حتى لا تضيع مكاسب قرارات المحاكم الدولية
د. جمال زحالقة
تاريخ النشر: 25/07/24 | 8:05توالت هذا الأسبوع تطوّرات مهمة على ساحة القضاء الدولي، وشهدت احتدام المواجهة بشأن جرائم الدولة الصهيونية وقياداتها. فبعد أن توقّع الكثيرون أن تصدر محكمة الجنايات الدولية قرارا بإطلاق مذكرة اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير أمنه الجنرال احتياط يوآف غالانت، سطّر قضاة المحكمة قرارا مختلفا، وقبلوا بتأخير إصدار المذكرة وسمحوا لحوالي 60 دولة ومنظمة بعرض تحفظاتهم في هذه القضية، ما يعني عمليا تأجيل النطق بالقرار لحوالي ثلاثة أشهر.
بعد القرار تنفست إسرائيل الصعداء وزال، مؤقتا على الأقل، شبح مذكرة الاعتقال الذي أرّق نتنياهو ومن حوله، وأثار فزعا حقيقيا في صفوف القيادة الإسرائيلية. ووفق ما نشرته المحكمة فإنه جرى تقديم تحفظات من 20 دولة منها، الولايات المتحدة وألمانيا، اللتان تدعمان إسرائيل، وجنوب افريقيا المناهضة لها، إضافة إلى 40 منظمة، منها منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية، وكذلك قدمت شخصيات مؤيدة لإسرائيل تحفظاتها الخاصة.
وفيما اعتبرت إسرائيل إنجازها التكتيكي في محكمة الجنايات الدولية نصرا دبلوماسيا، فإنّها تلقت صفعة مدويّة من محكمة العدل الدولية، التي اتخذت قرارا مفصلا، ينسف الادعاءات الإسرائيلية كافة ويؤكد عدم شرعية مواصلة الاحتلال وضرورة إنهائه بأسرع وقت ممكن، وعدم قانونية الاستيطان ولزوم تفكيكه بالكامل وفورا.
أمّا دعوى جنوب افريقيا ضد إسرائيل بخصوص ارتكاب حرب إبادة جماعية في قطاع غزة، فهي تدور ببطء، وهناك تأخير في إصدار القرارات الملزمة لإسرائيل بوقف الحرب. وتقول مصادر جنوب افريقية مطّلعة إن حكومتها لا تعرف إلى الآن متى ستصدر القرارات. وفيما يعتقد البعض أن التأخير مقصود وهو استجابة معيّنة للضغوط التي تمارسها إسرائيل وحلفاؤها الأمريكيين والألمان والبريطانيين، يذهب آخرون إلى أن المسألة عادية ومتعلقة بإجراءات قضائية روتينية بطيئة الإيقاع.
ضغوط هائلة
تدرك إسرائيل أن رياح المحاكم الدولية تسير باتجاه لا تشتهيه سفن العدوان الإسرائيلي المتواصل على الشعب الفلسطيني، فحتى لو كانت هناك عراقيل وعثرات وتأخير ومماطلة وقرارات مبتورة وجزئية، فإن المسار العام يدفع بالمجمل بالاتجاه الصحيح، وهو توفير السند القانوني لمحاصرة وعزل ومعاقبة الدولة الصهيونية. ولأن قرارات المحاكم الدولية مهمة، تقوم إسرائيل بمساع محمومة للضغط على القضاة وعلى المدعين في هذه الهيئات القضائية الدولية المرموقة. ووفق ما نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية في شهر مايو المنصرم، أرسل نتنياهو رئيس الموساد السابق، يوسي كوهين، في مهمة سرية هدفها تهديد المدعية العامة السابقة في المحكمة الجنائية الدولية، باتو بنسودة، وقد باغتها وهددها بالقول: «أنا لا أريد أن أمس بأمنك أو أن أؤذي أحدا من عائلتك. ساعدينا حتى نهتم بأمرك». وطلب منها وقف إجراءات إصدار أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغيره من قادة إسرائيل. وأُطلقت من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا تهديدات بوقف تمويل المحاكم الدولية، وباتخاذ إجراءات عقابية ضدها إن هي واصلت الإجراءات ضد الدولة الصهيونية، الحليفة المدللة للغرب، الذي يصرخ ليل نهار مناديا بالعدالة حتى حدود فلسطين، فعندها تتحول دعوات العدالة في كل زمان ومكان، إلى عدم وجود صلاحية للمحكمة بمقاضاة إسرائيل، التي تحظى برعاية لا مثيل لها من الأب البيولوجي ـ بريطانيا والأب الاجتماعي ـ الولايات المتحدة والأب المجرم التائب ـ ألمانيا الاتحادية. هؤلاء الآباء الثلاثة، لديهم قوة هائلة على المستوى الكوني وهي مسخرة لصالح الدولة الصهيونية في الامتحانات الحرجة، وفي الأزمنة الصعبة، وشعب فلسطين هو الذي يدفع ثمن هذه النخوة الغربية.
