في الحمّام في نابلس
ترجمة ب. حسيب شحادة جامعة هلسنكي
تاريخ النشر: 29/07/24 | 9:47In the Bath House in Nablus
بقلم صبري إسماعيل إسرائيل السراويّ الدنفيّ (1898-1944)
בנימים צדקה (כתב וערך), אוצר הסיפורים העממיים של הישראלים השומרונים. מכון א. ב. ללימודי השומרונות, הרגרזים–חולון, 2021, כרך א’ עמ’ 267- 270.
حاجيّات يوم السبْت
اِستمرَّت أيّام الجوع والنقص. لم تحدثْ لي العجائبُ كلَّ يوم، كما في حالة إيجاد المال. عندما نَفِد المال وزال المتْليك الأخير من ليرة الذهب العصمليّة التي وجدتها، تعرّضنا مجدّدًا لمشكلة القلّة. وراتبُ شقيقي الكبيرِ عزّات الضئيلُ لم يكفِ إلّا لمنتصف الشهر، وفي بقيّة الأيّام كنّا نتجوّل في السوق بحثًا عن أعمال أو خدمات طارئة.
ذات يوم، كان الوضع صعبًا بنحو خاصّ، كان ذاك يوم جمعة، الأقصر في الأسبوع. نفِد المال والطعام. الأُمّ بديعة أخبرتْنا في مساء يوم الخميس، بأنّه يترتّب علينا توفير الطعام ليوم غد، وإلّا سنقضي يومَ السبت بالجوع، نسيءُ لأنفسنا ولشرف السبت.
كان أخي عصبيًّا جدّا بسبب ذلك. في ساعة مبكّرة في الصباح، بعد أن صلّينا كلانا، حضّني أخي للذهاب إلى السوق عسى أجدُ شيئا. أمّا هو فخرج لعمله عندَ مشغِّله التاجر الغنيّ. لم يكنِ الجوعُ سببًا كافيًا للتغيّب عن العمل.
اِتّكل عليّ أخي بأنّي سأجد عملًا ما لسدّ رمق بيتنا، إلّا أنّ السماء لم تستجب لصلاتي. قضيتُ ساعاتِ الصباح في التَّجْوال من رُكن في السوق لآخرَ، وها وجدتُ محتاجًا للعِتالة، ولكن أتى أحد العتّالين المهنيّين وسبقني. هكذا تفاقمت مرارةُ روحي.
حلّ الظُّهر والجيب خاوية، عار عليّ لأنني لم أجد أيَّ شيء أفعله. خائفٌ من أخي حادّ المزاج الذي كان مثلي خائر القوى، ولكن مع ذلك كنتُ آمُل أن يكون الله قد أعدّ له أُجرةً ما لتحيا نفوسُنا كلنا. لم أتصوّر حتّى في خيالي الأكثر جَموحًا أن نُمضيَ يوم السبت بالجوع.
الحَمّامات في نابلس
بينما كنتُ صاعدًا من السوق إلى حارة الياسمينة، حارة السامريّين القديمة في نابلس، مررتُ بحمّام السمرة، سمعتُ صوتَ أخي يناديني. دخلتُ ورأيته واقفًا بجانب حوض ماء ساخن، وتحتَه الجمر الملتهب. وعلى الجانب جلس بعض العرب مكشوفي الجزء الأعلى من أجسامهم في ينبوع حجرة العرق، ينطلق من أجسادهم بخار الحرارة، وموجات من العرق تسيح على وجوههم. ذات مرّة، اغتسل في هذا المكان سامريّون فقط، ولكن كما نوّهتُ استولى عليه صاحب الديْن ومنذ ذلك الوقت يؤمّه السامريّون بين الآونة والأُخرى، وبخاصّة يوم الجمعة للتطهّر ليوم السبت.
هل تمكّنتَ من توفير احتياجات السبت؟ سألني أخي.
