اليوم العالمي لنصرة أسرى فلسطين

جواد بولس

تاريخ النشر: 02/08/24 | 10:01

ستشهد معظم مدن الضفة الغربية المحتلة السبت أنشطة شعبية واسعة بمناسبة إطلاق فعاليات “اليوم العالمي لنصرة غزة والأسرى الفلسطينيين”. وقد سبق وأعلنت مؤسسات الأسرى والقوى الوطنية والاسلامية وكافة التشكيلات والأطر الرسمية والشعبية تبنيها لهذا اليوم واعتماده “كيوم مؤسس لما بعده، عبر حركة شعبية ومتواصلة مستمرة تحملنا لمرحلة جديدة يكون فيها الميدان هو حيّزنا للتعبير بهدي ارادتنا وايماننا بقضيتنا العادلة وحقنا في تفعيل كل الأدوات المتاحة لإجبار العالم ، وبدعم الأحرار الشرفاء، على اتخاذ خطوات جادة وحاسمة انتصارا لحقوقنا ولوقف الحرب الوحشية المستمرة منذ عشرة شهور بحق شعبنا ولإنقاذ أسرانا في سجون الاحتلال؛ فمأساة غزة وقضية الأسرى هما أصل وحدتنا وطريق انتصارنا “. هكذا جاء في بيان اللجنة التحضيرية المكلفة بمتابعة الفعاليات الشعبية النضالية المقرة، وما يترتب عليها لاحقا في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي بعض المدن العالمية التي تم التواصل مع نشطاء داعمين للقضية الفلسطينية فيها. لقد كان متوقعا أن يحدث هذا التطور في مناطق الضفة الغربية وأن يكون أحد عناوينه البارزة هو وضع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الاسرائيلي. فمع بداية الحرب على غزة شهدت السجون الإسرائيلية ومراكز الاعتقال حملات قمع وحشية واعتداءات جسدية رهيبة بدأ العالم يسمع عن بعضها من شهادات بعض الأسرى المحررين أو من تسريبات لبعض جنود الاحتلال الذين قرروا فضح ما شاهدوه أو مارسوه بأنفسهم خلال خدمتهم العسكرية، ومن شهادات بعض الأطباء او الصحافيين الذين تكشفت أمامهم تفاصيل تلك الاعتداءات والجرائم الوحشية.

إن حملة قمع الحركة الأسيرة الفلسطينية في سجون الاحتلال الاسرائيلي لم تبدأ فعليا بعد السابع من اكتوبر؛ فجميعنا يعرف أن وزارة الامن الداخلي في عهد الوزير جلعاد أردان وبالتنسيق مع رئيس الحكومة، اليوم وفي حينه، بنيامين نتنياهو قرروا اقامة لجنة خاصة لدراسة أوضاع الأسرى الفلسطينيين في السجون، طلب إليها أن تضع مقترحات مفصلة للتضييق عليهم ولتغيير ظروف معيشتهم وسحب امتيازاتهم وانقاص حقوقهم التي اكتسبوها خلال مسيرة كفاحهم الطويلة عبر العقود الماضية.

لقد بدأت عملية التنكيل الممنهج بالأسرى الفلسطينيين منذ ذلك الحين، إلّا أنها اشتدت بعد أن تبنت الحكومة الاسرائيلية الحالية فكرة القضاء على حالة الحركة الأسيرة الفلسطينية والشروع بمعاملة الأسرى الأمنيين كمجرمين جنائيين يجب اخضاعهم لأشد ظروف العيش ومعاملتهم بأساليب قاهرة غير انسانية ومذلة. شعر الأسرى بتغيير مفاهيمي جذري تجاههم وباتباع سياسة تستهدف القضاء على كيانهم الجمعي والنيل من حياة كل فرد منهم. ثم جاءت عملية السابع من اكتوبر، فاستغلتها السلطات الاسرائيلية، خاصة ما يسمى “مصلحة السجون” كذريعة لتسريع تنفيذ سياساتهم التنكيلية ولمضاعفة جرعات الاعتداءات الجسدية عليهم والتنكر لكل حقوقهم ومعاملتهم بانتقامية، شملت أيضا منعهم من زيارات محاميهم وعائلاتهم، والاستفراد بهم بشكل خطير.

لقد بدأت ترشح المعلومات المقلقة من داخل السجون ومراكز الاعتقال، وكانت، على قلّتها وندرتها، تشير إلى أنّ ما تقترفه مجموعات من عناصر الأمن المكلفة بحراسة الأسرى من جرائم يفوق قدرة العقل السليم على تقبله واستيعابه؛ فبعض الشهادات روت كيف كان هؤلاء يعذبون الأسرى، حتى أن بعضهم أسلموا أرواحهم تحت التعذيب، وآخرين تحولوا إلى أشباح أو إلى كتل لحمية عاجزة، تعاني من القهر والإذلال ولا تقدر على مواجهة الممارسات الحيوانية.

ولعل ما نشر عن الجرائم التي نفذت داخل مركز اعتقال “سديه تيمان”، وهو عبارة عن عينة عمّا كان يجري في مراكز اعتقال اخرى، يشكل أكبر البراهين على المرحلة التي وصلت اليها معاناة الأسرى الفلسطينيين وعلى سادية ووحشية السجانين والجنود المكلفين بحراستهم؛ وهي المرحلة التي لم تعد “مؤسسات الأسرى والقوى الوطنية والاسلامية وكافة التشكيلات والأطر الرسمية والشعبية” قادرة على السكوت عنها وتجاوزها بصمت العاجزين وبقطف الرؤوس وابتلاع المهانة التي تنخر عظام كل مناضل ومناضلة ولدوا في مذاود الكرامة وكبروا تحت ظلال العزة، رافضين الضيم والمذلة.

لقد قرأ معظمهم شهادات الأسرى والأسيرات الذين تحرروا ورووا كيف يمعن الاحتلال، من خلال سياساته الجديدة، في تحويل تجارب أسرهم من مراجل لصهر المناضلين إلى معاصر تدك رحاها أعناق الأحرار وتطحهنم كحبات غبار. وقرأوا أيضا شهادات بعض الاسرائيليين الذين أصيبوا بلحظة من صحوة الضمير ووصفوا الممارسات الوحشية التي شاهدوها أو مارسوها، مثلما حكى الطبيب اليهودي يوئيل دونحين في حديث لجريدة هآرتس قبل يومين قال فيه: “لم أصدق أنّ سجانا اسرائيليا يقوم بمثل هذا العمل”. لقد وصل الحال الى مرحلة من العبث فرضت على تلك المؤسسات والقيادات أن توقف الزمن لتصحو الروح في ساحات فلسطين لتستعيد كرامة البلد وأبناء البلد، وكي يبقى لمستقبلهم سبب ومعنى؛ فمن يسكت اليوم لن يستطيع أن يتكلم غدا. لقد جاءت أقوال هذا الطبيب بعد أن تفجرت في الاعلام الاسرائيلي قضية اعتقال تسعة جنود احتياط كانوا يعملون حراسا في معسكر “سديه تيمان” وقامت عناصر الشرطة العسكرية باعتقالهم وتوجيه عدة تهم لهم تضمنت قيامهم معا بالاعتداء الجنسي على أسير فلسطيني والتسبب له بأضرار خطيرة، وكذلك قيامهم بالتنكيل والاعتداء الخطير عليه جسديا، وتهما أخرى.

” كنت على يقين أن ما أراه هو انتقام عنصر من قوة النخبة بعنصر آخر من قوة النخبة” هكذا صرح البروفيسور للجريدة وأضاف مندهشا: “اذا كانت الدولة وأعضاء الكنيست يعتقدون أنه لا يوجد حدود للتنكيل بالأسرى، فليأتوا ويقتلوهم بأنفسهم مثلما فعل النازيون، أو ليغلقوا المستشفى” وأردف: “اذا كانوا يفتحون المستشفيات للدفاع عن أنفسهم في محكمة لاهاي، فهذا أمر سيء” . قال وأثبت ما كنا نعرفه وما تنبأ به بعض عقلاء اليهود الذين حذّروا من أنّ استمرار الاحتلال الاسرائيلي سيحوّل المجتمع الاسرائيلي الى عصابات من البلطجيين وإلى دولة فاشية ديكتاتورية.

أعمل أربعين عاما في هذا المضمار، رأيت فيها من موبقات مؤسسات الاحتلال وممارسات جنوده بحق الأسرى الفلسطينيين ما يكفي لكتابة مجلدات سوداء تنضح بالوجع وبالقهر، وبالكفاحات المشرفة أيضا؛ بيد أنني لم أحلم أن أصل إلى هذا اليوم الذي أشهد فيه اكتمال هذه الحالة من الانحطاط والبهيمية واستيطانها في جميع مؤسسات الاحتلال وبين غالبية جنوده؛ فاليوم نحن على يقين ان ما كان يمكن حدوثه، على مقياس الشذوذ مرة مع الأسرى أو كحالة استثنائية، صار هو القاعدة والواقع. إنه مستنقع الاحتلال الذي أطلق كل أمراضه وفيروساته داخل المجتمع الاسرائيلي حتى فسدت روح ذلك المجتمع، ففلتت رعاعه وسابت بدون أي كوابح وأي زواجر وانطلقت بوحشية على فرائسها الفلسطينية السجينة.

قد يعتقد البعض أن توقيت إطلاق “اليوم العالمي لنصرة غزة والأسرى” كان متسرعا إذا ما تتبعنا تداعيات الأحداث على جبهات القتال جميعها؛ لكنني لا أوافقهم، فقضية الأسرى، كما جاء في بيان اللجنة التحضيرية، هي ملف يجمع كل الفلسطينيين، ومعاناتهم التي وصلت الى حد هتك الكرامات والذل والمهانة، يجب أن تكون المهاميز الوطنية والأخلاقية والنضالية لاندفاع الناس وتضامنهم مع قضية أسراهم ولدفعها نحو صدارة الشوارع وإلى مقدمة الشعارات. غدًا سيكون يوم امتحان فلسطين بجميع أهلها، وهو مهمة يجب أن تنجح، لا من أجل مصلحة عشرة آلاف سجين وسجينة يقبعون هذه الأيام في عتمة الزنازين وفي أردأ سيناريو ممكن أن تتخيلوه وحسب، بل من أجل الحرية التي رضع حليبها كل فلسطيني من صدر أمه، ومن أجل الكرامة التي شربها عرقا من جبين والده.

فمن لا ينصر السجين اليوم حرّا سوف يساق إليه غدا، مقهورا ضعيفًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

تمّ اكتشاف مانع للإعلانات

فضلاً قم بإلغاء مانع الإعلانات حتى تتمكن من تصفّح موقع بقجة