هل الوقت مناسب للحديث عن أزمة شرعية القيادة الفلسطينية

د. حسن العاصي/ باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

تاريخ النشر: 12/07/24 | 15:38

الكتابة ليست عن غزة التي تعاني كل شرور الحياة. ولا عن حملة الإبادة الجماعية فيها، ولا عن أكوام الجثث، وركام البيوت. ولا عن مقاومة الغزيين بلحمهم العاري. ولا عن الشعور بالخذلان. بل الكتابة لأجل غزة حتى لا يضيع لحمها ودمها الذي فاق الوصف والألم.

طالما اعتبر الكثير من الفلسطينيين أن الحديث عن الفساد في البيت الفلسطيني صعب ومحرج، إن كان علنياً، لأنه قد يؤثر على طهر قضيتهم من التلوث بمجادلات ومناكفات. وهي الحجة التي اتخذتها السلطة الفلسطينية ذريعة لإسكات الأصوات التي تتحدث عن الفساد والتجاوزات، لأن الأَوْلى والأجدر ـ من وجهة نظرهم ـ هو الحديث عن الاعتداءات الإسرائيلية، وعن إيجاد حل للقضية الفلسطينية. إن جانب كبير من مكانة القضية الفلسطينية وأهميتها يتصل بطهرها وعدالتها. وجانب القدسية فيها لا يقتصر على قدسية أرض فلسطين فقط، وإنما من قدسية وطهر الرجال والنساء الشرفاء الذين قدموا أرواحهم في سبيل تحقيق الأهداف الوطنية.

لكن هناك فساد في السلطة الفلسطينية يصل حد الفضيحة. استملاك الأموال، والاستيلاء على المقدرات، والاستحكام بالسلطة، لا يصح أن يكون هو القضية والشغل الشاغل للسلطة، لأنها تحقق غاية الاحتلال الذي كان يجدر بالسلطة أن تحاربه، وتنأى بنفسها عن الشبهات، كما ينأى المظلوم عن ظالمه.

المواجهات الداخلية لا تقل أهمية عن المعارك الخارجية. معركة تصحيح وتقويم مسار الحركة السياسية الفلسطينية، والمعركة ضد الفساد وقمع الحريات العامة، وضد الاستبداد وتدهور الاقتصاد، هي بذات أهمية المعركة التي يخضوها الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية منذ قرن ضد الاحتلال. فالحصن المتهالك من الداخل، لن يتمكن من الثبات وهزيمته حتمية.

الكتابة هنا ضد التفرد بالحكم والسيطرة على السلطات الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية. إضافة إلى مسؤولياته الرسمية على رأس ثلاث مؤسسات فلسطينية: السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير، وحركة فتح. محمود عباس الذي تفرد بالحكم بصورة مطلقة طوال الفترة الممتدة منذ عام 2005 للآن، أهم إنجازاته هي: تقسيم وتعميق الانقسام بالساحة الفلسطينية، سطوته على كافة السلطات بلا منازع، الشلل الذي أصاب مؤسسات منظمة التحرير الذي تراجع دورها وحضورها إلى أن غابت عن المشهد، إحداث سلسلة من التغيرات القانونية والسياسية والوطنية، بحيث تحولت السلطة إلى مقاول عند الاحتلال الإسرائيلي، التضييق على مؤسسات المجتمع المدني وعلى النقابات والاتحادات في استبداد غير مسبوق منذ تشكيل السلكة الفلسطينية عام 1994. تعميق الازدواجية في التشريعات بين الضفة وقطاع غزة، تفكيك النظام السياسي الفلسطيني، والإطاحة بالقضاء، والجمع بين السلطتين التنفيذية والقضائية. ربك الاتحادات والجمعيات والشركات غير الربحية بأجهزة الأمن الفلسطينية والخضوع لها. سلب السلطة التنفيذية من صلاحياتها، وربط هيئات مستقلة بشخصه كرئيس للسلطة، إصدار قانون ديوان الرئاسة عام 2020 الذي خلق حكومة متوازية داخل الحكومة. إحداث نظام رياسي شامل يستولي في الممارسة المباشرة على السلطات الثلاث. ضرب المشروع الوطني في إقامة نظام حكم ديمقراطي تقدمي كما ينص القانون الأساسي الفلسطيني، وقام عباس بإلغاء بند التداول السلمي للسلطة، وقام بتعيين من يشغل الوظائف العليا جميعها، ومنع إتاحة الفرصة للكفاءات. منع أي إصلاحات في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، توغلت إسرائيل وتوحشت في فترة حكم عباس، وزادت مصادرة الأراضي من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وارتفع عدد المعقلين في سجون الاحتلال، وتصاعدت اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين وحرق ممتلكاتهم. وليس آخراً انتشار التسيب الأمني، والفساد المالي والإداري، وشيوع المحسوبية والعلاقات العشائرية بديلاً عن سيادة القانون، والولاء للزعيم والجماعة بديلاً عن الولاء للوطن، تغليب المصالح الشخصية على حساب مصالح الناس، وتعسف الأجهزة الأمنية للسلطة التي تقوم بقمع المعارضين، وتكميم أفواه المخالفين، واعتقال النشطاء.

