مهاجرة
الشاعرة د. ميساء الصح
تاريخ النشر: 13/07/24 | 9:01لي هجرةٌ أولى تُوجِّهُ صوبَ خاصرةِ الزمانِ ولوجَها
في هِجرتي الأولى أنا ما كنتُ لي،
كانتْ شظايا الروحِ تخفقُ والأنينُ مخاضُها قاومتُ؛ لا من مسعفٍ
قاموسُ نارٍ جاثمٌ
وعلى قرابينِ التصدّي يحتَفي
حتّى أناشيد الطفولةِ أُحْرِقت في مهدِها سحُبُ البراءةِ اُستِرَتْ
كانَتْ تفاصيلُ الحكايةِ مُرَّةً
فيها أقولُ ولا أراني أكتفي
وهو اختصاري للتألُّمِ يستوي معهُ انكساري…
لا شيءَ لي من قصَّتي
لا شيءَ لي من هِجرَتي
هي قصَّةٌ فيها الموانئُ حُطِّمَتْ،
شكَتِ الصواري…
لي هجرةٌ أخرى وها أدركتُها
قبلَ المساءِ بنيِّفٍ
وهناكَ أتقنتُ استقالةَ خائبٍ
حاولتُ أن أبني قصورًا حينَها
إن هدَّها النعمانُ تسقطُ حيرَتي في مَعقلٍَِ فيه الجزاءُ مُشرَّعٌ
سنمارُ ضحّى مثلَما ضحيتُ أقصدُ غايةً أتُصيبُ بوصلةُ ازدهاري؟!…
أيصيرُ أن يبني الرخامُ مدارَهُ
بينَ السحابِ يقيمُهُ
بلهيبِ صحراءِ المتاهةِ أغرسُ الأحلامَ،
أعتزِلُ الأماكنَ والمسافَةَ هاربًا من قيدِ فكري للدمارِ؟!!
وملامحي بيدِ البقاعِ أقيمُها
وبراءَتي صارَ الزمانُ غريمَها
تجتاحُني كلُ المواجعِ واستطالَ عظيمُها
كتَبَ انهياري…
قُلْ يا نبيَ اللهِ ابراهيمُ كيفَ أُعينُني في النارِ
إن طَفِقَ الحريقُ وشبَّ بي
جفَّتْ مآقي لهفَتي،
عبثًا أحاولُ أن أقاومَ في الحريقِ ذراعَها أخفقتُ في أوجِ اختباري…
لي هجرةٌ أخرى بسقفٍ واحدٍ
لا مثلَ جعفرَ هجرتانِ وموطنٌ
في خَيبرٍ جئتُ المدينةَ بُكرةً وسكنتُها
وعجبتُ من أركانِها
سبحانَهُ وَسِعَ المدى
عجَنَ الأشعّةَ بالندى،
لمّا وطئتُ ترابَها أخَذَتْ ترحِّبُ بالتي حَلَّتْ بها “وطربتُ” أسمعُهُ الصدى
كانتْ مدى
كانتْ ندى
كانتْ صدى
صُبحًا تلاشى وحيُها
وكأنَّ شيئًا ما ابتدا
وكأنَّ نسرًا يَستبي نبضَ الكناري
هي هجرتي بقيَتْ كحُلمٍ إن يراودْ في المساءِ مفكِّرًا؛ سعَتِ الخلائِقُ كي تبكِّرَ هدمَها أو غيَّرَتْ وجهَ المسارِ…
لي هجرةٌ أخرى
تسارِعُ نحوَ بابِ مدينتي الفُضلى
ترى يا صاحِ قد آتيتُها
وسبقتُ أفلاطونَ أمسَ سكنتُها تأويلُها:
تبَّتْ يدا زوّارِها
سأقومُ بعدَ ضياعِ عامٍ سابعٍ
كيما أوزِّعَ في السبيلِ حكايةً للقمحِ
تروي للصغارِ وللكبارِ حقيقةً عن كاهِنٍ ومفادُها: كتبوا حكايةَ هِجرَتي
ومفادُها: ضحَّيتُ كمْ من أجلِهِمْ
وتركتُهُمْ كي يحفظوا القمحَ الذي بغلالِهِم
وحفظتُهُ القمحَ الذي أتقنتُ حِرفَةَ حفظِهِ
لا كنتُ يوسفَ حينَها كيما يراعوا فيَّ ميِّزةَ ادِّخارِ….
في هجرَتي صُبحًا نَما حُلُمٌ من الأمواجِ قَدَّتْ جزرَها
حقَّقتُ في بحرِ المنامِ مطالِبي
وركبتُ خارطَةً تُوسِّعُ حدَّها
قابلتُ “إفروديتَ” في اليونانِ ثمَّ صحبُتها
كُنّا سويًا أيْ معًا في قصَّةٍ مِن صُنعِ عيسى كي نوزِّعَ خُبزَهُ
وهناكَ لي إشْراقةٌ مع كلِّ صبحٍ لا تَغيبُ ولنْ يحقَّقَ صدُّها
كمْ كنتُ وَحدي منذُ مولودِ الضحى حَتّى النهارِ…
لي هجرةٌ اخرى أحاولُ رصدَها
وحدي أعيشُ بعالَمٍ
ويئستُ من ألمِ الحكايةِ والروايةِ والتوجعِ والمرارِ…
ويئستُ من وصبِ البدايةِ والنهايةِ والإجابةِ والقرارِ…
ويئستُ من أملِ الرجوعِ لخيبةٍ
عفتُ الرجوعَ لذاتهِ ذاتِ المدارِ…
لي قصةٌ تبتاعُني وترُدُّني كفريسةٍ بفمِ الحصارِ
لا شيءَ لي من عالَمٍ
سقطَ الجدارُ عنِ الجدارِ عن الجدارِ…
وغدًا سأبحثُ في مدارِ الروحِ عن وعدٍ يساورُ خاطِري
وأخذتُ أنبُشُ في ينابيعٍ لأرضٍ والجفافُ مصيرُها
والصمتُ أغنيةُ الكسالى
فوقَهُ حامَ الذبابُ وخيبةٌ
كمْ كنتُ وحدي يا ابنَ آدَمَ حينما أتقنتُ لعبةَ هجرتي
هذي أنا..
لا شيءَ يكسرُ صخرةً كإرادتي
لا شيءَ يعلو جبهةً ككرامتي
كنتُ اعتقدتُ بأنَّني هذي أنا
أمّا أنا…
ماذا أكونُ بحقِّ موسى والرسولِ المُصطفى
وحدي أنا في الصبحِ أرسمُ في الروابي خُطوَتي
والكلُّ يحفرُ في المساءِ نهايَتي بيدِ الصحاري…
وكتبتُ في قلمِ الزمانِ وصيةً
أيّوبُ راحَ لموعدٍ وأنا التي ما زلتُ أصبرُ لحظةً قبلَ انتحاري…