ليس من المتوقّع ان تأتي المحاكم الدولية بقرارات «ضربة قاضية»، لكن وبالتأكيد هي تحمل في طيّاتها مكاسب بالنقاط. تزيد وتنقص تبعا لقوّة الفعل السياسي الذي ينطلق من أحكام القضاء الدولي بشأن فلسطين وينبثق عنها
المزاعم الإسرائيلية
لا ترتقي الحجج، التي ساقها الساسة الإسرائيليون إلى مستوى «الادعاءات الجدية»، فقد رفض نتنياهو مرجعية المحكمة وعاد إلى منطق «المرجعية الذاتية»، المجافي للمنطق، وقال: «الشعب اليهودي لا يحتل أرضه.. وليس لأي قرار كاذب في لاهاي أن يشوّه هذه الحقيقة التاريخية، ولا يمكن التشكيك في شرعية المستوطنات». وتبعه الوزير الفاشي الصغير إيتمار بن غفير: «قرار لاهاي يثبت للمرة الألف أن هذه منظمة سياسية ومعادية للسامية، ولن نقبل منها وعظا أخلاقيا». ولحق بهما وزير المالية الإسرائيلي المستوطن المتطرّف بتسلئيل سموتريتش: «الرد على لاهاي يكون بضم الضفة الغربية». هذه التصريحات بحد ذاتها هي جرائم تبعا للقانون الدولي، وهي وغيرها من التصريحات تعكس قلقا إسرائيليا متزايدا من مآلات الأمور على ساحة القضاء الدولي. كان هناك أيضا تصريح آخر لبيني غانتس، زعيم حزب «معسكر الدولة»، إذا قال في ما يشبه النكتة: «إسرائيل في المناطق (المحتلة) ملتزمة بالعمل وفق القانون الدولي»، وجاء تصريحه بعد أن صوّت حزبه في الكنيست مع مشروع قرار برفض إقامة دولة فلسطينية، وهو بالطبع خرق فاضح للقانون الدولي. من جهتهم طرح خبراء القانون الإسرائيليون، مجموعة من الحجج ضد قرار المحكمة:
أولا: كان على القاضي نواف سلام أن يمتنع عن البت في هذه القضية لأن مواقفه المعهودة معادية لإسرائيل.
ثانيا: المحكمة لم تأخذ بالحسبان الاعتبارات الأمنية بشأن نصب الحواجز في أرجاء الضفة الغربية.
ثالثا: قرار المحكمة يعرقل استئناف المفاوضات (هذا حرفيا ما قاله يتسحاق هرتسوغ رئيس الدولة الصهيونية).
رابعا: نص الطلب، الذي قدمته الجمعية العمومية للأمم المتحدة إلى المحكمة كان منحازا.
خامسا: المحكمة لم تطلب انسحابا فوريا، بل بأسرع وقت، وهذا يعني أنها تركت مجالا للمفاوضات.
سادسا: المحكمة لم تأخذ بعين الاعتبار مقاطعة إسرائيل لجلساتها وعدم الاستماع مباشرة لادعاءاتها.
سابعا: إسرائيل لم تضم الضفة الغربية رسميا، ووجودها فيها لم يأخذ طابع الدوام وهو خاضع للتفاوض المستقبلي.
قد تبدو المزاعم الإسرائيلية سخيفة وواهية في غالبيتها، لكن يجب عدم الاستهتار بها، وتجهيز ردود وافية ومقنعة تدحضها وتفنّدها بشكل مقنع للأذن الدولية المحايدة. الموقف الإسرائيلي، في هذا المضمار ضعيف، وهي فرصة لتقويضه بالكامل، وهذا واجب فلسطيني من الدرجة الأولى، خاصة في ظل حرب الإبادة الجماعية الرهيبة.
فضيحة المحكمة العليا الإسرائيلية
لقد وجهت محكمة العدل الدولية في قرارها الأخير ضربة قوية لمصداقية المحكمة العليا الإسرائيلية، التي ادعت طيلة الوقت أنها عين ساهرة على الالتزام بالقانون الدولي، وأن القضاء الإسرائيلي مستقل وقوي وعادل ونزيه ولا حاجة لتدخل قضائي من «الخارج». وللمقارنة، منحت المحكمة العليا الإسرائيلية، على مدى عشرات السنين، الشرعية الكاملة للاحتلال الإسرائيلي، بالادعاء أنّه إجراء مؤقت وأن الانسحاب أو عدم الانسحاب هما مسألة سياسية. ويأتي قرار محكمة العدل الدولية وينسف هذا الادعاء ويؤكد أن الاحتلال غير شرعي ويجب إنهاؤه بأسرع وقت في الضفة والقدس وغزة. وتعاملت المحكمة الإسرائيلية مع الاستيطان على أنّه ليس منافيا للقانون الدولي وهو شرعي ما دام يتم وفق القانون الإسرائيلي. ولكن رأي محكمة العدل الدولية كان مناقضا تماما وينص على أن الاستيطان غير شرعي ويجب تفكيك جميع المستوطنات فورا. لقد صادقت المحكمة العليا على قانون القومية، الذي يؤكد أن الاستيطان اليهودي هو قيمة عليا، وأقرت كذلك شرعية مصادرة الأراضي بالأراضي الفلسطينية لمصلحة الاحتلال والاستيطان، واتخذت قرارات مناقضة لقرار محكمة العدل الدولية بشأن الجدار عام 2004.
المحكمة العليا الإسرائيلية تنسف القوانين الدولية بالجملة، والقائمة طويلة. لكن المهم أنها فرصة للقيام بحملة ممنهجة وموثّقة جيدا لفضح المحكمة العليا الإسرائيلية، التي ما زالت، إلى حد كبير، توفر حماية لجرائم الحرب الإسرائيلية. ويجب عدم الاتكال على أن سمعتها ستنهار من تلقاء ذاتها. قد يحدث ذلك عند الأوساط التي تشكك أصلا بمصداقية القضاء الإسرائيلي، لكنها فرصة الآن لاقتحام مركز الساحة القضائية الدولية وتفكيك أسطورة المحكمة العليا الإسرائيلية، وهذه مقدمة لشق طريق واسعة أمام محاكمة إسرائيل وقياداتها.
مكاسب بالنقاط
ليس من المتوقّع ان تأتي المحاكم الدولية بقرارات «ضربة قاضية»، لكن وبالتأكيد هي تحمل في طيّاتها مكاسب بالنقاط. وهذه النقاط ليست ثابتة، فهي تزيد وتنقص تبعا لقوّة الفعل السياسي الذي ينطلق من أحكام القضاء الدولي بشأن فلسطين وينبثق عنها. فقد أصدرت العدل الدولية قرارا حازما بشأن عدم شرعية جدار الفصل العنصري وبلزوم هدمه فورا، وكسبت قضية فلسطين الكثير من النقاط، لكن وللأسف ضاعت بمعظمها بسبب التقاعس السياسي والدبلوماسي الفلسطيني والعربي.
وحتى لا تضيع الفرصة مرة أخرى يجب أن يكون هناك من يحمل المهمة والمسؤولية، وهذا يتطلب: 1. إنهاء الانقسام فورا 2. إنشاء عنوان فلسطيني موحد في إطار منظمة التحرير الفلسطينية بعد انضواء الفصائل الفلسطينية كافة تحت سقفها 3. الاتفاق على برنامج وطني فلسطيني 4. الاتفاق على استراتيجية نضالية موحدة ومتفق عليها 5. طرح مبادرة فلسطينية مستقلة للتعامل مع الوضع الحالي، لقطع الطريق على كل من يحاول العبث بمصالح وحقوق الشعب الفلسطيني 6. طرح حكومة خبراء فلسطينية تدير «اليوم التالي» وإعادة الإعمار. وإذا لم يكن هناك تحرك مسؤول على ساحة فلسطين القريبة، فلن نكسب نقاطا وازنة من قرارات لاهاي مهما كانت قوية.
كاتب وباحث فلسطيني