استراتيجية الفشل

لقد بنت منظمة التحرير استراتيجيتها خلال الثلاثة عقود الأخيرة على أساس الاقتناع أن دولة الاحتلال الإسرائيلي تريد سلاماً مبنياً على أساس الاعتراف الفلسطيني والعربي بها مقابل اعتراف إسرائيل بدولة فلسطينية، وأن الغرب والولايات المتحدة يدعمون سلاماً يقوم على هذا الأساس، غير أن جميع الوقائع والدلائل ـ منذ أن تبنت المنظمة هذه الاستراتيجية ـ أثبتت بصورة لا تحتمل الشك خطأ هذه الفرضية، وتثبت أن استراتيجية المنظمة قد بُنيت على فرضية ساذجة قادت إلى التفريط بحقوق ونضالات الشعب الفلسطيني، وإلى توحش الاحتلال الإسرائيلي، وإلى الخطيئة السياسية التي تجد القيادة الفلسطينية نفسها متورطة فيها اليوم.

الممارسات الإسرائيلية الاحتلالية والتوسعية الميدانية، وكذلك التصريحات المتعاقبة للكثير من المسؤولين السياسيين الإسرائيليين، يؤكد أن إسرائيل لا تريد السلام. وفي الحقيقة يمكن القول إن إسرائيل لم تكن تريد السلام أبداً. لا تريد أي سلام يقوم على أساس تسوية عادلة لطرفي الصراع. فالإسرائيليون يريدون السلام وليس العدل، السلام الذي يضمن أمنهم على حساب الحقوق الفلسطينية، سلام يُبنى فوق جثث عشرات الآلاف من الضحايا الفلسطينيين أصحاب الأرض الحقيقيين.

منذ زمن الانتداب البريطاني في فلسطين إلى تجدّد الحركة الوطنية بقيادة منظّمة التحرير الفلسطينية وإلى اليوم، عارضت إسرائيل التطلّعات الوطنية الفلسطينية بدعم الولايات المتحدة حليفها الحاضر الفاعل في الجهد المبذول لإعاقة هذه التطلّعات. وفي نهاية المطاف اعترفت إسرائيل بمنظّمة التحرير الفلسطينية مُمثلاً شرعياً للفلسطينيين في العام 1993 مع توقيع اتّفاقيات أوسلو، لم تقبل آنذاك بحقّ الفلسطينيين بتقرير مصيرهم في دولة سيادية خاصّة بهم. عوضاً عن ذلك، عكست اتفاقيات أوسلو حدودَ ما كانت إسرائيل مستعدّة للقبول به منذ بداية المفاوضات: كيان فلسطيني مجرّد من الجنسية للاهتمام بالحوكمة المحلّية في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، يعفي إسرائيل بذلك من معظم مسؤولياتها كمحتلّ عسكري ويسمح لها في الوقت عينه بممارسة السيادة على كامل الأراضي. حولت إسرائيل لاحقاً هذا الاتفاق المؤقت إلى وضع دائم دون أي شروط قانونية مرجعية، بسبب ضعف قيادة السلطة الفلسطينية ومؤسساتُها التي أصبحت جزءً رئيسياً من الاحتلال، بدلاً من وضع حداً له. ومع ذلك، ثمة جيل جديد من القادة آخذ في الصعود التدريجي. إذ يسعى هؤلاء القادة الجدد إلى استحداث إطار جديد للنضال الفلسطيني يتجنب أخطاء الماضي وعثرات القيادة الفلسطينية، ويضمن تحقيق الحرية للشعب الفلسطيني.

من أزمة القيادة إلى أزمة الشرعية

بعد عشرين عاماً في السلطة، يرأس عباس نظاماً سياسياً فلسطينياً منقسماً ومختلاً. وبالإضافة إلى الانقسام المنهك بين قطاع غزة الذي تحكمه حماس والسلطة الفلسطينية التي تهيمن عليها فتح في الضفة الغربية، لا يزال النظام السياسي الفلسطيني برمته يعاني من الانحدار المؤسسي والتفرد والاستبداد المتزايد. ويعاني الاقتصاد الفلسطيني الشلل شبه التام بسبب النقص المتكرر في الميزانية، والدين الداخلي الهائل، وارتفاع معدلات البطالة، والإفراط في الاعتماد على مساعدات المانحين الدوليين.

فترة ولاية عباس الرئاسية البالغة أربع سنوات انتهت منذ فترة طويلة، ولم ينعقد المجلس التشريعي الفلسطيني منذ أكثر منذ سنوات عديدة. وأصبح حكم محمود عباس قمعياً وغير متسامح مع المعارضة على نحو متزايد، في حين أدى غياب مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وعدم وجود هيئات تشريعية أو رقابية فاعلة، ولا وجود حتى لمعارضة سياسية قادرة على الاستمرار ــ إلى إلغاء أي آليات ذات معنى للمساءلة والمحاسبة.

المشكلة لا تقتصر على السلطة الفلسطينية. لقد ظلت منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت ذات يوم المؤسسة السياسية القائدة، والعنوان البارز للفلسطينيين، في حالة انحدار منذ أواخر الثمانينيات على الأقل، وهي العملية التي تسارعت بعد اتفاقيات أوسلو. علاوة على ذلك، فإن الأدوار المتداخلة والتفويضات المتضاربة للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية خلقت مجموعة من المشاكل الإضافية، خاصة فيما يتعلق بمسائل الانتخابات والخلافة.

قِلة من الناس يدركون خطورة أو العواقب المترتبة على أزمة الشرعية الأكثر عمقاً التي تكمن وراء كل هذه المشاكل. وخلافاً للحكومات “العادية”، فإن شرعية القادة الفلسطينيين لا تعتمد في المقام الأول على أدائهم في الحكم. ويصدق هذا بشكل خاص على قيادة محمود عباس، الذي يرأس في نفس الوقت السلطة الفلسطينية والمنظمة الأم المزعومة لها “منظمة التحرير الفلسطينية”. وباعتبار الشعب الفلسطيني مشتت جغرافياً، وتعيش الغالبية العظمى منه إما تحت الاحتلال أو كلاجئين في الدول العربية المجاورة، يميل الفلسطينيون إلى إعطاء وزن متساوٍ لقضايا التمثيل والشرعية، وآفاق/ أو استراتيجية التحرر الوطني.

الشرعية افتراضياً

كانت منظمة التحرير الفلسطينية في الماضي تمتلك الحق والقدرة على الاستجابة لثلاثة معايير بعلاقتها مع الشعب الفلسطيني. أولاً: حق رفع شعار التحرر الوطني من الاحتلال الإسرائيلي، والمضي نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة. ثانياً: حق تمثيل الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية والسياسية بلا منازع. ثالثاً: القدرة على تقديم الخدمات المختلفة للشعب الفلسطيني. لكن القيادة الحالية للمنظمة والسلطة باتت الآن عاجزة عن الإيفاء بالتزاماتها. لقد أدت الإخفاقات المتكررة لعملية السلام التي تتمسك بها القيادة الفلسطينية إلى تشويه استراتيجية المفاوضات التي يتبناها محمود عباس. علاوة على ذلك أصبح ادعاء منظمة التحرير الفلسطينية بأنها تتحدث باسم جميع الفلسطينيين هشاً على نحو متزايد. ولا يقتصر الأمر على وجود أطراف سياسية مهمة خارج مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، بل إن عدد الجماعات التي تدعي القيادة الحالية أنها تمثلها يتقلص بشكل مطرد. على سبيل المثال لقد تم استبعاد قضية اللاجئين ـ الذين يشكلون أغلبية الشعب الفلسطينيين ـ من اتفاقية أوسلو فعلياً. ثم فقدت القيادة الفلسطينية أيضاً إمكانية الوصول إلى الفلسطينيين في القدس الشرقية بسبب الإغلاقات والإكراهات الإسرائيلية، وتم كف يد القيادة عن غزة أيضاً بعد سيطرة حركة حماس على القطاع.

