أنا مش ناقد…بس البحر هادر
محمود عيسى موسى (إجزم/ إربد)
تاريخ النشر: 19/06/24 | 14:51 من على شرفة حيفا
شرفة المبدع حسن عبادي
هدر بحر حيفا
لم أره رأي العين، لم أسبح في يَمّه، ولم أعُمّ بين أمواجه واللجين.
سمعته. سمعت البحر يسبح في دمي.
غرقت مع اسفنجه ومرجانه وقناديله في أهم لحظة حبية أبدية في الدنيا.
عشت حبا مائياً هادراً خفاقاً، أنام وأصحو على رقرقة فضته وأحلم كل العمر في اليقظة والمنام برؤية ولقاء سيد البحار.
ما زلت أسمع هديره منذ طفولة المخيم يهدر في الحنايا، يُدوّي في الحقل وخلايا الجسد، كما سمعه من قبل أهل الرمثا وسهل حوران أيام القمح والبيادر الصافية قبل أن يُعكّر صفو الاهراءات سايكس وبيكو.
هدر البحر، بحر حيفا، بحر الفنيق وصدف الارجوان، عبقت ريحته في الزقايق وطلعة الهدار وطريق البرج وقهوة العزيزية، في خليج حيفا ومصفاة نفط العراق ورصيف الميناء وناقلات النفط الراسيات.
هدر في ساحة الخمرة وساحة الجرينة والسوق الأبيض وسوق الشوام، في ناحية قيسارية، عيد عشتروت، في الاثنين وستين قرية، التي في القضاء.
عبقت ريحته في هدار من الفرير وراهبات المحبة والناصرة والمدارس الإنجليزية والألمانية والروسية والمكتبة الوطنية.
في كزار مريم العذراء سيد الكرمل على قمة الكرمل ودبر الفرنسيسكان والأباء الكرمليين.
في تل السمك ورأس الكروم والفنار الذي بينهما، في المكان الذي علّم فيه الياس واليشع تلاميذهما، مدرسة الأنبياء، مار الياس والخضر وبقا الكنيسة المنقورة في الصخر. في الطريق الساحلي الذي هرب منه السيد المسيح وأمه العذراء إلى الناصرة من خطر الرومان.
في موقع تل السمك الذي قامت عليه حيفا.
عبقت الريحة وهبّت في شيقومونا، شكيما اليونانية، الجميز التوت، وحلّ القديس يعقوب ناسك الكرمل وبولس الرسول، في حي الألمان في جبل الكرمل في البرج الشرقي والغربي ونزل الكرمل والجامع الشريف والمحطة وبرج الساعة والتكايا والحمامات والخانات التسعة ومحطة القطارات والباصات المركزية.
هدر الكرمل فتنبهت حيفا من ربضتها على السفح الشاهق للكرمل أما الزرقة المتلألئة التي لا تنتهي.
لم أر بحري سيد البحار، لم أر حيفاي، إنها سيدة المدن وهي تربض ربضتها منذ أول إنسان في كهوفها على السفح ترقب الزرقة الساحرة وتشم البحر.
لكني ما زلت أسمع الهدير والهدير المقاوم.
القص في ومن على شرفة حيفا هو الصدى لهدير بحر حيفا منذ نكبة 1948 وإلى الآن.
هدير، قص مختلف بطابعه متفرّد في أسلوبه بين القصص وأساليبها وتنوعات كتابتها.
قص يسير ومفهوم، ممتع وجاذب للقارئ العادي والقارئ المثقف، وهو أقرب إلى القص الشفاهي الشعبي، كيف لا وقد نهل من ينابيعه العذبة.
في اختلاف صوره عما هو سائد وتميزه ما تؤكده الصياغة الذكية، البسيطة السهلة، بلغته حلوة المذاق شذية النكهة. وقد جاءت لغته عميقة بمعانيها ودلالاتها، معجونة ومطعّمة تطعيماً قصديا وذكياً بعجينة اللغة الفصيحة واللغة المحكية بما يخدم أسلوب القص ومضامين القصص.
تعتمد توليفة حسن القصصية وتستند إلى مجموعة من العناصر أهمها المكان وتأمل المكان ابتداء من العنوان على شرفة حيفا، تأمل المكان، الأرض، الوطن بأبعاده وجذوره الممتدة في أعماق التاريخ بمكوناته ومكنونه الاجتماعي والتاريخي والثقافي المرتبط بالناس وبما حل بهم بعد الاحتلال، بعد النكبة الفلسطينية العربية أم النكبات.
