وإن جاءكم الضم .. !
فتحي كليب
تاريخ النشر: 14/08/24 | 13:35ليست المرة الاولى التي تخرج فيها معلومات سياسية ودبلوماسية عن نية اسرائيل ضم الضفة الغربية او اجزاء واسعة منها. فقد سبق لمسؤولين اسرائيليين وامريكيين ايضا ولحكومات اسرائيلية ان اعلنوا نيتهم فرض مخططات الضم بقوة الاحتلال والاستيطان والتهجير.
ومنذ ان احتلت الضفة الغربية وقطاع غزه وجزء من مدينة القدس، واسرائيل تتخذ من الاجراءات على الارض ما يكرس حقيقة الضم وفرض السيادة الاسرائيلية على الضفة. ورغم ان الاحتلال الاسرائيلي كان يتحاشى الاعلان الصريح عن هذا الامر لعدم استفزاز العالم باجراءات تتنافى مع كونه دولة احتلال، الا ان اجراءات الاستيطان والتهويد والممارسات الاحتلالية اليومية كانت تشي ان اسرائيل تتعاطى مع اراضي الضفة الغربية باعتبارها جزء من اراضي “دولة اسرائيل”.
ورغم ان بعضا من تبريرات من اتى باوسلو هي المحافظة على الارض الفلسطينية ووقف سرقة الارض لاغراض الاستيطان وغيرها، الا ان هذه الاتفاقات لم تغير من حقيقة ان استراتيجية اسرائيل تجاه الاراضي الفلسطينية كانت وما زالت الضم وليس الانسحاب، بل انها استفادت من هذه الاتفاقات لتفرض سياسة الامر الواقع من خلال التوسع في عمليات الاستيطان وتشريعه، إذ ارتفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية منذ العام 1990 وحتى عام 2024 من حوالي 230 الفا الى نحو مليون مستوطن.
يبدو واضحا ان مخطط الضم يشكل قاسما مشتركا بين مختلف الاحزاب السياسية، وان تبايت الاساليب واشكال التعبير عن هذا المخطط، الا ان الجميع يؤمنون بأن الاستيطان في الضفة الغربية هو “قيمة قومية”، كما ورد في “قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل” الذي اقره الكنيست الاسرائيلي عام 2019 واصبح مرجعية ملزمة لكافة الحكومات الاسرائيلية القادمة. ولا يختلف الموقف الرسمي الامريكي كثيرا عن الموقف الاسرائيلي، وان كانت المواقف الامريكية تتحاشى الموافقة علنا على هذا المخطط، غير ان اكثر من مسؤول امريكي عبر صراحة “أن لاسرائيل الحق في ضم “جزء من أراضي الضفة الغربية”، وفقا لما قاله السفير الامريكي في اسرائيل عام 2019 كنموذج. كما ان صفقة القرن الامريكية لحظت ضم المستوطنات الإسرائيلية ووضعها تحت السيادة الإسرائيلية تحت عناوين “أن الإدارة الأمريكية لن تعارض توسيع نطاق القانون الإسرائيلي ليشمل مستوطنات الضفة الغربية”، رغم قرار مجلس الامن الصادر عام 2016 الذي “حث اسرائيل على وضع نهاية للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية”.
قانونيا، قدم مجموعة من خبراء مجلس حقوق الانسان في حزيران 2020 تقريرا حول مخططات الضم وتداعياتها على الشعب الفلسطيني، وقد جاء فيه كلاما مهما يستحق التوقف عنده والبناء عليه من قبل الاطراف المعنية. يقول التقرير في احدى فقراته “أن الاحتلال الإسرائيلي هو مصدر انتهاكات بالغة ضد الشعب الفلسطيني، وأي عملية ضم ستكون سببا للحروب والدمار الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي”، داعيا لأن “تصبح المساءلة وإنهاء الإفلات من العقاب أولوية فورية للمجتمع الدولي”، ما يتطلب “اتخاذ تدابير المساءلة لإلغاء الضم وإنهاء الاحتلال والنزاع بشكل عادل ودائم..”.
