الوجه الشامل للشلال
هادي زاهر
تاريخ النشر: 23/08/24 | 11:53بمناسبة مرور عشر سنوات على غياب شاعر المقاومة الفلسطينية
جوانب كثيرة لا يعرفها الناس عن الشاعر.. هذا الشلال الهادر، من أين كان يستمد تدفقه؟!! وكيف كان يجد الوقت؟!! سوف نحاول أن نعرض جوانب خفية عن حياة هذا الشاعر الذي قال عنه الكاتب الطيّب شلبي “الرجل المتفوّق في قوة مخيلته والتي يصعب أن نجد مثلها لدى شعراء آخرين” كان هذا الشاعر يمد الشعب بالثبات على الموقف الأصيل.. بالروح الثورية على الظلم والظالمين.. وكان في نفس الوقت يمد الناس بالحس الإنساني المرهف، إنها تركيبته الإنسانية العميقة بلا شك وكان إلى جانب بلورته لخارطتنا الأدبية، يشارك في بلورة خارطتنا الاجتماعية، ولعل هذا الجانب كان خافيًا على الكثيرين أو أن الإخوة الكُتاب غطوا جوانب كثيرة لهذا الرجل ولم يعرجوا إلى هذا الجانب بما فيه الكفاية.. كان يقف في طليعة الأطر الوطنية يشارك في إعداد برامجها ويقف عريفًا لبقًا أو خطيبًا يستحث الهمم على العطاء، أو شاعرا يلهب مشاعر الجمهور.. يستل اليأس من أعماق النفس ويزرع بكلماته البسيطة حد السحر، الأمل والحافز على التقدم إلى الأمام.. أنه شاعر الإنسانية سميح القاسم.. لن نقول شاعر العروبة أو شاعر فلسطين إذ أن قصائده تخطت المنطقة وترجمت إلى لغات العالم الذي منحه الجوائز. لقد كان ناطقًا باسم الفقراء والمظلومين أينما كانوا. وقد حاز على الكثير من الجوائز “غار الشعر” من إسبانيا.. وعلى جائزتين من فرنسا عن مختاراته التي ترجمها إلى الفرنسية الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي وحصلَ على جائزة البابطين.. وحصل مرّتين على “وسام القدس للثقافة” من الرئيس ياسر عرفات.. وحصلَ على جائزة نجيب محفوظ من مصر.. وجائزة “السلام” من واحة السلام.. وجائزة “الشعر» الفلسطيني. وجائزة لا تمنح إلا لرؤساء الدول من الرئيس محمود عباس الذي قال يوم وفاته: أنه صاحب الصوت الشامخ، وقالت الدكتورة حنان عشراوي: “حملت أشعاره ومؤلفاته قضية وطموحات شعبه إلى كل جهات الكون وكل اللغات لترسم صورة الإنسان الفلسطيني، خسارة لا يمكن تعويضها لأمتنا العربية. وهنا لا يمكننا إلا أن نذكر تقدير شعبنا لشاعره إذ أنه عندما زار مخيم ” اليرموك” حُمل على الأكتاف مسافة “7 ” كيلومتر وأطلقت عليه الكثير من الألقاب ولعل أروع هذه الألقاب قول الكاتبة أمال موسى “مغني الربابة وشاعر الشمس، الشاعر المصري محمود قرني ” نضاله من أهم الأسلحة المعززة للفضاء الإنساني والأخلاقي.. الكاتب غالب سيف: سميحنا يبقى نهرًا نقيًا متدفقَا من هذا الخير الوفير الصحي ورمزًا للصمود والإرادة والمقاومة.. الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، الشاعر الوحيد الذي تظهر في أعماله ملامح ما بعد الحداثة في الشِّعر العربي.. الكاتب سهيل كيوان “هوميروس من الصحراء”.. الدكتورة رقية زيدان “قيثارة فلسطين” و”متنبي فلسطين”.. الدكتور المتوكل طه هو “شاعر العرب الأكبر”.. الكاتب محمد علي طه سميح القاسم هو “شاعر العروبة بلا منازع وبلا نقاش وبلا جدل”.. الكاتب لطفي بولعابة “سميح هو “الشاعر القديس”.. الكاتب عبد المجيد دقنيش “هو سيّد الأبجدية”.. الدكتور نبيه القاسم هو “الشاعر المتجدّد دائماً “.. الناقد اللبناني محمد دكروب، “الشاعر العملاق والشاعر النبوئي.. الدكتور إميل توما، وهو “شاعر الغضب الثوري”.. الكاتب نمر نمر ” إنّه شلاّل متدفّق عطاءً وسخاءً “الناقد المصري رجاء النقاش (الذي سمى ابنه سميح تيمنًا بشاعرنا الكبير) وهو “شاعر الملاحم”، و”شاعر المواقف الدرامية”.. الدكتور عبد الرحمن ياغي، شاعر الصراع”.. الدكتور ميشال سليمان، وهو “مارد سُجنَ في قمقم”.. شوقي خميس. شاعر “البناء الأوركسترالي للقصيدة”.. الناقد اللبناني حبيب صادق: “لسميح القاسم وجه له فرادة النبوّة”). كان شاعر الشمس غاية في التواضع والرقة رغم ثوريته.. رغم التزاماته الكبرى.. رغم ثقل الرسالة التي يحملها، كان بابه مفتوحًا دائمًا لكل طارق يطلب المشورة وحسم الأمور في الاتجاه الصحيح الذي يصب في مصلحة أهلنا كان الخصم والحكم؟؟ فبالرغم من ضيق الوقت كان كلما اختلف اثنان في المنطقة يقترح أحدهما على الثاني قائلًا: “تعال أنشوف سميح شو بقول” وكان الخصماء يخرجون من بيته متراضين لما له من محبة في قلوب الناس جميعًا، ولما للناس من ثقة فيه.. لما له من سحر يتسرب إلى النفس بهدوء. “ولّي بدو حقو كامل هامل”.. يجب أن نتعالى عن الصغائر ونندفع إلى الأمام. نحن عندما يأتينا الضيوف تقوم الزوجة بإعداد القهوة بسرعة كواجب أولي ولكن سميح يترك السيدة نوال أم الوطن في انشغالها ورعاية أشبالها ويعد قهوة ضيوفه بنفسه. قبل شهر ونصف من وفاته قام مجلس دالية الكرمل بتكريمه وقد دعا عريف الحفل أحد أبنائه ليصعد إلى المنصة تفهمًا لوضعه الصحي إلا أن سميح أبى إلا أن يلتقي جمهوره وقد كان ممتلئًا حيوية ومرحًا وقام بسرد بعض الطرائف الممتعة التي جرت معه في دالية الكرمل أثناء فترة شبابه قبل أن تفصله سلطات الظلام من سلك التعليم. ويطرق السؤال في الجمجمة مجددًا: من أين كان يستمد الوقت؟!! 70 كتابًا في مختلف الألوان الأدبية أضاف إلى ابتكاراته في إضافة ألوان أدبية أخرى زاهية، إذ أنه كان يهوى المغامرات الفنية، ومؤلفات لم تصدر بعد وهي ستتجاوز سنين عمره، إلى جانب تحريره لعدة صحف عبر مسيرة حياته وإعداده وتأليفه لكتب أخرى لم تسجل لرصيده مثل الكتاب “الأسود” الذي وثق جرائم السلطات الإسرائيلية اتجاه (الأقلية) العربية في يوم الأرض، ومنها كتاب خاص بالأطفال الدروز، وقع باسم لجنة المبادرة الدرزية التي كان المحفز لإقامتها؟ وقد جاء ذلك في مواجهة البرامج التدريسية الخاصة لشحن الطفل الدرزي بالكبرياء والحس القومي.. في مواجهة التربية على الشعور بالذل والعدمية القومية و”عيد استقلال بلادي غرد الطير الشادي” وكان قد أصدر نشرة خاصة تحت عنوان ” نحن الدروز” سنه 1981 ركز فيها على الدور التقدمي القومي التاريخي الثوري للدروز في تحرير أوطانهم العربية ودحر الاستعمار العثماني والفرنسي، جاء كي يتشبث الجيل الجديد بهذا التراث المجيد. كما صدر له كتاب” لا توقظوا الفتنة” تصدى فيه لقوى الظلام التكفيرية مستشهدًا بقوله تعالى: “والفتنة أشدّ من القتل” “ولو شاء ربّك لجعل الناس أمّة واحدة” “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” و “إنّ أكرمكم عند الله اتقاكم” صدق الله العظيم. صدر باسم لجنة المبادرة الدرزية، كتب مقدمته الشاعر نايف سليم توقف الشاعر سليم عند قول سميح: من يدي لن يقفز الموت لصدر عربي يحرس الفجر الذي طاف على الشرق الأبي. كما وقف على موقف سميح الإنساني المحب المتسامح: الناس كل الناس في قلبي يروون من دفء ومن حبي جاروا ولكني أحبهم فعفر ذنوب الناس يا ربي. ويحز في قلب الشاعر ما آلت إليه أوضاع الأمة: ماذا أقول إذا استنطقت عن وجعي والجرح جرحي والسكين سكيني ويوم يزحم وجه المـوت ذاكرتي ابكي عراقي أم أبكي فلسطيني وعودة إلى: من يدي لن يقفز الموت لصدر عربي يحرس الفجر الذي طاف على الشرق الأبي. وقد صرخ بأعلى صوته: ” لسنا غصنًا مقطوعًا من شجرة هذه الأمة، نحن حرّاس أحلامها وسدنة نارها الطاهرة” الشيخ نعيم حسن شيخ عقل الدروز في لبنان قال في برقية التعزية التي أرسلها إلى رئيس السلطة الفلسطينية “بلغنا بوافر الأسى نبأ رحيل الشاعر المعروفي والمناضل الفلسطيني الكبير سميح القاسم، الذي قاوم الاحتلال الإسرائيلي وصلفه وظلمه وقهره للشعب الفلسطيني، وعبر بصدق ووجع عن معاناة الشعوب العربية، وكان خير من يمثل التزام أبناء طائفة الموحدين الدروز بانتمائهم العربي الأصيل وبتجذرهم في الأرض ” مشاهد الموت حاضرة بكثافة في شعره وذلك يعود إلى محاولة إرغامه على العمل في غرفة الأموات في مستشفى “رمبام” في مدينة حيفا بدلا من الخدمة الإجبارية وهو ككائن بشري مرهف الحس لا بد أن يعبر عن حزنه إزاء ما يراه وهنا يبرز تناغم التناقضات في شعره فبالرغم من أنه كان يتدفق مرح وأمل كان أيضا كخلق الله جميعاً تغزوه الهواجس وله عدة دواوين يتحدث فيها عن الموت” قرآن الموت والياسمين”
“الموت الكبير”و “الهي.. إلهي لماذا قتلتني” و ” سأخرج من صوتي ذات يوم” وها هو يقول: يا أيها الموتى بلا موت تعبت من الحياة بلا حياة وتعبت من صمتي ومن صوتي تعبت من الرواية والرواةِ ومن الجناية والجناة ومن المحاكم والقضاة وسئمت تكليس القبور وسئمت تبذير الجياع على الأضاحي والنذور. لقد أرادوا إذلاله، ولكن كانت ردة فعله معاكسة فانتصب شامخًا متمردًا على قرار السلطات الغاشمة، وقد كانت معارضته للتجنيد الإجباري هي البذرة التي نمت شجرة لتسمق في الأعالي لتتفرع أفنانها لمواجهة رياح الظلم في شتى الاتجاهات.. لم يتقوقع في مقاومة التجنيد الإجباري الذي كان فواه بركان غضبه الثوري الذي امتد ليقاوم الظلم أينما كان، وهذه نقطة مهمة لدارسي نفسية الشاعر معرفتها وعدم إهمالها عليهم أن يقفوا عند رأس النبع لمعرفة سر تدفقه وأنا أومن بالحق الذي مجده يؤخذ قسراً واغتصابا وأنا أومن أني باعثٌ في غدي الشمسُ التي صارت ترابا فاصبري يا لطخةَ العار التي خطها الأمسُ على وجهي كتابا وانظري النار التي في اضلعي تهزمُ الليل وتجتاح الضباب وعندها سجنوه في نفس الزنزانة التي سجنوا فيها المجرم النازي “ايخمان” لقد بلغ بهم الحقد هذا الحد؟ قالوا له: “نحن خططنا لتفرقة العرب إلى ملل ونحل ليسهل علينا التعامل معهم كما نشاء ولا نسمح لفرد أن يفشل مخططات دولة”
رافقتك السلامة يا أبا وطن محمد سنواصل السير على طريقك، لقد اتصل بي ابنك وضاح قبل موتك من أجل التنسيق لإقامة مهرجان ضد التجنيد الإجباري ( إن شبلك وضاح يأخذ دورك في شبابك ونأمل له انطلاقتك الكونية)وأنت لا تحب الموت ولكنك لا تخافه ونحن لا نحب ولا نخشى المحتل، وان كنا ندرك بأن ضميره المختل، سيقوده إلى ارتكاب جرائم جديدة، وأن عواقبنا وخيمة شديدة، ولكن جلدنا تخدر!! لم نعد كباقي البشر، ألفنا العذاب وما عاد ينفع معنا وخز الإبر، وترتد السهام من صدورنا إذا تطايرت من الوتر. إلى جنة الخلد يا ابا الوطن، ايها النائم في حضن زيتونة على سفح حيدر المطل على شمال بلادنا الحبيبة..