المكان يعني الحياة، يعني كل شيء بالنسبة للعربي الفلسطيني.
القص عند عبادي ينطلق عبر شرفة حيفا، شرفة التأمل والأمل والرؤيا وعبر البحر ومعنى الهدير.
ينطلق من المكان المركزي الأبدي لينتقل في السياق وبعرج على الحواضر، على القرى والبلدات التي احتلت وهدمت وشرّد أهلها وتشتتوا في بلاد الله الواسعة.
الشخوص هي العنصر الثاني في التوليفة، التي أراد لها العبادي أن تكون مندمغة تماما مع العنصر الأول، المكان، واختار لها من الأسماء ما يناسب المكان (قرية، بلدة، منطقة، سهل) مل يؤكد على العلاقة الوطيدة والمتجذّرة بين الأرض والإنسان. (ام فراس الترشيحانية، الطمبورية، الجزماوية، خضر الجليلي، يونس العسقلاني، هارون الصفدي).
إضافة إلى هذين العنصرين، نجد أن العناصر الأخرى قد أغنت القصص وأثرتها ورفعت من سويتها كتوظيف عنصر اللغة، اللهجة، المحكية إلى جانب اللغة الفصيحة في حديث وحوار الشخوص وأحياناً في لغة السرد، لغة الكاتب بعفوية أو بقصدية واضحة.
كما عزز عبادي توليفته بعنصر السرعة في القص واخفاء الزمن والتورية، وعنصر الذكاء والإيجاز والتكثيف وأخيرا عنصر القفلة القصصية، بحيث تعاضدت جميع هذه العناصر وتكاتفت فيما بينها لتشكل رافعة تحقق التميز والتفرّد في هذا المجال.
تحسب وأنت تقرأ قصص حسن عبادي، كأنما قطفت ثمارها من رواية كبيرة، ممتدّة بوسع بحر حيفا، كأنما قطفت بيد فنان ليعيد رسمها وصياغتها وتصويرها من جديد ضمن لوحات قصصية شهيّة وأخّاذة.
يلظم عبادي قصصه ويشدها بخيط أسلوبه المتفرد الحرير ويُغنيها بمضامين ثرية وعميقة وهي إلى ذلك رغم قصرها لها رائحة ونكهة وطعم العكوب والسناريا والحويرّة والزعتر.
اللغة عنده تركض مسرعة كما تركض الكائنات في وادي النسناس والمرج الذي لعامر وتركض معها الحكايا.
قصصه مثلها كمثل القصص الشعبي لا تخلو من الذكاء الفطري ولا تخلو من الطرافة والفكاهة والقفلة الضاحكة، وهي إلى ذلك لا تخلو من الحكمة الموروثة عبر الأجيال سواء في المتن أو في القفلة.
قصصه سريعة الكلام، سريعة الحكي، ذلك هو نتاج مخزونه الثقافي ونتاج ما اكتسبه من المعارف ومن القصص المتداولة والمحكية بين الناس.
الكلام ومن على شرفة حيفا قُطّر تقطيراً وكثّف تكثيفا حصيفاً.
نكاد للوهلة الأولى أن يراودنا الشك، شك السؤال والحيرة، بأننا لسنا أما قصة، لما فيها من الاختصار والإيجاز والتكثيف، ثم نتبين عندما ندرك أنه يقنّب قصصه تقنيباً خبيراً كالفلاح الذي يقنّب الدوالي والشجر، ومن خلال هذه التقنيّة الفلاحية تنضج الثمار وتنضج التفاصيل بين يدي عبادي وينجح في توريتها وإخفائها بين السطور وتنضج معها القصص الواضحة الميسرة، التي تخفي في ثناياها أكثر بكثير مما تظهر.
لغة السرد عند حسن عبادي تضج بالواقع وبالحياة، لغة سلسة واضحة كالشمس، قريبة من الروح والوجدان بمضامينها والتزامها بالوطنية الأصيلة والتراث والتشبّث بالأرض والتمسّك بالحق والارتباط بالثقافة العربية.
لعمري أن هذه واحدة من أهم المزايا في كتابات عبادي، وهو إلى ذلك لا يعمد إلى الغرائبية السوداوية والفنتازيا والتخييل في قصصه، بل يصوّر ويرسم بواقعيّة دقيقة المعاني والأبعاد، البلاد والحياة والناس من كل الألوان والأجناس، الوطني والخائن، الصامد والصابر، المقاوم والعميل، الضحية ومن يتعامل مع المحتل، المحارب ومن يستشهد.