رغم معرفة الجميع، من فلسطينيين وعربا ومجتمع دولي، ان سياسة الصمت على ممارسات اسرائيل ستقود في نهاية الامر الى اعلان ضم الضفة الغربية، الا ان هناك من صدّق او اقنع نفسه عنوة بامكانية تغيير مسار السياسات الاسرائيلية، سواء بالرهان على تدخل امريكي عايشنا نماذجه منذ اكثر من خمسة عقود وبات جليا في حرب الابادة التي تشن على قطاع غزه، او عبر استجداء مفاوضات كوسيلة وحيدة، رغم الادراك بأن اسرائيل غير معنية بأية عملية تفاوضية، وقد اعلنت ذلك بشكل علني وصريح، وتأكد هذا الامر مع حكومة اليمين الفاشي الحالية، التي لا تؤمن ليس فقط بالمفاوضات ، بل لا تعترف بوجود شعب فلسطيني.. وان اولويتها الاساسية هي تهيئة الارضية لتنفيذ مخطط الضم، ومن نماذج ذلك:
– في ايار الماضي، الغت اسرائيل قرار فك الارتباط بشكل كامل في شمال الضفة الغربية، ما سمح بعودة المستوطنين إلى 4 مستوطنات تم تفكيكها في عام 2005، ويعطي هذا القرار تعريفا جديدا للضفة باعتبارها اراض اسرائيلية يسري عليها القانون الاسرائيلي، وبشكل اوضح جزءا من المناطق “ج”، التي تخضع بشكل كامل للسيطرة الاسرائيلية وفقا لاتفاقات اوسلو.
– في شهر تموز 2024، تبنى الكنيست الإسرائيلي مشروع قرار يقضي برفض إقامة دولة فلسطينية غرب نهر الأردن. وهذا يعني ان اي حكومة قادمة لن تستطيع الدخول في اي عملية تفاوضية تكون نهايتها الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة وذات السيادة، ما ينسف الاساس المادي لأية عملية تفاوضة قادمة..
بالترافق مع القانون السابق، نقل جيش الاحتلال بعضا من صلاحياته الى ادارة مدنية يشرف عليها ويقودها وزير المالية الاسرائيلي سموتريتش. ولعل الهدف من هذا التغيير هو تسهيل منح المستوطنين تراخيص استيطانية جديدة في بالضفة الغربية، خاصة في المنطقة “ج”، اي ان هذه المنطقة التي تساوي مساحتها تقريبا ثلثي الضفة الغربية ستكون ساحة مستباحة للاستيطان بكافة اشكاله. وستكون هذه الادارة ايضا معنية عن هدم المنازل الفلسطينيين بذريعة انها “غير مرخصة قانونا”، ولعل نشاة هذه الادارة بالاساس عام 1981 كان بهدف تضليل العالم واشعاره ان الامور طبيعية في الضفة، وان العلاقة بين اسرائيل والفلسطينيين يحكمها القانون ومؤسسات سياسية وليس احتلال مرفوض ووجب مقاومته بكل اشكال المقاومة.
هذه المعطيات وغيرها من ممارسات يومية، سواء من قبل جيش الاحتلال او المستوطنين، تؤكد حقيقة ان اسرائيل في طريقها الى ضم الضفة الغربية، حتى لو لم يتم الاعلان الرسمي عن ذلك، وهذا امر نضعه برسم الدول الغربية التي ما زالت تتحدث عن “حل الدولتين” والتي تحاول امتصاص الغضب الشعبي والتغير الواضح في اتجاهات الرأي العام الدولي لصالح القضية الفلسطينية، والذي بات على قناعة تامة بما تشكله اسرائيل من خطر كونها كيان اجرامي بيد التحالف الغربي الامبريالي يتم استخدامه لحماية مصالحه في المنطقة واداة ضاربة لكافة الحركات التحررية الداعية الى الفكاك والتحرر من قبضة هذا التحالف.
رغم ذلك، فما زالت الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية يتحدثون عن معركة طوفان الاقصى باعتبارها حدث منفصل عن سياق الاحتلال وممارساته واجراءاته وقوانينه اليومية التي تؤكد في كل تفصيل منها ان اسرائيل ماضية في مشروعها الاحتلالي الاستئصالي للسيطرة على الارض الفلسطينية وتهجير سكانها، وهو امر يضع الشعب الفلسطيني امام خيار واحد هو المقاومة. وان المجتمع الدولي معني، لو اراد استقرارا في فلسطين والمنطقة ان يعالج اسبابها قبل وقوع الانفجار، كما حصل في 7 اكتوبر، واعتبار ان اسرائيل وحلفاءها هم المسؤولون عن كل ما سينتج عن سياسات التطرف والعنصرية لاسرائيل وقادتها..
ان مخطط الضم اليوم هو العنوان الذي يتصدر أجندة عمل الحكومة الاسرائيلية التي تجمع بكل مكوناتها على عملية استئصال الشعب الفلسطيني من ارضه. وبغض النظر عن المصطلحات المستخدمة في التعبير عن هذا المخطط، وبعضها واضح لا يحتاج لكثير عناء لتأكيده، بعد ان بات مخططا تنفيذيا له آلياته القانونية وترجماته الميدانية تؤكدها ممارسات الاحتلال بمختلف تشكيلاته.. ويمكن تلمس ذلك من خلال ما تسرب عن هذا المخطط واهدافه بحشر الفلسطينيين في جيوب سكانية ووضعهم تحت ثلاثة خيارات: قبول المخطط والتعايش “بهدوء” مع الاحتلال، الهجرة خارج فلسطين بتسهيلات مالية وإدارية إسرائيلية وغربية. أما الخيار الثالث، لمن يرفض الخيارين السابقين، فهو الملاحقة والقتل والاعتقال.
يحدث هذا بشكل يومي، تحت مرأى ومسمع دول غربية تؤكد الوقائع الميدانية انها متواطئة مع الاحتلال، وهي لا تقدم سوى الادانات اللفظية واجراءات تقول انها عقابية بحق مستوطنين، بينما قادة التطرف اصحاب المخططات العنصرية والعدوانية ضد الشعب الفلسطيني، فهم احرار طلقاء غير آبهين بكل الاجراءات الغربية التي ما زالت عبارة عن مجرد فقاقيع في الهواء، خاصة سموترتش وبن غفير اللذين يقدمان المشروع الصهيوني على حقيقته بدون مساحيق، ويشكلان ميليشيات مسلحة تأخذ على عاتقها مهمة العدوان على الفلسطينيين لتهجيرهم من ارضهم والاستيلاء عليها، وفي معظم الاحيان تتم هذه الممارسات بحماية جنود الاحتلال او بغض النظر عن ممارساتهم..
ان الحديث عن خلافات إسرائيلية ـ إسرائيلية، أو إسرائيلية ـ أمريكية، حول الضم، انما هو خدعة وتضليل الهدف منهما تحييد الحركة الشعبية العالمية وابعادها عن دائرة الفعل، بينما الواقع على الارض يؤكد ان الطرفين الإسرائيلي والأمريكي، مصممان على مواصلة الضم بشكل تدريجي، بالشكل الذي يعتقدان أنه يخدم مصالحهما الاستعمارية الاستيطانية، والهيمنة على المنطقة العربية بطريقة أفضل. وان حديث بعض الدول الغربية وفي مقدمتهم الولايات المتحدة عن ما يسمى “حل الدولتين” ليس سوى نفاق سياسي لا يغير من حقيقة ان مخطط الضم يتقدم خطوات الى الامام. وهل نسي الجميع كيف رد الرئيس الأميركي على الرئيس محمود عباس عندما دعا الولايات المتحدة لدعم حق الشعب الفلسطيني في دولة: حيث كان رده لمن تناسى: “إن حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة يحتاج إلى موافقة سيدنا المسيح”.
