عندما يسير التاريخ إلى الخلف
جواد بولس
تاريخ النشر: 09/08/24 | 11:37حصلت رومانيا بعد الحرب العالمية الأولى على أراض اقتطعت من الامبراطوريتين النمساوية المجرية والروسية على سبيل مكافأتها على الدور الذي لعبته في انتصار الحلفاء. كانت تسكن في هذه “الأراضي الجديدة” أقليات ليست صغيرة العدد من اليهود والمجريين والألمان، الذين كان لهم حضور بارز بين الشرائح الاجتماعية المهنية والمالية. أجمعت قطاعات واسعة من الرومانيين على ضرورة انصهار المقاطعات الجديدة في دولة قومية رومانية متجانسة واحدة، وعلى وجوب ادماج بعض الاقليات واقصاء البعض الآخر، لا سيّما اليهود، واحلال الرومانيين الأصليين محلهم في الأعمال والمهن.
كان الطلاب الجامعيون ومثقفو رومانيا يعتبرون أنفسهم رواد الحركة القومية ويشعرون “بالاختناق بسبب الحشد الهائل من الطلاب اليهود الذين يعملون على نشر الشيوعية”. وقد اندلعت في العام 1922 ، في جميع انحاء رومانيا، حملة لتقييد التحاق اليهود بالجامعات، رافقتها حملة ضد الحكومة التي أبدت تحفظات من حملات التقييد، واتهمت، بسبب ذلك، من قبل المجموعات الفاشية بالانحياز نحو أعداء رومانيا. برز من بين الطلاب القوميين ناشط يدعى كورنيليو كودريانو كان يدرس في كلية الحقوق في جامعة ياش ويقود “كتيبة رئيس الملائكة مخائيل” التي عرفت أيضا باسم “الحرس الحديدي”. خاضت هذه المنظمة الفاشية معارك مريره تخللتها اغتيالات سياسية، من بينها كانت عملية اغتيال مدير شرطة مدينة ياش، التي نفذها كودريانو نفسه في العام 1924، فاعتُقل بسببها وقُدّم الى المحكمة. لم تنجح السلطات باجراء المحاكمة في مدينته بسبب اندلاع أعمال الشغب المؤيدة له؛ فنقلت محاكمته الى احدى المدن الصغيرة البعيدة، على أمل أن تكون أجواؤها أكثر هدوءا وملائمة. لكن أنصار كودريانو اجتاحوا المدينة وحرّضوا أهلها فخرج هؤلاء الى الشوارع مرتدين الملابس الوطنية، بينما تباهى بعضهم بشاراتهم الفاشية. حاولت نقابة المحامين الرومانية أن تضمن عدم تمثيل أي من أعضائها لأرملة مدير الشرطي، ورغم نجاح النيابة بتوكيل أحد المحامين الضعفاء، حصل كودريانو على البراءة. لم تكن نتيجة المحاكمة غير متوقعة رغم قوة الأدلة، ولا كان كودريانو يشعر بالقلق ازاءها؛ فقد كان معظم المحلفين في المحكمة يرتدون فوق طيات ستراتهم الشارة الفاشية، وحتى محامي الادعاء تحدث عن ظروف من شأنها أن تخفف الحكم مؤكدا : إن الفوضى قد اجتاحت الجامعة بسبب وجود عدد كبير من “الأجانب”؛ وهو الكلام الذي كان يضفي جاذبية على دعوة الفاشيين وشعارهم “رومانيا للرومانيين”.(من كتاب “الفاشية، مقدمة قصيرة جدا” للمؤلف كيفن باسمور).
مر قرن من الزمن وها هو التاريخ يسير إلى الخلف.
نقلت وسائل الاعلام الاسرائيلية صباح يوم الاربعاء الفائت وقائع الجلسة التي عقدت في المحكمة العليا لمناقشة الالتماس الذي قدمته “جمعية حقوق المواطن” بخصوص استمرار عمل معسكر الاعتقال “سديه تيمان”، طالبت فيه اغلاق المعسكر بدعوى أنه اقيم ويعمل بصورة غير شرعية ومنافية لجميع القوانين الاسرائيلية والمواثيق الدولية.
لن أكتب في هذه العجالة عمّا واجهه ويواجهه الأسرى الفلسطينيون في سجون ومعسكرات الاعتقال الاسرائيلية، لا سيّما بعد السابع من اكتوبر – وهي مسألة يجب ألا تغيب عن اهتماماتنا المهنية وعن دور الصحافة الحرة في ملاحقتها وفضحها – لكنني سأكتفي باحالة القارىء الى عدد من التقارير التي نشرتها المؤسسات الفلسطينية والعالمية الحقوقية التي تتابع قضايا الأسرى، وآخرها كان تقرير أعدّته “منظمة بتسيلم” الاسرائيلية بعنوان “أهلا بكم في جهنم” وفيه وثّقت بشكل مهني ومفصّل جملة من الجرائم والخروقات الخطيرة التي مورست بحق الأسرى الفلسطينيين في عدد من السجون ومعسكرات الاعتقال، لا في معسكر “سديه تيمان” وحسب .