لم أجرؤ على النظر إليه. خجِلت جدًّا لأنّي لم أتمكّن من ذلك. فهم أخي رأسًا من حني رأسي بأنّي لم أفعلْ شيئا. رفع يدَه غاضبًا لا سمح اللهُ ليضربَني ولكن ليهزَّني بشدّة لأنّي لم أجد ما أعمله. وعندما رأيت يدَه الممتدّة زِحتُ جانبًَا لئلا يصيبني. وبما أنّ يدَ أخي لم تصل كتفي، انزلق نحو الأمام وسقط في بركة ماء ساخن صغيرة كانت بجوار الحوض.
يا ويلي لقد تدنّستُ! صاح أخي باكيًا. نعم، قبل ذلك بوقت قصير اِستحمّت في البركة امرأتان غير طاهرتيْن، والعامل في الحمّام لم يتسنَّ له بعد استبدال الماء. في تلك الساعات، كان الحمّام متاحًا للنساء فقط، أمّا في حُجْرات التعرّق فكان الرجال.
نسينا، أنا وأخي اِحتياجاتِ يوم السبت. الآنَ مبتغانا الوحيد أصبح إيجاد حمّام يستطيع أخي التطهّر فيه. أخذتُ ملابسه الداخليّة من على الرفّ وهرولتُ وراءَه. كان غاضبًا متجهّما، وأنا سرت بجانبه ساكتًا ذليلًا، متشرّبًا لعناته عن حظّه العاثر. كان يمشي وقطرات الماء تسقط منه وجذب أنظارَ المارّة ؛ انطلقت نظرات الدهشة من كلّ الاتّجاهات نحوَنا.
من هناك ذهبنا إلى حمّام القاضي الذي كان آنذاك محجوزًا للنساء أيضا. اُضطررنا إلى التوجّه من هناك إلى حمّام عائلة التميميّ، ومن هناك طردتْنا صيحاتُ النساء. المكان الثالث كان حمّام موسى بك المسمّى باسم الحمّام الجديد، وفيه كان يستحمّ حاكم الأتراك، موسى بك، في القرن الماضي. وهناك لم نجد مكانا لنا. واصلنا السير لحمّام الريش فحمّام الدرجة فحمّام البيضة، النساء في كلّها.
زواحف خطيرة في الماء
تعِبنا من المشي، فجلسنا قليلًا للراحة. عندي فِكرة – قال أخي، وقد جفّت ملابسُه – تعالَ معي لحمّام القاضي. ولكنه مليء بالنساء – قلتُ.
تعالَ معي – كرّر أخي مطلبَه. لم أر داعيًا لمجادلته. عُدنا لحمّام القاضي. أخذ أخي صاحبَ الحمّام جانبًا وكلّمه بهمس. كان الحمّام يضُجّ بأصوات النساء المستحمّات. كان/ت لَغَط/عجقة كبير/ة.
نادى صاحبُ الحمّام زوجتَه وهمس بأذنها شيئًا لم يتناهَ لأذنيّ المصْغيتيْن. دخلتِ الحمّام وبصوت مُجلجِل صاحت للنسوة: زواحفُ سامّة دخلتِ الماء، ومن الأفضل الخروج من الماء بسرعة لحين تنقية البِرك. لم تكنِ النسوةُ بحاجة لتحذير آخرَ، أسرعن للخروج وسطَ الصيحات من الماء، وبعضهنّ كنّ مستعداتٍ بالقسم بذقن نبيّهنّ بأنهنّ لذعن من الزواحف. خرجن إلى غرفة المدخل ينتظرن صاحبَ الحمّام ليدخلَ ويطهّر الماء.
حقًّا، لقد جلبتُ معي رجُلين للقيام بذلك – أشار إليّ وإلى أخي. دخلنا الثلاثة إلى الحمّام، وأنا استغللتُ الفرصة للاستحمام بالماء الساخن أيضًا. لبِس أخي ملابسَه الداخليّة وعليها تونيّة/قميص طويل ليوم السبت واعتمر طربوشًا أحمرَ عاليا. كان منظره مَهيبا. كم أحببتُه في تلك اللحظة.
