استراحة محارب خارج السياسة
بقلم احمد حازم
تاريخ النشر: 26/06/24 | 15:18منذ سنوات طويلة جداً وأنا أتنقل في بلدان هذا العالم، من بلد إلى آخر، جواً وبحراً، وأيضا كان لوسائل النقل البرية قسطاً من تنقلاتي على الصعيد العربي والدولي. لكن الرحلات الجوية، ورغم مخاطرها، كانت المفضلة عندي، بسبب سرعة الوصول إلى المكان المنشود. وبما أني أستعين دائما بذاكرتي في الرجوع إلى الماضي البعيد ــــ وذاكرتي لم تخونني أبداً لغاية الآن ــــ أاول أن عدد الرحلات الجوية التي قمت بها حتى وقتنا هذا، في رحلاتي المكوكية إلى مناطق في الكرة الأرضية، تتجاوز المائتي رحلة طيران في مشارق الأرض ومغاربها وفي قاراتها. أي بما معدله على الأقل 800 ساعة طيران، مما يعني أني بقيت في الجو معلقا بين الأرض والسماء ما يعادل أكثر من 33 يوماً.
لكني أعترف، بأن الولايات المتحدة وأستراليا وكندا لم تطأ قدماي أراضيها، رغم أني تلقيت ما لا يقل عن عشرين دعوة رسمية وخاصة، من مؤسسات وأشخاص في تلك الدول الثلاث، إلا اني رفضت بشدة السفر إليها لأسباب سياسية.
القارة الأوروبية كان لها النصيب الأكبر في تجوالي في هذا العالم. فقد زرت كافة دولها الغربية والشرقية مرات عديدة بحكم عملي الصحفي، حيث كانت العاصمة الألمانية برلين في فترة عملي، خارج العالم العربي، العاصمة التي أقمت فيها واحتضنتني مواطناً وإعلامياً سنوات طويلة، ومنها كنت أنطلق إلى دول أخرى.
ذات يوم تلقيت دعوة من وزارة الخارجية السودانية لزيارة السودان لمدة أسبوع، وطلب مني الملحق الصحفي في السفارة السودانية الذي كان مكلفاً بترتيب زيارتي، أن أرسل له أسماء الشخصيات السياسية التي أود مقابلتها خلال وجودي في العاصمة السودانية الخرطوم. ففعلت ذلك، وأضفت طلباً آخر وهو إتاحة الفرصة لي لزيارة جنوب السودان، الذي كان في تلك الفترة منطقة صراع خطرة مع الحكومة السودانية.
طائرة الإيرباص الضخمة التي أقلتني من العاصمة الاردنية عمان إلى الخرطوم، لم يكن على متنها سوى 15 شخصا، كان معظمهم غير سودانيين. هبطت الطائرة في مطار الخرطوم، حوالي الثامنة مساءً، وكانت هذه الطائرة ــــ كما علمت فيما بعد ــــ هي الثالثة فقط التي تهبط في مطار الخرطوم في ذلك اليوم، بسبب قرار مقاطعة السودان. وكان في استقبالي في المطار مندوب عن وزارة الخارجية ومندوب عن دائرة الاعلام الخارجي، حيث رحبا بي بحرارة وأوصلاني الى فندق هيلتون، الذي أقمت فيه لمدة أسيوع. وأخبراني بأن برنامج زيارتي للخرطوم قد تم الموافقة عليه، وسيبدأ تنفيذه في اليوم التالي.
أخبرتني مرافقتي، التي انتدبتها وزارة الخارجية لترتيب وتنظيم مواعيدي مع سائق خاص، عن موعد زيارتي لمنطقة جنوب السودان لمدة يومين، وبأن السفر إلى هناك سيتم بواسطة مروحية عسكرية سيكون على متنها جنرال مع مستشاره ومرافق له.
وقبل يوم من موعد السفر، طلبت من المرافقة إيصالي إلى مبنى وزارة الخارجية، حيث كنت على موعد خاص خارج نطاق العمل مع صديق عزيز شغل منصب سفير في أكثر من دولة. وخلال الحديث أخبرته بموضوع السفر إلى الجنوب، فنظر إليّ باستغراب كبير قائلاً: “هل جننت يا أستاذ أحمد؟ السفر لجنوب السودان خطر كبير على حياتك، فأرجوك إلغاء فكرة الذهاب إلى الجنوب”. ثم شرح لي بالتفصيل عن خطورة الوضع هناك، فعملت برأيه وأخبرت المرافقة بعدولي عن السفر. وبسبب ذلك لم يكن لديّ برنامج مقابلات لمدة يومين.
وقد فاجأتني المرافقة في اليوم التالي، بأن صديقي في الخارجية ترك رسالة لي لمقابلته فوراً في مكتبه. فذهبت إليه. وكم كانت دهشتي غريبة عندما استقبلني بالقول: “الحمد لله على سلامتك”. وأخبرني الصديق بأن المروحية العسكرية، التي كان من المقرر أن أسافر على متنها، قد تعرضت لصاروخ من قوات جبهة تحرير جنوب السودان، وتحطمت ومات كل من كان على متنها.
بقيت ساكتاً، ولم يكن بوسعي النطق بأي حرف وكأني في حلم، ثم عدت إلى نفسي وتساءلت: ماذا لو لم ينصحني السفير بعدم الذهاب الى جنوب السودان؟ والجواب طبعاً موت محتم، لكن رحمة الله أقوى من كل شيء، وكل إنسان يلقى وجه ربه في الوقت الذي يريده الخالق. وهكذا ابتعد الموت عني في اللحظات الأخيرة..