جامعة حيفا كمسرح متخيّل لمشهد اليوم التالي
جواد بولس
تاريخ النشر: 02/07/24 | 10:27قد يكون تعاطي جميع من سيتناولون الموضوع الذي اختارته هذه النشرة، وهو “التبعات السياسية للحرب ومشهد اليوم التالي”، من باب التحليل أو التكهنات الاكاديمية والسياسية وحسب؛ اذ ليس بمقدور أحد أن يحسب بدقة مآلات هذه الحرب اللعينة، ولا كيف ستتصرف حكومة اسرائيل وحلفاؤها حيال نهاياتها المحتملة؛ لا سيمّا اذا افترضنا أن هدفها الرئيسي، غير المعلن، هو تصفية القضية الفلسطينية والقضاء على فرص اقامة الدولة الفلسطينية، كما تشهد عليه تداعياتها الدموية المستمرة في غزة وممارسات الاحتلال واعتداءاته الجارية، بامعان وبمنهجية في الضفة الغربية، وفق مخططات هذه الحكومة المعلنة منذ اليوم الأول لتشكيلها في نهاية شهر ديسمبر عام 2022.
أقول هذا وأمامنا جملة من التعقيدات والمعطيات الفلسطينية الداخلية المستعصية، والعوامل الخارجية التي تشير الى أن الصراع الدائر، وإن اتسم بمحليته التاريخية، الفلسطينية الاسرائيلية، هو في الواقع تجليات لصراع اقليمي أكبر تخوضه اسرائيل بالنيابة عن أمريكا وحلفائها في العالم ومنطقتنا، ويدفع ثمنه الفلسطينيون بالنيابة عن معسكر “دول الممانعة” وعلى رأسهم تقف الجمهورية الاسلامية الايرانيه وحلفاؤها في المنطقة.
لست في صدد الاسترسال في هذه التقدمة، سوى انني أوردتها كي أميّز بين التبعات السياسية المفترضة للحرب ومشهد اليوم التالي المتخيّل، في منطقه العام والأوسع، وتأثير ذلك على أوضاعنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل؛ ففي حالتنا لا مجال للتكهن ولا للافتراض اذ ان المشهد واضح ومحسوم، لا بل كان واضحًا قبل السابع من اكتوبر فصار بعده محسومًا لا لبس فيه ولا رهان عليه.
لا يخفي حكام اسرائيل نواياهم ولا ما يخططونه لمستقبل مواطني الدولة العرب؛ فعنوان سياستهم، المعززة بعقيدة تفوق اليهودية على سائر الاعراق وبرزمة قوانين عنصرية استئصالية اضطهادية قامعة، هو تدجين الأقلية الفلسطينية المنزرعة في أرضها، ولسان حالهم يقول لها بدون تأتأة : “أما ان تقبلوا أقفاصنا وتعيشوا كما عاشت نمور زكريا تامر في يومها العاشر، أو أن تكتبوا معلّقاتكم ، ككبار شعرائكم،في السجون أو على “أعواد المشانق” ؛ أو ، ربما، أن تكملوا “تغريبة الخيام” وتمضوا على وقع حداتكم نحو الشرق والبحر وإلى المهاجر.
لم نكن بحاجة لهذه الحرب كي ننتظر المشهد في اليوم التالي ولا لحسبة تبعاتها؛ بيد أن برقها أوضح لنا عتمة فضاءاتنا، ورعدها من المفروض أن يصحّينا قبل أن يغرقنا طوفانها. يشعر الكثيرون مثلي بالقلق ويخيفنا هذا التيه الذي نعيش في ظلاله ولا نعرف كيف نواجهه وكأننا نمشي الى الهاوية ورؤوسنا الى الوراء، فلا الطريق واضحة ولا من يقودنا الى النجاة. بعض من بيننا واثقون بدنو الفرج، لان النصر يجب ان يكون لصاحب الحق ولا ينقصنا سوى التفاعل مع “النداء من أجل قيادة فلسطينية موحّدة” الصادر في نهاية شهر كانون الثاني الماضي على هامش الدورة الثانية لمنتدى فلسطين الذي عقد في الدوحة؛ فهيهات ! والبعض واثقون بالخلاص المجاني لأن السماء عادلة ولن تهجر من يأوي إلى مضاجعها؛ فهيهات ! والبعض لا ينجح بالنوم، وعلى عتبات دارهم يعوي الرصاص والذئاب، عاجزين بعد أن زاحوا عن دروب أبائهم وقادتهم المؤسسين، وتبقى أكثرية الناس متّكئة على حلم الانجاز والترقي أو ساعية، بتقية، وراء لقمة عيشها والسلامة.
لقد كنا قبل غزة في محنة؛ فماذا بعد غزة، في وقت لا السياسة عندنا ولا أحزابها وحركاتها الدينية الناشطة ولا مؤسسات المجتمع المدني قادرة وطبعا لا أمساخ “نظام التفاهة” قادرون على حمل المسؤولية وانقاذنا من هذا الجحيم؟
هذا هو راهننا؛ مجتمع يتخبط ويتأرجح على حافة السؤال الاعظم في حين تخطط إسرائيل لابتلاع هياكله وبناه ومنجزاته، بينما تصاغ هوياته الفئوية، في تفاعلات اجتماعية وسياسية “سائلة” وتتسرب جزيئياتها في قنوات اسرائيلية معطوبة او في قوالب أيديولوجية وسياسية مستوردة تحت اسم “المشروع الاسلامي” حينًا وحينًا تحت اسم “المشروع الوطني الفلسطيني” او سراب ” القيادة الفلسطينية الموحدة “، وكل ذلك يجري من دون أن ننجح في مواجهة قضايانا المحلية الكبيرة والمتعثرة او حتى مواجهة افرازات واقعنا الاشكالية اليومية، وهي كثيرة ومربكة.
فمثلا ، في شهر أبريل الماضي تم انتخاب البروفيسور منى مارون من قبل مجلس شيوخ جامعة حيفا لمنصب عميدة الجامعة وستبدأ في ممارسة مهامها في بداية شهر اكتوبر المقبل. مع انتشار خبر انتخابها باشر مئات المواطنين العرب، من خلفيات دينية واكاديمية وسياسية مختلفة، بتهنئتها على مواقع التواصل الاجتماعي مؤكدين اعتزازهم بانجازها وبكونها عربية وامرأة وجديرة بهذا الاختيار. بعد انتخابها صرح رئيس جامعة حيفا البروفيسور غور الروي على انه سعيد “باختيار اعضاء مجلس الشيوخ لها ” وانه “ينتظر بفارغ الصبر للعمل معها. فاختيارها يرمز أكثر من أي شيء آخر إلى الروح الخاصة للجامعة” وأضاف انه تم “اختيار منى لأنها باحثة متميزة، ولأنها نائب ممتازة لرئيس معهد ابحاث الدماغ في الجامعة، ولأنها عززت تفوقنا الأكاديمي، ولأن أعضاء هيئة التدريس كانوا يعتقدون أنها الشخص المناسب لمواصلة تقدم الجامعة نحو اهدافنا” وانهى تصريحه قائلا : “في جامعتنا يمكن أن يكون الشخص المناسب رجلا أو امرأة، يهوديا أو عربيا ، فهذا لا يهم حقا، وليس مهمًا ، هذا هو معنى وجودنا المشترك”. هل من غضاضة في هذا الكلام ؟
قبل أيام أرسل لي صديق نصا نشر بتاريخ 2024/6/18 في مجلة نيتشر (nature) العدد (630) بعنوان “مقاطعة الاكاديميين في اسرائيل تعود بنتائج عكسية” وتدعو فيه البروفيسور منى مارون وعدد قليل من زملائها المحاضرين الى عدم مقاطعة الجامعات والاكاديميين الاسرائيليين. ولقد عللت موقفها بتخوفها من ان المقاطعة قد تؤدي الى تقليص فرص قبول الطلاب الفلسطينيين في معاهد الابحاث العلمية العليا، كذلك بموقف الاكاديميا الاسرائيلية العام المساند لحقوق الانسان والرافض غالبا لسياسات الحكومة الاسرائيلية العنصرية، واخيرا لانها وزملاؤها يعتقدون ان الحوار والمشاركة هما الطريق الاضمن للتغيير داخل إسرائيل.
هكذا كتبت في رسالتها ، فهل سيتغيّر موقف مهنئي بروفيسور منى بسبب نصها المذكور؟ وهل يبطل رأيها حول عدم نجاعة مقاطعة الأكاديميين الاسرائيليين للاسباب العملية والنفعية الواردة ، انجازاتها كامرأة عربية مسيحية، كما قامت بتعريف نفسها في بعض مقابلاتها، عصامية رائدة في ابحاثها وقدوة لكثيرات من الطالبات والطلاب العرب كما أشاد بها مهنئوها؟ أكاد أسمع شلل الاجابات المنددة بها وبموقفها، وأسمع كذلك صمت من هم في منزلة منى مارون وابناء شريحتها، وهم كثر.
سيبقى ما نشرته منى مارون وموقفها ازاء المقاطعة الأكاديمية، في هذه الايام بالذات، موقفًا شاذا عن المقبول والمعقول وعن الموقف الرائج بين الاكاديميين العرب وكثير من اليهود ايضا؛ وسيحرج رأيها بعض الذين هنأوها، خاصة اولئك الذين لا يعرفون عنها الا القليل كما نشر بعد تعيينها. وهل سيتأثر الموقف اذا عرفنا انها في الحقيقة لم تخفِ رأيها في مسألة المقاطعة بل اعلنته في مقابلة اجريت معها قبل تعيينها بكثير وقالت حينها: انا ضد المقاطعة. انا لا اقاطع، لانني اذا قاطعت احدهم سأكون الاولى التي يمكن مقاطعتها؛ فانا ابنة لأقلية، أنا عربية، أنا مسيحية، أنا امرأة، فمن الجائز ايجاد أسباب عديدة لمقاطعتي”.
لم أعرف منى مارون شخصيا، لكنني قرأت عنها بعد اختيارها لمنصب عميدة الجامعة، وتعرفت على سيرة فتاة طموحة وقوية ومؤمنة بقدراتها على العطاء، ليس في ميادين البحث العلمي وحسب، بل في مساعدة ابناء مجتمعها العربي، خاصة البنات بينهم، وحضّهم على التعلم والتقدم في الحياة. سيرتها الذاتية لافتة، ومواقفها، التي لا اتفق مع بعضها، واضحة؛ فهي على سبيل المثال، كمسيحية، غير مستعدة لايذاء احد حتى ولا اعدائها رغم انها تعرفهم وتعرف مشاريعهم. انها ابنة لشريحة مواطنين عرب، من جميع الاديان، موجودة في مجتمعنا تحركها مفاصلها المتشابكة مع الدولة واكثر مع أماكن عملها مثل الجامعة التي تعتبرها، البروفيسور منى، بمثابة بيتها الثاني. ورغم انها امرأة متفائلة، لكنها تعي حدود ما تستطيع أن تناله كعربية ومسيحية لم ولن يحميها صليبها في الدولة اليهودية ومجتمعها المتطرف، خاصة في عصر قانون القومية العنصري .
سيبقى تصريح بروفيسور منى مارون المذكور سببا في انتقادها من قبل البعض وسيسجل في صفحات بعض الفسابكة وغيرهم، كمنقصة وككبوة أو كمداهنة للدولة وللجامعة، خاصة انها تعرف ان اسرائيل التي احتضنتها كطالبة علم وكباحثة فذة لم تعد اسرائيل نفسها.
وسيرغب بعض القرّاء أن اقفل الدائرة على عتبات جامعة حيفا لكنني لن أفعل ؛ فالقضية التي نبشتها حادثة البروفيسور منى مارون تذكرنا، مع الفوارق طبعا، بقصص غيرها من البروفيسرات والاكاديميين والمفكرين العرب، وتفتح مواجع واحدة من معاضل وجودنا كفلسطينيين في الدولة اليهودية. إن ما نراه في كل مرة وكبوة ما هي إلا شظايا “لألغام” لم نعرف كيف نفككها قبل الحرب على غزة؛ فكيف سنعرف بعد غزة، وقد يصير”المشهد اليوم التالي”، حتى في جامعة حيفا، مشهد الختام ونهاية القصة؟