بينهن أسيرتين حاملتين هما: جهاد دار نخله وعائشه غيظان. ويوجد في السجون 250 طفلا لا يحظون بأي معاملة ملائمه لجيلهم بمقتضى قوانين القاصرين. كذلك تحتجز اسرائيل في سجونها بالتقريب 900 معتقل قام الاحتلال بتصنيفهم “كمقاتلين غير شرعيين” علمًا بان عدد هؤلاء “المقاتلين” لا يشمل الاف الاشخاص/ الاسرى الذين قام الاحتلال باسرهم واحتجازهم في معسكراته وسجونه من دون اعطاء أي تفاصيل عن ظروف واسباب اعتقالهم أو معلومات عن شروط اعتقالهم، ولم يسمح للمحامين بزيارتهم او لهم بالاتصال مع العالم الخارجي.
لم تقتصر عمليات الاعتقال، بعد السابع من اكتوبر، على من يقاوم الاحتلال في الميادين، بل شملت جميع شرائح الشعب.
قد تكون الكتابة عن هذه الغصة، والعالم الاسلامي يقف على مشارف عيد الاضحى، غير مناسبة للبعض وغير مرضية للاخرين؛ لكنني، كما قلت سالفا، انه دَين في رقبتي لمن كانوا صنّاع ماضيّ ومؤرّقي حاضري وأعمدة راسخة في مستقبل فلسطين. فلسطين التي يسجد في كل زاوية فيها موت، ويتيه بكاء وينام وجع؛ اكتب عن الحرية لانني اخشى أن “يستفحل” الايمان في القلوب ويفيض فتنسى فلسطين “كأنها لم تكن، تنسى كمصرع طائر ، ككنيسة مهجورة تنسى، كحُب عابر وكوردة في الليل تنسى”. واكتب عن الأمل، لانني اعرف أنه اذا هزم هناك وسقط فرسانه سيأتي الدور على قلاعنا/سجوننا وعلى فرساننا نحن في الداخل، وأخشى أن هذا اليوم قد بات وشيكا. اكتب وامامي كلمات احد المناضلين القدامى الذي خاطبني بعد ان قرأ احد مقالاتي وقال : “منذ السابع من اكتوبر وأنا في حالة لم اعهدها في حياتي خوفا من الاعتقال. لم احسب يوما من الايام حسابا لاي من اعتقالاتي العشرة السابقة ، لكنهم داهموا بيتي من بداية الحرب وهددوني بالقتل والاعتقال؛ فانا لم اخف في يوم من الايام من سجونهم ولا من تهديداتهم، ولكن ما حدثني به اخوة تحرروا من الاسر حديثا عن السجون وما يتعرض له الاسرى من ظلم وبطش واهانات لم نعهد مثيلا لها، جعلني اخشى وحشيتهم التي وصفتها في مقالك وحضرت أمامي صورة الشهادة ؛ فنحن بهذه السن لا نحتمل الاهانة “. انه كلام مرعب ومقلق. حدّثته وقلت إنني لا أوافق على كلامه ، ففهمت أنه يعشق الحياة لكنهم يعيشون في مواسم الخوف الذي يتلاقح حتى يلد مواسم الدم. انها دوائر الاحتلال الشيطانية التي تلف على محاورها وتطحن النور ظلاما، وحبة الصبح غضبا، وورد المساء علقما. انهم يصنّعون الخوف ويصنعونه ولا يقرأون، فيا ليتهم يقرأون ما يقوله هذا الحر وهو يستعد لاستقبال أضحاه بفرح وبتقوى، ويؤمن ان حربه هي حرب بقاء وكرامة، لا حرب سماء وابادة.

ويا ليت الجميع يقرأ !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة