ظُلم السياسات تُبطله سياسات أخرى
الشيخ صفوت فريج- رئيس الحركة الإسلاميّة
تاريخ النشر: 15/08/24 | 19:21أيّامٌ عصيبة تمرّ على أقصانا المبارك. تتّسع مساحات البلطجة الّتي يقوم فيها زعران التلال، لتصل بأعداد غير مألوفة، وبقيادة وزير متطرّف فاشٍ، إلى القدس والأقصى، فنراهم يعتدون على أهلنا هناك وعلى مصالحهم التجاريّة، ويدنّسون الأقصى باقتحامات واستفزازات يهدفون من خلالها إلى إشعال القدس والمنطقة برمّتها. أكثر من 2950 متطرّفًا شاركوا في اقتحامات الأقصى المبارك، وبدا واضحًا من خلال انبطاحاتهم وطقوسهم على بلاط الأقصى، أنّهم يسعون إلى فرض امر واقع وخطير لا يمكن القبول به، والسماح لليهود في الصلاة فيه، كخطوة أوّليّة لمحاولة تقسيمه زمانيًّا ومكانيًّا.
ورغم أنّ الأقصى ليس حصرًا علينا نحن الفلسطينيّين، بل هو قضيّة كلّ مسلم على وجه هذه الأرض، إلّا أنّ الله قد خصّنا وباركنا بالرباط في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، لتصبح علينا مسؤوليّة أولى في شدّ الرحال إلى هناك، تلبيةً لنداء الواجب الديني والوطني، ودعمًا لاقتصاد أهلنا في القدس، لتثبيتهم في بيوتهم ومصالحهم، وتعزيز دورهم في الدفاع عن الأقصى. بفضل الله، وكردٍّ فوري وسريع على هذه الاقتحامات، قام إخواننا في جمعيّة الأقصى بتعزيز قوافل شدّ الرحال، ومدّ القدس والأقصى بالآلاف المؤلّفة من أهلنا من الجليل والمثلّثين والنقب والمدن الساحليّة والمختلطة، لإعمار الأقصى بالمصلّين، وإنعاش الحركة الاقتصاديّة في الأسواق المقدسيّة.
وليس بمعزلٍ عن ذلك كلّه، فالسياسات الحاقدة تلقي آثارها ليس فقط على قدسنا وأقصانا ومقدّساتنا، بل على جوهر وجودنا في هذه البلاد. لهذا نجد أنّ اقتحامات الأقصى تتزامن مع هجمات شرسة على النقب وأهلنا هناك، هجمات متكرّرة واحدة تلو الأخرى، تهدف كلّها إلى تهجير الناس، هدم بيوتهم ومصادرة أراضيهم، من خلال زرع اليأس والإحباط في نفوس أهلنا الصابرين المرابطين في بلاد السبع الغالية على قلوبنا جميعًا.
يأتي ذلك والحرب على قطاع غزّة لا تزال مستعرة، تخلّف كلّ يوم شهداء وآلامًا ومآسي، ليس فقط أنّها لا تنحصر ولا تنحسر، بل حتّى أنّها تتّسع وتزداد حدّة وقساوة ووحشيّة. وحيث أنّ العيون والقلوب معلّقة بغزّة وما يحصل فيها، يستغلّ وزير الهدم والخراب بن غفير هذا الانشغال المحلّي والعالمي، ليُمعن باسم الحكومة العنصريّة في الهدم والخراب أكثر وأكثر، فيبطش بأهلنا في المجتمع العربي، ويهدم البيوت، ويفرض المخالفات، ويضيّق على المواطنين العرب في أمنهم وأمانهم وأشغالهم وزراعتهم وقوتهم ومسكنهم، في الجليل والمثلّث والقدس والمدن الساحليّة، والنقب على وجه أخصّ، فلا يكاد يمرّ يوم دون هدم وترويع ومخالفات ومشاهد لأطفال ونساء وكبار سنّ ترقب جرّافات الهدم وهي تدمّر البيوت على محتوياتها. وقد رأت عيناي مشاهد دمار تدمي القلوب، عشرات البيوت هدّمت دفعة واحدة، وتحوّلت المنطقة لساحة مسطّحة يعلوها الركام والحطام، وكأنّنا في ساحة حرب ليس أقلّ من ذلك.
ما هو حاصل في النقب هو بدايات تطهير عرقي مبيّت من قبل أن يمسك هذا المشؤوم مسؤوليّة أمن وأمان الناس، ولهذا السبب حصرًا نُقلت صلاحيّات ما يُسمى بسلطة إنفاذ القانون على الأراضي وعملها له. وحيث أنّ نتنياهو يرفض بأن يكون بن غفير جزءًا من الكابينت المصغّر لإدارة شؤون الحرب، ليس من باب الرحمة على غزّة وأهلها، بل محاولة لتبييض صفحته أمام الرأي العام العالمي والمحاكم الجنائيّة الّتي تعرف حقيقة بن غفير، منحه صلاحيّات غير محدودة في النقب، ليمارس فيها مسرحيّاته واستعراضاته على حساب أمن وأمان العرب، وليرسّخ هناك أحقاده وكراهيّته لكلّ ما هو عربي. هو عمليًّا يدير كابينته الخاصّ بالعرب مواطني هذه البلاد وأهلها الأصليّين، فلا يمنع سلاحًا ولا يعتقل مجرمًا طالما أنّ القاتل عربيّ والمقتول عربي، يساهم ويقود اقتحامات الأقصى سعيًا لفرض واقع جديد فيه، يغضّ الطرف ويساهم في وحشيّة المستوطنين وتوسّعهم الاستيطاني، ولا يسمح لعربي بأن يتوسّع ولو بكوخ صغير على أراضيه الخاصّة!
هذا الحال لم يفاجئنا. حذّرنا منه قبل أن يحصل. قلنا أنّ حالنا الصعب كمجتمع، سيتحوّل إلى كارثي حينما يُمنح تلاميذ كهانا صلاحيّات ومسؤوليّات عن أمننا وأماننا وبيوتنا وميزانيّاتنا وأراضينا ومدارسنا ومصالحنا وقوت يومنا. قلنا ذلك، وحصل. حتّى أنّنا اليوم غير آمنين في التجوال ببلادنا، يُعتدى علينا بسهولة، ونُتّهم إمّا بالإرهاب، وإمّا بدعم الإرهاب، وحتّى بالنوايا! يكفي أن تضل الطريق، مثلما حصل مع أخواتنا من رهط، وبينهم طفلة صغيرة، ليُعتدى عليك اعتداءً إجراميًّا، وتُحرق مركبتك وربّما تُحرق أنت بنفسك، ليحاول بعدها تلاميذ كهانا في الكنيست شرعنة هذا العمل.
اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، يتّضح لكلّ ذي بصر وبصيرة أنّ هذه الأعمال كلّها مؤسَّسة على سياسات مدروسة، يحاولون شرعنتها من خلال أذرعهم في الكنيست. بعد كلّ هدم، يتبجّح بن غفير أنّه يطبّق القوانين لا أكثر. سياسات عنصريّة، لا يمكنك أن تقلّل أضرارها إلّا إن استبدلتها بسياسات أخرى. لا حلّ دون ذلك. ولهذا عمل إخواننا في القائمة العربيّة الموحّدة خلال الحكومة السابقة على تغيير السياسات، ورأيناهم ينجحون بتحقيق الاعتراف بالعديد من قرى النقب، وينجحون بالضغط على أجهزة الدولة في محاربة الجريمة التي انخفضت في حينه بعد تصاعد مستمر لسنوات، ويحصّلون ميزانيّات تطويريّة غير مسبوقة، ليس حبًّا فينا، بل حاجة إلينا وتفعيلًا منّا للقوّة الّتي منحنا إيّاها أبناء وبنات شعبنا ومجتمعنا.
اليوم تغيّر الحال. لا قوّة لنا نفعّلها ولا تأثير، وليس أمامنا إلّا الصبر والاحتساب والتمسّك بأراضينا مهما تمادى بطشهم واستفحلت عنصريّتهم واشتدّ جبروتهم. وهذا ما يقوم به أهلنا في النقب بقوّة وصلابة تليق بأصحاب الحقّ، يزيد بن غفير وزبانيته هدمًا وتنكيلًا، فيزيد أهلنا في النقب تشبُّثًا وإصرارًا، وهي معركة تدور بين الحقّ والباطل، ولا بدّ للحقّ وأهله من يوم يفرحون به، عسى ذلك أن يكون قريبًا. أهلنا في النقب، مدرسة في الصمود والرباط والتمسّك بالقيم الثقافيّة والدينيّة والاجتماعيّة، ما لانوا يومًا بوجه التحدّيّات، وعجز من هو أعتى من بن غفير عن اقتلاعهم من أراضيهم، لسان حال الواحد منهم يقول: مهما صنعتم من النيران نُـخمدها، ألا ترونَ أنّنا من لفحها سُمُر؟.
وبفضل الله، يتكامل عملنا نحن في الحركة الإسلاميّة مع ما يقوم به إخواننا في القائمة العربيّة الموحّدة، فقد كنّا ولا نزال للنقب داعمين خادمين ملبّين. ففي حين يعمل إخواننا على تغيير السياسات إذا استطاعوا إليها سبيلًا، نعمل نحن ميدانيًّا على نصرة النقب بكلّ الوسائل والإمكانيّات المشروعة. كيف لا، والنقب حاضنة واسعة للحركة الإسلاميّة وللقائمة الموحّدة؟ كيف لا، والنقب أكثر من يلبّي نداء الواجب والنصرة في كلّ الساحات والحملات والميادين؟ كيف لا، ونحن ندرك أنّ النقب وأهله يواجهون معركة شرسة، “ومثل المسلمين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى”.
فَشِلَ كهانا، وسيفشل تلاميذه، ولا بدّ للقيد أن ينكسر، وللحقّ أن ينتصر، وللباطل أن ينحسر، وللشرّ أن ينحصر، وللطغيان أن يزول ويندثر.