يركض حسن عبادي في قصصه كما يركض (في مشروعه العظيم) أسرى يكتبون، في سجون الاحتلال، ويختصر في أسلوبه الكتابي الزمن الطويل إلى زمن اللحظة ليوصل الثمرة، الفكرة (تعرف ماجد دكتور علم الحاسوب على ماريا، نادلة مقصف الشركة التي يعمل فيها، ورُزقا بطفلة جميلة سمّاها سالي)، هناك زمن يخفيه بين السطور يمتد منذ لحظة التعارف ثم الارتباط وحتى مجيء المولودة، وهذه الميزة تُحسب له أيضاً.
بالنسبة إلى تمسّك عبادي وتعلّقه بأرض فلسطين، نجد أن جُل قصصه تذهب مذهباً واضحاً ألا وهو التشبّث بالأرض وعم التفريط بها. (هيك بدّك إياني أفرّط بأرض جدادي) (هذي الأرض إلها صحاب).
يركز حسن عبادي في قصصه على الرحيل والتهجير القسري وتتكرّر فيها صورة البيارات المصادرة، التي زرعوها، بكروم العنب وبساتين التفاح، على أرض الأجداد تحت مُسمّى (أملاك الغائبين)، مما يضطر الشباب والشابات للعمل في المستوطنات (الكبّانيّات) المجاورة لمساعدة وإعالة أهاليهم بما في ذلك من مخاطر الانزلاق في دروب السوء والرذيلة.
إذ لم يبق بعد هذه المصادرات غير النزر القليل، لم يبق غير التراكتور الذي قال عنه الحاج علي: (هذا إيدي وإجري).
في نظرة فاحصة نجد أن قصص عبادي كُتبت بأسلوب حياتي واقعي بعيداً عن البكائيات والعويل، التي سادت في الأدب ما بعد نكبة فلسطين، على العكس من ذلك نراها زاخرة بالتجارب الحياتية والمواقف الوطنية الصلبة والتشبث بالأرض والتعلّق بالحق ما يدل على تطور الوعي وتصاعد أشكال المقاومة.
ولنا في قصة مفتاح البيت خير مثال، المفتاح الذي تم استئصاله من معدة الحاجة عفيفة التي نطق لسانها قبل أن تفارق الحياة بالجملة المدويّة (مش رايحة أوصّيكم). عن أي مفتاح وأي معدة وأي عفيفة نتحدّث، وعن أيّ تشبّث بالحق حتى النفس الأخير.عبر هذه الشرفة المطلّة على حيفا وبحرها العظيم، يسعى عبادي إلى تأصيل المكان من خلال الشخوص، فشخوصه روائيّة بجدارة، لا ينقصها سوى المعمار الفني الإبداعي والبناء عليها بمزيد من التفاصيل الكامنة بين السطور، كما أسلفت شخوص قصصه طالعة من رواية، وإلى ذلك تحمل في أكمامها عمق التجربة ومفاعيلها وتأثيراتها، كما تحمل المثل الشعبي والموروث الوجداني والمعرفي التراكمي الذي تتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل، إلى ذلك تحمل في أكمامها جوهر القصة.
والأمثلة على ذلك كثيرة:
– من طينة بلادك حُط على خدادك
– لولا الحكّي والمكّي كان حالتك بتبكّي
– ربيان ع البز الرفيع
– ريحة الجوز ولا عدمُه
– هواة الغشيم بتقتل.
ينهج عبادي بإنسانيّته ووعيه المتقدّم نهجاً حضارياً لافتاً للارتقاء بشخصية المرأة ودورها العظيم في كلّ الأزمنة، قبل وبعد الاحتلال من خلال نماذج فلسطينية، صابرة، صامدة، متمسكّة بالحق والأرض والشجر والعروبة:
الحاجة عفيفة، ربيحة الجزماوية والحاجة أم سويلم التي اعتقلت بتهمة تنقيب العكّوب، بتهمة طبخة العكوب، تنهّدت الحاجة بعد أن روت أما المحكمة قصة التهجير يوم الأربعاء، الثاني عشر من أيار 1948، بالساعة واليوم والسنة، تنهّدت دامعة العينين “سقى الله أيام زمتن، وينكم يا إبراهيم الخوجة، صبري الحمد عصفور، ويوسف أبو درّة”.
وصرخت في وجه القاضي “كُلّها طبخة عكّوب يا خالتي”.