وهكذا أصبح للشعب الفلسطيني في الواقع ليس قيادة واحدة فاشلة، بل اثنتين. في حين فشلت سلطة رام الله بتركيزها على المفاوضات والتعاون الأمني مع إسرائيل في إقامة دولة فلسطينية، أثبتت حكومة حماس المنافسة في غزة أنها عاجزة وقصيرة النظر بنفس القدر في إدارة استخدامها للمقاومة المسلحة.

إن حالة الشلل الوظيفي التي تعاني منها السياسة الفلسطينية تمثل إشكالية كبيرة ليس فقط بالنسبة للفلسطينيين، بل بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة أيضاً، وكلاهما يتقاسمان المسؤولية عن الوضع الحالي. وفي الواقع فإن فشل عملية السلام التي تقودها الولايات المتحدة، إلى جانب عدم قدرة الجهات الفاعلة الفلسطينية، سواء كانت علمانية أو إسلامية، على تحدي الاحتلال بشكل فعال، قد أدى إلى زيادة شعبية حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات التي تتمتع حالياً بتأييد ساحق بين الفلسطينيين. علاوة على ذلك، فحتى لو كان من الممكن استئناف المفاوضات، فإن قيادة عباس المحاصرة لا تملك التفويض، ولا الشرعية، ولا الإمكانيات اللازمة للتفاوض على اتفاق سلام ينهي الصراع مع إسرائيل، ولا القدرة على تنفيذ هذا الاتفاق.

من ناحية أخرى، كان غياب هياكل القيادة الفلسطينية المسؤولة سبباً في زعزعة استقرار البيت الفلسطيني إلى حد كبير. ولا يزال هناك احتمال واضح لانهيار السلطة الفلسطينية في نهاية المطاف، والذي، بالإضافة إلى إنتاج المزيد من العنف وعدم الاستقرار، من شأنه أن يدمر فرص التوصل إلى حل الدولتين. ومع تزايد قناعة بعض الفلسطينيين بعدم وجود احتمال وإمكانية لإقامة دولة مستقلة خاصة بهم، لن يكون أماهم خيار سوى المطالبة بحقوق متساوية داخل الدولة الإسرائيلية. باختصار، إن غياب نظام سياسي فلسطيني متماسك وفاعل يضع إسرائيل على الطريق إما نحو دولة ثنائية القومية أو شيء أقرب إلى الفصل العنصري.

لقد أدت أزمة الشرعية للقيادة الفلسطينية الحالية إلى دعوات لإجراء انتخابات جديدة وإلى مزيد من الوضوح والشفافية والتحديد بشأن مسألة خلافة محمود عباس. على الرغم من تعقيدات قضيتي الخلافة والانتخابات بسبب ازدواجية المؤسسات السياسية الفلسطينية، إلا أن إجراء الانتخابات للسلطة الفلسطينية ولمنظمة التحرير الفلسطينية يشكل أهمية قصوى بالنظر إلى تأثيرهما على تقويم المسار السياسي الفلسطيني.

وعلى الرغم من أن القيادة الفلسطينية الحالية أضعفت الحركة الوطنية كثيراً عبر أداءها السياسي الهزيل، إلا أنها لا تزال تمتلك بعض من الأوراق الهامة التي يمكن البناء عليها. على سبيل المثال، الهوية الفلسطينية التي ستظل قوية وراسخة، وواسعة الانتشار، ومصدر فخر واعتزاز. أيضاً دور الناشطين الفلسطينيين والمجتمع المدني على المستوى الشعبي هم العنصر الأكثر ديناميكية وإلهاماً في الحركة الوطنية الفلسطينية.