لذلك، فان ممارسات اسرائيل الاحتلالية والاستعمارية وشراكة الولايات المتحدة والدول الغربية مع اسرائيل هي مبررات كافية بالنسبة للشعب الفلسطيني لجعل خيار المقاومة يطغى على كل الخيارات.. فاذا كان الاسرائيلي يرفض الاستجابة للحقوق الفلسطينية، سواء من خلال السياسة والمفاوضات او غيرها، بعد ان صوت الكنيست الاسرائيلي على رفض مبدأ قيام دولة فلسطينية، او ميدانيا من خلال مخطط الضم بآلياته التي تتحرك بشكل يومي.. ما يعني ان المقاومة باتت خيارا وحيدا امام الشعب الفلسطيني لدفع اسرائيل وجيشها الى الاستجابة لحقوق الشعب الفلسطيني. ومن باب المحاججة ايضا، اذا كان العالم الغربي يؤمن بشكل جدي بضرورة وصول الشعب الفلسطيني الى حقوقه، فالحد الادنى من مسؤولياتهم دعم خيار المقاومة الفلسطينية كونها الخيار القادر على دفع اسرائيل للنزول عن شجرة التطرف والفاشية..
استعراض المشهد السياسي والميداني ورغم انه صعب ومؤلم، لكن هذا لا يعني للحظة عدم القدرة على تغيير واقع يسعى رموز الفاشية في اسرائيل الى تأبيده، وتجارب التاريخ تقول ان ما من غاز طال غزوه وتأبد، وما من احتلال الا وانتهى، لكن هذا يتطلب توافر الحد الادنى من الشروط الموضوعية التي باتت اكثر من ناضجة تترجمها مشاريع ومخخطات الاحتلال وممارساته، وعجز الحالتين العربية والدولية عن الفعل، وشروط ذاتية فلسطينية ما زالت هي العائق امام مسار التغيير والتقدم الى امام، وهو ما يجب التركيز عليه خلال الفترة القادمة لجهة التعاطي مع مسألة الوحدة الوطنية بكافة مندرجاتها ليس باعتبارها خيار بين خيارات، بل كونها الخيار الوحيد القادر على تغيير موازين القوى.
نقول هذا الكلام نتيجة غياب ردة فعل الرسمية الفلسطينية، سواء بالمبادرة الى فعل او تحرك سياسي او تحركات شعبية انتفاضية باتت مبررة وعادلة، حتى بنظر بعض حلفاء اسرائيل، بعد ان وصلت الامور الى درجة استهداف مؤسسات هذه الرسمية، المطالبة الآن في الحد الادنى بالدفاع عن نفسها وعن مصالحها، بعيدا عن لغة الصراخ والشكوى والتهديد الدائم باللجوء الى كذا وكذا.. مع تيقن حقيقة أن من ليس معنيا لا بدولة ولا بحقوق، فمن المنطقي ان لا يكون معنيا بأي دور حقيقي لسلطة فلسطينية، الا اذا كانت سلطة تعمل وفق المشيئة الاسرائيلية، وهو ما عبر عنه مستشار الأمن القومي الأميركي في لقاءاته مع بعض مسؤولي السلطة، حين شرح صراحة معنى مصطلح “السلطة المتجددة” التي تحدث عنها المسؤولون الامريكيون وما المطلوب كي تكون هذه السلطة مقبولة على المستويين الامريكي والاسرائيلي..
لقد بات ملحا موقفا فلسطينيا تصادميا يبعث برسالة الى العالم بأن استقرار المنطقة والعالم مرهون بحصول فلسطين على حقها بالحرية وبالخلاص من الاحتلال بكافة ملحقاته.. وهذا ما يتطلب من كافة المكونات الفلسطينية الرسمية والفصائلية والشعبية بذل المزيد من الجهود للعودة الى رحاب الوحدة الوطنية وانهاء الانقسام الذي من شأن انجازه ان يقطع الطريق على المخططات الاسرائيلية والامريكية التي تلعب على وتر الخلافات والانقسامات الداخلية الفلسطينية.
ان معركة في وجه “مخطط الضم” هي معركة طويلة سيخوضها الشعب الفلسطيني، بكل قواه السياسية ودون عناء البحث والتفكير بتداعيات ذلك وبغض النظر عن موازين القوى القائمة، والثقة بالشعب تبقى كبيرة وباحرار العالم الذين انتفضوا رفضا للعدوان الاسرائيلي على قطاع غزه، والذين هم على موعد مع معارك جديدة لا تقل اهمية عن كافة المعارك ضد الصهيونية والامبريالية وترجماتهما فوق ارض فلسطين.. وذلك في اطار الدفاع عن قيم العدالة والقانون الدولي والانسانية..