ما العمل؟ جبهة عريضة ووفد موحد وبرنامج مشترك
بقلم: هاني المصري
تاريخ النشر: 20/08/24 | 12:35
أوضحت الجولة الأخيرة من المفاوضات أن الهدف الأساسي منها ليس التوصل إلى صفقة تبادل وهدنة تؤدي إلى وقف دائم لإطلاق النار، وإنما وقف الرد الإيراني لأطول مدة ممكنة، وهذا حصل لأن الرد أُجّل، حتى لا يؤدي إلى إضاعة فرصة التوصل المزعومة إلى اتفاق تمهيدًا لوقفه نهائيًا، وذلك بهدف منع تصاعد المعارك وصولًا إلى حرب إقليمية لا أحد يريدها إلا رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وزمرته الغارقة في التطرّف والتعصّب.
أما الهدف الآخر من المفاوضات فهو التوصل إلى صفقة يعارضها نتنياهو إن لم تلب شروطه باستسلام “حماس”، أو مجرد هدنة مؤقتة سرعان ما تستأنف الحرب بعدها. فأي صفقة تظهر فيها المقاومة ندًا ويتم فيها تبادل الأسرى مثلما حصل في الصفقة الأولى فستكون لصالح المقاومة حيث تبدو لا تزال واقفة على قدميها وليست محطمة تمامًا كما يزعم نتنياهو وجيش الاحتلال.
لا يعكس التفاؤل الذي تشيعه إدارة بايدن ويصور أن الصفقة في متناول اليد الحقيقة، فالتقدم الحاصل محدود وزائف، وفي بعض النقاط، وهناك تراجع كبير وطرح شروط جديدة في مواضيع عدة، ولا يبرر إشاعة التفاؤل بقرب التوصل إلى اتفاق.
انزياح أميركي لموقف إسرائيل
إنّ أبرز ما حصل في المفاوضات هو انزياح أميركي نحو الموقف الإسرائيلي، من خلال ترك الإطار العام جانبًا، وتركيز البحث في التفاصيل، فلم يعد وقف إطلاق النار الدائم مطروحًا ولا الانسحاب الكامل ولا عودة كل النازحين من دون قيود.
يؤشر الانزياح الأميركي للموقف الإسرائيلي إلى أن إدارة البيت الأبيض اختارت ألا تضغط على حكومة نتنياهو، على الرغم من أنها مختلفة معها على أولوية الصفقة وبعض شروطها، وأن أهالي الأسرى والمحتجزين وجيش الاحتلال ووزير الحرب والجهات الأمنية يحمّلون نتنياهو المسؤولية بعدم إتمام الصفقة؛ لأنها لا تريد أن تخرج إسرائيل مهزومة أو غير منتصرة من هذه الحرب، بل تريد أن تحقق أهدافها بالحرب التي من ضمنها عدم جعل قطاع غزة مصدر تهديد في المستقبل لإسرائيل، وهذا يتطلب إنهاء حكم “حماس”، وتفكيكها، وجعل قطاع غزة منطقة غير صالحة للاستخدام الآدمي؛ ما يجعل التهجير مطروحًا حتى بعد وقف الحرب، فضلًا عن منع سلطة “حماس” من العودة من خلال احتلال إسرائيلي مباشر، أو من خلال تواجد قوات دولية أو عربية وسلطة محلية تفرض عدم عودة “حماس”، لا بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
كما أن إدارة بايدن لا تريد أن تضغط على حكومة نتنياهو كون الأول صهيونيًا – كما أعلن مرارًا – وأمضى حياته في دعم إسرائيل، ولا يريد أن ينهيها بالضغط على إسرائيل. ومن المؤشرات على ذلك أن واشنطن وافقت على معظم شروط نتنياهو، ووافقت كذلك على إعطاء نتنياهو ورقة توافق فيها على حق إسرائيل في استئناف الحرب بعد انتهاء مدة الهدنة، أو في حالة حدوث أي خرق من المقاومة لها، وأشارت المصادر المتطابقة أن الورقة كُتِبت، ولكنها لم تُسلّم بعد لحكومة اليمين المتطرف.