كان من المفروض أن يستمع القضاة خلال جلسة المحكمة المذكورة الى رد ممثل النيابة العامة على الادعاء بعدم شرعية معسكر الاعتقال وما يمارس بداخله، ولكن القضاة فوجئوا، أو ربما لم يفاجأوا، بشروع عدد من الحاضرين داخل قاعة المحكمة بالصراخ والتهجم عليهم. حاول رئيس الجلسة القاضي عوزي فوغلمان، احتواء “غضب” الحاضرين فتوجه اليهم قائلا: “سادتي، نحن في دولة اسرائيل. دولة اسرائيل، سيان أحببتم ذلك أم لا، هي دولة قانون ويجب أن تجري المداولات هنا بهدوء”؛ ثم أمر باخراج المشاغبين. استمر الصراخ في القاعة وامتلأ الفضاء كراهية وتعابير تمتح من أمعاء التاريخ مثل: “اخجلوا اخجلوا” “والشعب هو السيّد”، فاضطر القضاة الى الانسحاب من القاعة، وتركوا العمل لحراس المحكمة.
بعد عشرين دقيقة عادوا لاستئناف الجلسة فبدأ رئيس الهيئة كلامه وقال: “ما رأيناه الآن كان محاولة لاجهاض عقد جلسة مداولة قضائية في المحكمة. نحن نحترم حق كل انسان بالتظاهر ولكن لا يمكن أن يحصل ذلك داخل قاعة المحكمة وطبعا ليس بصورة من شأنها أن تمنع اجراء المداولة. في اسرائيل تعمل المحكمة وفقًا للقانون حتى في زمن الحرب، وستستمر في عملها كذلك”.
بعد انتهاء الجلسة أخرج المحامي عوديد فلر ، ممثل جمعية حقوق المواطن، من داخل مبنى المحكمة تحت الحراسة المشددة.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تقتحم فيها مجموعات البلطجيين من المنظمات اليمينية قاعات المحاكم ويحاول أفرادها اشاعة الخوف في أجوائها اخاصة بين المحامين وتهديدهم، عربا ويهودا، لأنهم يمثلون المواطنين الفلسطينيين أو ينوبون عن المنظمات والجمعيات الحقوقية التي تدافع عن حقوقهم.
يوم الأحد الفائت تمّت محاصرة طاقم من المحامين اليهود والعرب داخل أروقة المحكمة العليا خلال مرافعتهم عن التماس طالبوا فيه الغاء قانونين تم تشريعهما في الكنيست مؤخرا لصالح عائلات يهودية رفع أفرادها أمام المحاكم الاسرائيلية دعاوى ضد السلطة الفلسطينية يطالبونها بدفع تعويضات مالية خيالية بحجة مسؤوليتها عن عمليات نفذها أفراد فلسطينون ضد اسرائيليين. مع انتهاء مرافعة المحامين وحين كانوا داخل قاعة المحكمة بدأت المجموعات اليمينية، التي تواجد قسم منها داخلها وقسم آخر خارجها، بالصراخ وبالتهجم عليهم من غير أن يكترثوا لوجود القضاة في القاعة، الذين غادروا مع بداية الصراخ وعلى وقعه كراسيهم ولاذوا مسرعين من دون أن يتخذوا أي اجراء لضمان سلامة المحامين، واختفوا وراء كواليسهم.
كان مشهد هروب المحامين وهم مطاردون بالعشرات من افراد كتائب اليمينيين المسعورين وبينهم عضو كنيست واحد على الأقل، مرعبا؛ ولولا أن أحاط بهم عدد من حراس المحكمة ومنعوا اقتراب القطعان الهائجة منهم لكانت العواقب وخيمة. كانت تجربة المحامين صادمة والمشهد برمّته مخيفا؛ وتم تصويره من قبلهم ليبث على الملأ ويظهر انتصارهم، وليشعّ الخوف في نفوس كل من لا يؤمن أن “رومانيا للرومانيين”.
لقد سبقت هذه الحادثة حوادث اعتداءات مشابهة نُقلت تفاصيلها الموثقة من قبل بعض المحامين والمنظمات الحقوقية الاسرائيلية، التي واجه محاموها نفس التجربة الصادمة المفزعة، لرئاسة المحكمة ولأجهزتها الادارية. حذرت الشكاوى من اننا ازاء ظاهرة خطيرة آخذة بالاتساع والانتشار ولا يمكن السكوت عنها أو الانحناء أمامها، كما فعل ويفعل القضاة لغاية اليوم؛ فسقوط الدولة في ايادي “الشعب وكتائبه الحديدية” بات أقرب من غفوة .
أنا لا أومن بأن قضاة المحكمة العليا، ولا غيرهم في جهاز القضاء الاسرائيلي، قادرون في عهد اسرائيل الحديدية ، هذا اذا افترضنا أن بعضهم راغب، على الوقوف في وجه الزحف اليميني المنفلت والفاشي الداهم وكتائبه الزاحفة تردد امامهم شعار “فلتسقط ديمقراطيتكم” و”تنحوا، يا أعداء اسرائيل” دعونا ننهي المهمة “فالشعب هو السيّد”. وإذا القضاة غير قادرين ، فمن في هذا الجهنم يستطيع؟ انها مجرد أسئلة واخزة من مقدمة عن الفاشية.
كم صرخنا أمامهم وفي أروقة محاكمهم وحذّرنا من أن أي نار يجيزون اضرامها هناك على هضاب الخليل ونابلس ورام الله، سوف تصل ألسنتها الى ساحات الناصرة وأم الفحم وتل أبيب وحيفا، ومنها إلى إحراجهم. صرخنا وكانوا قادرين على إنقاذ انسانيتهم؛ بيد انهم صمّوا وتواطؤوا ومارسوا سلطانهم الظالم باسم سيادة هذا الشعب ونقاء دمه.
انها دروس في التاريخ/تاريخكم يا سادة حين يسير الى الوراء؛ أما أمثالكم، المصابون بالعمى القومي، فلن يروها كذلك.