غادرنا الحمّام، شققْنا طريقَنا بين النسوة المسرعات للدخول. أكّد صاحبُ الحمّام لهنّ بأنّه لم يبق أثرٌ للزواحف في بِرك الماء، ويستطعن الاستحمام كما يشئن.
خلاص مضاعفٌ
حينما غادرنا الحمّام كان قد انتصف النهار. لم يتسنّ لنا الابتعادُ عن الحمّام وإذا بوجيهين أوقفا أخي واستفسرا في ما إذا كان يعرف أحدًا منَ السامريّين بمقدوره مساعدتهما.
أنا سامريّ – ابتسم أخي، ولذلك أنا مُعدّ لمساعدتكم.
اِصطحبهما، بينما أشار لي للذهاب سريعًا إلى البيت، لطمأنة أمّي بأنّه عمّا قريب سيجلب معه احتياجات السبت بالنقود التي سيتسلّهما من هذين الوجيهين.
أطعتُه للتوّ. ما أن مررتُ بزاوية الشارع وإذا بفلّاحَين يُوقفاني، فلاح وزوجته طلبا منّي أن أوصلَهما إلى الكاهن السامريّ. يريدان سماعَ نصيحته حولَ إيقاظ حبّ ابنهما الوحيد لابنة عمّه/خاله التي لم يُحب.
وجدتما الشخص الصحيح – قلتُ لهما- تعالا لآخذَكما إلى عمّي/خالي الكاهن.
أخذتهما في طريق جانبيّة لئلا نصادف ، لا سمحَ الله، كاهنًا آخرَ يأخذهما منّي. بأُعجوبة لم نلتقِ بأحد في الطريق. صعِدا معي إلى عليّة سطح جدّي الكاهن الأكبر يعقوب هرون، والد أُمّنا بديعة. جلست، تعقّبته وهو يُمعن النظر بكتاب كبير، ميمر مرقِه، يبحث بين صفحاته عن حلّ لمشقّة الفلّاحَين.
تتبّع الفلاحان إمعانه بتوتّر وهمّ متفاقم. بعد ذلك هدأ قليلًا، عندما رأيا وجهَ الكاهن الأكبر يعقوب قد أشرق. حلّل لهما الحالةَ بكلمات دافئة وقدّم لهما بعضَ النصائح المفيدة لهما ولابنهما. دفع الفلّاحان له بطيبة قلب المبلغَ الذي طلبه، وهو عشرون قرشًا. آنذاك، لم يجبوا المبالغ الباهظةَ كما هي الحال اليوم.
سار الفلّاحان في طريقهما. عمّي/خالي الكاهن الأكبر، الذي خِفنا منه جميعًا، فتيانًا وبالغين، نظر نحوي بدون أيّ غضب في عينيه؛ بالعكس نور كبير أشرق منهما.
هل طبختم؟ – سأل الكاهن يعقوب.
لم نخبز أيضًا – أجبته بصوت خافت.
مدّ الكاهن يعقوب يدَه الطويلة إلى الطاولة الصغيرة، ودفع إليّ العشرين قرشًا التي تسلّمها من الفلّاحيْن.
خذ واذهب! أعطها لأمّك. يجِب عجنُ العجين وتأمين احتياجات السبت. فها أنت الذي أعدّ الله لك هذين الفلّاحَين- قال الكاهن الأكبر.
شكرًا يا جدّي – قلت بسرور. عرفت أنّه شفِق على أمّي، ابنته الحبيبة بديعة.
لم يمضِ سوى وقتٍ قصير وإذا برائحة الخبز في التنور/الموقدة بجانب بيتنا تفوح. وقدِ اشترت أمّي حاجيّاتٍ أخرى للسبت. بعد ذلك وصل أخي، أخبرنا ببشاشة بأنّ ضيوفَه دفعوا له بسخاء. تعجّب أنّي سبقته، وسُرعان ما ضحكنا جميعًا فرحين جَذِلين.
ما هذا سوى أنّ اللهَ، يأخذُ بيد الذين يُطهّرون أنفسَهم لاستقبال يومَ راحتهم- قال أخي.
شعرنا بانفراجٍ كبير.