صفقة بايدن نتنياهو تعني الاستسلام
الملاحظ أن ما يراد تحقيقه فرض حل لا يحقق أي هدف من أهداف المقاومة (حتى إطلاق سراح عدد كبير من الأسرى ذوي الأحكام العالية تريد إسرائيل أن تتحكم في اختيارهم والوجهة التي سيطلق سراحهم إليها)، وهذا يعني كله أن المطلوب صفقة تجسد استسلام المقاومة، أو تفتح الطريق لخيار واحد هو الاستسلام، مستغلين حساسية المقاومة لاستمرار حرب الإبادة والخسائر الفادحة في صفوف المدنيين، فمن يقصف ويستشهد ويجرح وتهدم مؤسساته هم شعبهم وأهلهم ومقاتلوهم وكوادرهم وقياداتهم.
أما دعاة البحث عن حل بأي ثمن، والذين يطالبوا باستسلام المقاومة بشكل كامل وصريح، أو من خلال اختفاء “حماس” لسنوات طويلة والعودة بعد أن تظهر بشكل جديد وثوب سياسي جديد بوصف ذلك متطلبًا لوقف الكارثة، أو بشكل غير صريح بالمطالبة بتسليم الأسرى والمحتجزين للقيادة الفلسطينية الرسمية وتفويضها بالتفاوض وتسليم سلاح المقاومة وخروج قادتها والمقاتلين إلى خارج قطاع غزة، على غرار ما حصل في بيروت في العام 1982؛ فنقول لهم إن بيروت غير قطاع غزة، والخروج تم بطلب من الحركة الوطنية اللبنانية، ولم يؤد إلى نهاية القضية، بل فتح آفاقًا جديدة.
أما الاستسلام فليس خيارًا؛ لأنه لن يوقف مخطط تصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، الذي يستهدف الفلسطينيين جميعًا، بما في ذلك طرد الفلسطينيين وتهجيرهم، وأكبر دليل على ذلك أن اتفاق أوسلو ووقف المقاومة ومنعها في الضفة من خلال التعاون مع الاحتلال لم يؤد إلى وقف مخطط التهويد والضم والتهجير، بل زادت معدلاته قبل طوفان الأقصى وبعده، حتى بات عدد المستوطنين في الضفة يقترب من مليون.
ومن لا يصدق ليرَ تصريحات دونالد ترامب ونصائحه لإسرائيل عن ضرورة الحسم والانتصار السريع، وأن إسرائيل مساحتها صغيرة وبحاجة إلى توسيع، والاستسلام سيشكل طعنة للحقوق الفلسطينية والقضية العادلة وللصمود العظيم وللمقاومة الباسلة، ويمنع البناء عليه وصولًا إلى إنهاء الاحتلال وتجسيد الاستقلال الوطني.
تشكيل وفد فلسطيني مفاوض
يكمن الحل في الإسراع في تطبيق إعلان بكين، وتشكيل حكومة وفاق وطني، وتفعيل الإطار القيادي المؤقت، بما في ذلك تشكيل وفد للتفاوض بقيادة منظمة التحرير ومشاركة المقاومة، وهذا يقطع الطريق على محاولة فرض اتفاق ظالم على المقاومة بموافقتها أو من دون موافقتها، ولكن لا توجد إرادة سياسية لدى القيادة الرسمية للإقدام على ذلك.
كما يقطع إنجاز الوحدة الطريق على سيناريوهات “اليوم التالي” المعادية. فإذا بقي الاحتلال مباشرة أو بصورة غير مباشرة في قطاع غزة عبر قوات دولية أو عربية لفرض سلطة محلية “مقبولة” من إسرائيل، أو سلطة “متجددة” “مقبولة” أيضًا من إسرائيل، فهذا لا يشكل هزيمة نكراء لحماس أو للمقاومة فحسب، وإنما للفلسطينيين جميعًا. تمامًا مثلما كانت حرب الإبادة والضم والتهجير ضد الفلسطينيين جميعًا، وهذا سيفتح شهية دولة الاحتلال للإسراع في تطبيق مخططاتها التي لا تتسع لأي قدر من الحقوق الفلسطينية، وحينها سنكون أمام إقامة “إسرائيل الكبرى” مع أو من دون “أوسلو ناقص”.
ذهاب الرئيس والقيادة إلى غزة
حتى تتحقق الوحدة، يجب أن تتوفر الإرادة لدى القيادة الفلسطينية الرسمية، وتحديدًا لدى الرئيس محمود عباس لتحقيقها، على الرغم من الثمن المترتب عليها لأن ثمن استمرار الانقسام أكبر، وعلى الرئيس الذي التزم بالذهاب إلى غزة أن يغير أولًا المسار الذي سار فيه ولم يصل إلى تحقيق الأهداف المنشودة، وثانيًا يجرب الذهاب إلى طولكرم وجنين وغيرهما من المناطق القريبة التي يمكنه زيارتها كونها من المفترض أنها تحت سيطرته وتعرضت لاعتداءات أدت إلى خسائر مادية وبشرية كبيرة. كما عليه أن يحقق الوحدة التي وحدها تحقق له العودة الكريمة لقطاع غزة.
على الرغم مما سبق، بمقدور الرئيس أن ينفذ وعده، ويسعى إلى الدخول إلى غزة ومعه الأمين العام للأمم المتحدة ومن يوافق من الحكام العرب ومن الدول الصديقة، ومئات بل آلاف الفلسطينيين ومناصري القضية الفلسطينية، وهذا يضع إسرائيل تحت ضغط كبير وحتى لو لم يتمكن جراء الرفض الإسرائيلي، فهو يظهر معاناة شعبنا ويكرس أن من يقرر مصير قطاع غزة الفلسطينيين أنفسهم.
جبهة وبرنامج وطني
إذا لم تستجب القيادة الرسمية لنداء الوحدة العاجلة، يجب على كل المؤمنين بضرورة الوحدة، من داخل الفصائل وخارجها، بما فيها وعلى رأسها حركة فتح، خصوصًا دعاة الوحدة المخلصين وفصائل المقاومة تحديدًا، أن يتوحدوا في جبهة وطنية عريضة تعبر عن الأغلبية الساحقة التي تطالب بالوحدة، بدليل الوحدة الميدانية التي تتجلى في مختلف المناطق والمجالات، وما تحمله الاستطلاعات من وجود دائم لأغلبية كبيرة تطالب بإنجاز الوحدة لأنها طريق الانتصار.
وعلى هذه الجبهة أن تتفق على برنامج وطني ديمقراطي يستند إلى الحقوق الأساسية ومناسب للمرحلة الحالية؛ بمعنى أن يضع أهدافًا يمكن تحقيقها خلال المدى المنظور من دون التنازل عن الهدف النهائي.
ضغط جماهيري متراكم والابتعاد عن الفئوية
هناك حاجة لضغط سياسي وجماهيري متراكم لإنجاز الوحدة يتضمن توسيع دائرة المشاركين في الحوار الوطني، وتغيير المقاربات المعتمدة التي فشلت في تحقيق الوحدة؛ ضغط متراكم إلى حدٍّ يكون قادرًا على فرض الوحدة من خلال تغيير الخريطة السياسية، وهذا يحتاج إلى كفاح وتحركات متنوعة تطالب بالوحدة وتفرضها. وهي تشمل وتبدأ بوحدة سياسية وقيادية للمقاومة ودعاة الوحدة بعيدًا عن الفئوية، خاصة أن حرب الإبادة لا تستهدف “حماس” وحدها ولا المقاومة وحدها وإنما الشعب الفلسطيني كله، ووجوده ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، وقضيته العادلة، لذا فالذي يضحي وصامد ويقاوم فهو إلى جانب المقاومة ومن حقه أن يشارك في تقرير مصيره.
شركاء في الدم شركاء في القرار
يجب تجسيد شعار “شركاء في الدم شركاء في القرار”، وهذا يوجب تشكيل قيادة واحدة وغرفة مشتركة واحدة على أساس برنامج مشترك، حيث لا نعود نسمع “حماس” تفاوض و”حماس” تقاوم، وإنما القيادة الموحدة تقاوم وتفاوض، وهذا لا يبخس “حماس” حقها ولا دورها، فهي العمود الفقري للمقاومة، وهذا لا يقلل منه، بل يزيد إذا قاومت تحت راية وطنية شكلًا ومضمونًا.
الوقت من دم والتاريخ لا يرحم، وإذا لم يتوحد الفلسطينيون جميعًا، أو على الأقل إذا لم تتوحد قوى المقاومة ومن يدعمها، فالشعب لن يسامح كل من ساهم في استمرار الانقسام وتعميقه وحال دون تحقيق الوحدة.