ظهور جيل جديد من الأكاديميين والباحثين الفلسطينيين الذين يقدمون إطاراً فكرياً جديداً لفهم الصراع، وتأثير ذلك على اوجيه نضال القاعدة الشعبية الفلسطينية. واستمرار المظالم اليومية التي يواجهها الفلسطينيون من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي ـ من اعتداءات وقتل واعتقال ومصادرة أراضي ـ بمثابة عامل يتجدد باستمرار يمكن من خلاله استنباط القوة والعزيمة لمواصلة الكفاح. وجود جبهة واسعة تضامنية مع نضال الشعب الفلسطيني من شعوب عربية وغربية، وأحزاب ومنظمات دولية، ومتضامنين دوليين. أيضاً الحملات الشعبية، مثل حملات المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات على المستوطنين، ومقاطعة الجامعات ومراكز البحث الإسرائيلية، كوسيلة للضغط على إسرائيل في مواجهة فشل الجهات الفاعلة الحكومية في حل هذا الصراع.

تهديد وجودي للمشروع الوطني الفلسطيني

يقود الرئيس محمود عباس ثلاث أهم مؤسسات فلسطينية: السلطة الفلسطينية التي تدير شؤون الضفة الغربية، وحركة فتح التي تهيمن على السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية وتعتبر فتح أكبر فصيل فيها. اعترفت إسرائيل بالمنظمة كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني في اتفاقيات أوسلو عام 1993. يرأس عباس البالغ من العمر 89 عاماً، الهيئات الثلاث منذ وفاة ياسر عرفات عام 2004. ومن المرجح أن يترك خلفه فراغاً لأنه لم يتخذ أي ترتيبات لتسليم زمام الأمور بعد رحيله. وفي كانون الثاني/يناير 2021، دعا إلى إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية للسلطة الفلسطينية وانتخابات جهاز صنع القرار الرئيسي في منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن بعد ثلاثة أشهر فقط، قام بإلغائها.

ومن بين المؤسسات الثلاث التي يرأسها عباس، تُعَد السلطة الفلسطينية المؤسسة الأحدث، التي أنشئت في الأراضي المحتلة بعد فترة وجيزة من اتفاقيات أوسلو، والأكثر صلة بالفلسطينيين الذين يعيشون هناك. وبدلاً من الارتقاء بها إلى مستوى توقعات الشعب الفلسطيني في أن تصبح أساساً لقيام الدولة الفلسطينية، تحولت هذه السلطة إلى مقاول لإسرائيل في استمرار الاحتلال بتكاليف أقل. ومنذ أن ألغى عباس الانتخابات، هزت السلطة الفلسطينية فضائح تتعلق بالفساد والمحسوبية وعدم الكفاءة واستخدام القوة المميتة من قبل قواتها الأمنية، الأمر الذي أدى إلى تقويض شرعيتها الهشة بالفعل. وقد أضعفتها ميول عباس الاستبدادية المتزايدة خلال العشرين عاماً التي قضاها في السلطة.

إن الشلل الذي أصاب منظمة التحرير الفلسطينية بوجود وهيمنة السلطة الفلسطينية أدى إلى تراجع الأداء السياسي والوطني للشعب الفلسطيني الذي يجد نفسه أمام معضلة كبيرة، لأن السلطة التي تعتبر نفسها تمثل الفلسطينيين المقيمين في الضفة سياسياً، هي نفسها تساهم من خلال عجزها وتبعيتها لإسرائيل ـ في استمرار الاحتلال وممارساته من سلب وقتل وضم، بدلاً من تحدي الاحتلال والانحياز للشعب. وإذا أضفنا أن السلطة الفلسطينية أصبحت تمثل منظمة التحرير أيضاً بطرق مختلفة، فإن شلل السلطة، أو انهيارها لأسباب متعددة ومنها على سبيل المثال ـرفض محمود عباس وفشله في اتخاذ ما يلزم لخلافته بصورة ديمقراطية سلسة، يجعل من المعضلة تهديد وجودي ليس للسلطة الفلسطينية، ولا لحركة فتح، ولا لمنظمة التحرير الفلسطينية فحسب، بل للحركة الوطنية الفلسطينية، وللشعب الفلسطيني وحقوقه وتطلعاته ككل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة