هل الوعي البشري هو الذي اخترع اللغة؟

بقلم : د . ادم عربي

تاريخ النشر: 06/07/24 | 13:09

المثاليُّونَ الَّذينَ يُؤْمِنونَ بِأَنَّ الوَعْيَ هو المُتَحَكِّمُ الأَوْحَدُ في العالَمِ أَوْ الحَاكِم الأُتُقراطيّ لهذَا العَالَم، يردُّونَ على السُّؤالِ حَوْلَ مَصْدَرِ اللُّغَةِ بِقَوْلِهِمْ إِنَّ الوَعْيَ هو مَنِ اخْتَرَعَها. وَلَكِنْ، هَذا الجَوابُ يُثيرُ سُؤالًا آخَرَ: هَلْ كانَ لِلوَعْيِ وُجُودٌ قَبْلَ اخْتِراعِ اللُّغَةِ؟ وَالإِجابَةُ هي لا، لا وُجُودَ لِلوَعْيِ بِدونِ اللُّغَةِ.

اللُّغَةُ، الَّتي بِدونِها لا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَعْيٌ، جاءَتْ مِنَ العَمَلِ الاجْتِماعِيِّ، وَلَيْسَ الفَرْدِيِّ. فَالإِنْسانُ ظَهَرَ كَعُضْوٍ في جَماعَةٍ بَشَريّة، حَيْثُ كانَتِ الجَماعَةُ البَشَرِيَّةُ البِدائِيَّةُ تَعْمَلُ لِتَلْبِيَةِ احْتِياجاتِها الأَساسِيَّةِ مِثْلَ الطَّعامِ وَالمَلْبَسِ وَالمَأْوى. في البِدايَةِ، اسْتَخْدَمَتْ هَذِهِ الجَماعاتُ أَدَواتٍ طَبيعِيَّةً كَالحِجارَةِ وَالعِصِيِّ قَبْلَ أَنْ تَصْنَعَ أَدَواتِ العَمَلِ ، فَقَد تَحَوَّلَ الإِنسَان إلى صَانع أَدَوَات عَمَل منْ أَجلِ تَغيير بيئته الطَبيعية إلى صناعية في صِرَاعه معها.

وَمَعَ تَطَوُّرِ هَذِهِ الأَدَواتِ وَزِيادَةِ تَفاعُلِ الإِنْسانِ مَعَ بِيئَتِهِ جاعِلَاً منها بيئة أَفضل (صناعية)، زادَتْ قُدُراتُهُ الحِسِّيَّةُ وَتَنَوَّعَتْ مُدْرَكاتُهُ. الحاجَةُ إِلى وَسيلَةِ اتِّصالٍ، أَيْ لُغَةٍ، أَصْبَحَتْ أَكْثَرَ إِلْحاحًا. نَشَأَتِ اللُّغَةُ المَنْطوقَةُ مِنْ أَصْواتٍ تَنْبِيهِيَّةٍ بِدائِيَّةٍ اسْتُخْدِمَتْ لِلتَّحْذيرِ مِنَ المَخاطِرِ، ثُمَّ تَطَوَّرَتْ هَذِهِ الأَصْواتُ لِتُصْبِحَ كَلِماتٍ تَعْبِّرُ عَنِ الأَشْياءِ الَّتي تَهُمُّ الجَماعَةَ ، فَبَدَأَتْ بِالأَسْماءِ الجَامِدَةِ، مِثْلَ رَجُلٍ، اِمْرَأَةٍ، طِفْلٍ، نَهْرٍ، ثُمَّ تَطَوَّرَتْ بِاِسْتِخْدَامِ المَنْطِقِ وَالتَّجْرِيدِ الفِكْرِيِّ.

العَمَلُ، الَّذي أَوْجَدَ المُجْتَمَعَ البَشَرِيَّ، أَوْجَدَ أَيْضًا الحاجَةَ إِلى الاتِّصالِ اللُّغَوِيِّ. وَمَعَ تَطَوُّرِ اللُّغَةِ، تَطَوَّرَتِ المَعاني أَيْضًا. فَمَثَلًا، كَلِمَةُ “أَنْفٍ” كانَتْ تُشيرُ إِلى عُضْوٍ في الوَجْهِ، ثُمَّ اكْتَسَبَتْ مَعْنَى العِزَّةِ وَالتَّكَبُّرِ. وَكَلِمَةُ “ريحٍ” الَّتي تَعْنِي الهَواءَ المُتَحَرِّكَ، تَحَوَّلَتْ إِلى “روحٍ” الَّتي تُشيرُ إِلى النَّفْسِ.

اللُّغَةُ بَدَأَتْ بِكَلِماتٍ أَساسِيَّةٍ، وَكانَتْ أَسْماءُ الأَشْياءِ هي الجُزْءَ الأَهَمَّ. وَلَكِنَّ صِناعَةَ الأَسْماءِ لَيْسَتْ سَهْلَةً، فَهِيَ تَحْتاجُ إِلى تَجْريدٍ مَنْطِقِيٍّ. لا يُمْكِنُ تَسْمِيَةُ شَيْءٍ “شَجَرَةً” دُونَ مَعْرِفَةِ أَنْواعٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الأَشْجارِ وَالصِّفاتِ المُشْتَرَكَةِ بَيْنَها. هَذا النَّوْعُ مِنَ التَّجْريدِ الفِكْرِيِّ هو خاصِّيَّةٌ بَشَرِيَّةٌ تَتَطَلَّبُ تَعاوُنًا جَماعِيًّا ، فالحَيوان يَفْتَقدُ للتجريد.

تَجْرِبَةٌ أُجْرِيَتْ على قِرْدٍ أَظْهَرَتْ أَنَّ الحَيَوانَ لا يُمْكِنُهُ التَّجْريدُ الفِكْرِيُّ. القِرْدُ تَعَلَّمَ إِطْفاءَ النَّارِ بِاسْتِخْدامِ مِغْرَفَةِ ماءٍ مِنْ بَرْميلٍ، لَكِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ أَنَّ بِإِمْكانِهِ اسْتِخْدامُ الماءِ مِنَ البِرْكَةِ عِنْدَ تَعْديلِ التَّجْرِبَةِ. هَذِهِ التَّجْرِبَةُ تُثْبِتُ أَنَّ اللُّغَةَ وَالْمَنْطِقَ مُتَرابِطانِ، وَلا يُمْكِنُ الفَصْلُ بَيْنَهُما.

الإِنْسانُ، بِصِفَتِهِ كائِنًا اجْتِماعِيًّا نَشَأَ مِنْ خِلالِ العَمَلِ، يَسْتَطِيعُ إِدْراكَ الصِّفاتِ المُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الأَشْياءِ، وَيَسْتَطِيعُ بِالتَّالِي خَلْقَ مَفاهيمَ مُجَرَّدَةٍ مِثْلَ مَفْهومِ “الماءِ”.

الإِنسَان لَا يُمكنُه أَن يَعيش بمُفرَده أو يُحقِّقُ كُل احتِياجاته بِمُفرَده، لِذلك فَالعَمَل الاجتماعي نَتيجة طَبيعية لطَبيعته. فَالفردُ يَجِدُ الأمان والدَّعم في الجَماعة، ويَستفيدُ مِن تَجَارب الآخرين وخِبرَاتهم، مِما يُعَزِّز فُرصَ البَقاء والتَّقدُّم. تَطَوُّر اللغة مَرتَبِطٌ بِتَطَوُّر المجتمع، فَكُلَّما تَقدَّمَ المجتمع زَادَت الحاجَة لتَطوِير وسائلِ الاتصال والتَّفاهم، وتَعَقَّدَت اللُّغَة لِتُوافِق احتياجاتِهِم الجَديدة.

إِذًا، يُمكنُ القول بِأَنَّ اللُّغةَ وَالعمل الاجتماعي هُما العَامِلَان الأَساسِيَّان اللَّذان شَكَّلا الإِنسان الحديث، مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَى التَّرابطِ الوثيقِ بَينَ النَّشاطِ الاجتماعي وتَطَوُّرِ الوَعي والعقل البشري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة