العالَم الذي جَعَلَتْه الولايات المتحدة ضاحيةً لها!
د. ادم عربي
تاريخ النشر: 27/08/24 | 11:02لَم تُصَرِّحِ الولاياتُ المتَّحِدةُ من قَبلُ، على حَدِّ عِلْمي، بأنَّ الفَصَائِلَ الفلسطينيةَ المُقاوِمةَ في غَزَّةَ تُهَدِّدُ “أمْنَها القَومي”. لكِن الآنَ تَقُولُ ذلكَ، وكُلُّ تَصَرُّفاتِها في هذا الشأنِ تَدعَمُ هذا الادِّعاء. ولَوْ كانت تُريدُ إنهاءَ الحَربِ هناكَ، لَما استمرَّتْ كُلُّ هذهِ المُدَّةِ.
الولاياتُ المتَّحِدةُ تُعَدُّ القُوَّةَ النَّوَوِيَّةَ والعَسْكَرِيَّةَ الأكْبَرَ في العالَم. وعلى الرَّغْمِ من أنَّ “الخَيالَ” قد يكونُ أحيانًا أهَمَّ من “المَنطِق”، فإنَّهُ لا يُمكِنُنا تَصَوُّرُ أنَّ المُقاوَمَةَ الفِلَسطينيةَ قد تَشُنُّ هُجومًا على الولاياتِ المتَّحِدةِ. فَكَيْفَ يُمكِنُ لها أن تُهَدِّدَ “أمْنَها القَومي”؟ للإجابةِ على هذا السُّؤالِ، يَبدو أنَّنا بِحاجَةٍ إلى “الخَيالِ” أكثَرَ من “المَنطِق”. فقد فَضَّلَ آينشتاين “الخَيالَ” على “المَنطِق”، حيثُ قالَ: إذا كانَ “المَنطِقُ” يُوصِلُكَ من “الأَلِفِ” إلى “الياء”، فإنَّ “الخَيالَ” يُوصِلُكَ إلى أيِّ مَكان. أينَ تَقَعُ الولاياتُ المتَّحِدةُ؟ إذا أردْتَ إجابةً “خاطئةً” عن هذا السُّؤالِ (الجُغْرافِيِّ) فما عَلَيْكَ إلّا أنْ تَعتَمِدَ على “المَنطِقِ”؛ فَتُجيبَ قائِلًا: إنَّها تَقَعُ غربَ العالَمِ القَديمِ، غربَ المحيطِ الأطلسيِّ، وشمالَ العالَمِ الجديدِ. أما إذا تَخَلَّيْتَ عن “المَنطِقِ”، واعْتَمَدتَ على “الخَيالِ”، فَتَقولُ: إنَّها مِثلُ “مَركَزِ الكَونِ” في نَظرِيَّةِ “الانفجارِ الكَبيرِ” (Big Bang)، تَقَعُ في كُلِّ مَكانٍ وفي أيِّ مَكانٍ على سَطحِ الكُرةِ الأرضِيَّةِ؛ إنَّها تَقَعُ في أُوروبا وآسيا وإفريقيا؛ في رُوسِيا والصِّينِ وبِريطانيا وفَرَنْسا، وفي إسرائيل والسعودية ومِصر والأُردنِّ والضِّفَّةِ الغَرْبِيَّةِ واليابان وكوريا الجنوبية..؛ في البَحرِ المتوسطِ وبَحرِ قَزوينَ والخَليجِ والمحيطِ الهندي.. لا أعرِفُ “النِّسْبَةَ” بدِقَّةٍ؛ لكنَّني أعتقِدُ أنَّ “نِصفَ” الولاياتِ المتَّحِدةِ (أو رُبَّما أكثَرَ أو أقلَّ قَليلًا) يَقَعُ (أو يَنتَشِرُ) في كُلِّ مَكانٍ (تقريبًا) في العالَمِ. انظُروا إلى “وُجودِها العالَميِّ (في كُلِّ القاراتِ، والعابِرِ للقاراتِ)”، بكُلِّ جَوانِبِهِ: جُزءٌ كَبيرٌ مُتَزايدٌ من مُواطِنيها يَعيشونَ ويَعملونَ ويُديرونَ ويَحكُمونَ ويَتَحَكَمونَ في كُلِّ الدُّوَلِ تقريبًا؛ وجُزءٌ كَبيرٌ ومُتَزايدٌ من قُوَّاهَا العَسكَرِيَّةِ والاقتصادِيَّةِ والماليَّةِ والاستثمارِيَّةِ والثَّقافِيَّةِ والفِكرِيَّةِ والسياسيَّةِ.. يَنتَشِرُ في قاراتِ العالَمِ جميعًا؛ وبَعضُهم نَراهُ مِثلَ البَدوِ الرُّحَّلِ، يَنتَقِلونَ من مَكانٍ إلى آخرَ بِسُهولةٍ، بَحثًا عن أشياءٍ لَيسَتْ كَالماءِ والعُشبِ، لكِنَّها بأهميةٍ كَبيرةٍ عندَ الشُّعوبِ القديمةِ الرُّحَّلِ. الولاياتُ المتَّحِدةُ هي القُوَّةُ الإمبريالِيَّةُ الأعظَمُ، ليسَ فقط في العالَمِ؛ وإنَّما في التَّاريخِ؛ فـ”إمبريالِيَّةُ” رُوما القديمةِ تتضاءَلُ بالمُقارَنةِ معها. في الأُردنِ، يَتعَصَّبُ أهْلُ السَّلْطِ لِمَدينتِهِم، ويُخَيَّلُ لهُم أنَّ مَدينتَهُم أكبَرُ من الأُردنِ، حتى أنَّ بَعضَهُم يَقولُ (ولو على سَبيلِ المُزاحِ) إنَّ الأُردنَّ هي عاصِمةُ السَّلْطِ. وأنا أقولُ (لكنْ ليسَ على سَبيلِ المُزاحِ، وليسَ تَعَصُّبًا للولاياتِ المتَّحِدةِ) إنَّ التَّاريخَ لَمْ يَعرِفْ دَوْلَةً أكبَرَ من العالَمِ، في كُلِّ شيءٍ إلّا جُغْرافِيًّا وديموغرافِيًّا، غَيرَ الولاياتِ المتَّحِدةِ؛ وإنَّهُ لأمرٌ كان “واقِعِيًّا” في الماضِي، فأصبحَ الآن “طُوباوِيَّةً خالِصَةً”، أنْ يُدْعى إلى عَودةِ الولاياتِ المتَّحِدةِ إلى العُزلةِ والانْعِزالِ عن العالَمِ، فَتُعيدَ كُلَّ مَنْ، وما، خَرَجَ منها إلى حيثُ كانَ قَبلَ عَشَراتِ، ومِئاتِ السِّنين؛ فإذا كانَ العالَمُ يَتَّسِعُ للولاياتِ المتَّحِدةِ المُتَزايدةِ حَجمًا ونُموًّا، فإنَّ الولاياتِ المتَّحِدةَ لا تَتَّسِعُ للعالَمِ، أو للقِسْمِ الأكْبَرِ منه، إذا ما قِيسَ بالمَقايِيسِ النَّوعيَّةِ. قديمًا، كانت الرَّأسمالِيَّةُ الأوروبيَّةُ تُقيمُ علاقاتٍ اقتصادِيَّةً وتِجارِيَّةً (أيْ بيعًا وشراءً) في المَقامِ الأوَّلِ، مع آسيا وإفريقيا، ولَمْ يكنْ لديها، من ثمَّ، استثماراتٍ ضَخْمَةً هناكَ تستَدْعِي الحاجةَ إلى أنْ تكونَ مِثلَ “حُكُومةٍ عالَمِيَّةٍ”؛ أما الآنَ فَنَرى جُزءًا كَبيرًا مُتَزايدًا من قُوَى الولاياتِ المتَّحِدةِ (من اقتصادِها وأموالِها ورُؤوسِ أموالِها الثَّابتةِ والمُتَغَيِّرةِ، ومن مُواطِنيها، من ثمَّ) يَنتَشِرُ في قاراتِ العالَمِ جميعًا؛ ويَنبغي لها، من ثمَّ، أنْ تكونَ “شُرطِيَّ العالَمِ”، وأنْ تَنشُرَ جُنودَها وأسلِحَتَها في قواعِدَ عَسكَرِيَّةٍ أوروبِيَّةٍ وآسِيَّةٍ وإفريقيَّةٍ؛ فإنَّ لَدَيْها خارجَ حُدودِها من الأشياءِ الثَّمينةِ ما يَستَحِقُّ أنْ تَحمِيهِ، وتُدافِعَ عنهُ بِكُلِّ ما أُوتِيَتْ من قُوَّةٍ؛ وهل كانت “مُصادَفَةً” أنْ تكونَ الولاياتُ المتَّحِدةُ هي صانِعَةَ “حامِلاتِ الطائراتِ”، وكُلِّ سِلاحٍ يَسمَحُ لها بتَجاوُزِ الزَّمانِ والمَكانِ، والتَّغَلُّبِ على “حاجِزِ الأطلسيِّ”؟! الولاياتُ المتَّحِدةُ هي قَلبُ ومَركَزُ النِّظامِ الرَّأسمالِيِّ العالَمِيِّ؛ فإنَّ قيمةَ النَّاتِجِ القَوميِّ (في هذا البلدِ الأكْبَرِ من العالَمِ) تَبلُغُ 22 تريليون دولار. وحِصَّةُ الصناعةِ منهُ لا تَتَعَدَّى 20 في المئة. إنَّ العالَمَ يَستَثمِرُ نَحوَ 15 تريليون دولار في سوقِ الأسهُمِ والسَّنَداتِ.. في الولاياتِ المتَّحِدةِ، أي أنه يُقرِضُ القُوَّةَ العُظمى في العالَمِ هذا المبلغَ الماليَّ الضَّخْمَ؛ ومعظَمُ هذا المالِ (نَحوَ 12 تريليون دولار) هو على هَيئةِ قُروضٍ قَدَّمَها العالَمُ لحُكومةِ الولاياتِ المتَّحِدةِ. في الرِّيغانِيَّةِ (وفي امتِدادِها البُوشِيَّةِ) وبِها، وبدءًا منها، تَحَوَّلَت الرَّأسمالِيَّةُ في الولاياتِ المتَّحِدةِ من أكبَرِ رَبِّ عَمَلٍ صِناعِيٍّ في العالَمِ، يُنتِجُ للعالَمِ السِّلَعَ، إلى أكبَرِ مُرابٍ في التَّاريخِ؛ حيثُ أغَرَتِ الفَوائِضُ الماليَّةُ الهائِلةُ، المُتَراكِمَةُ في مَصارِفِها، عاصِمةَ الرَّأسمالِ العالَمِيِّ بالتَّحَوُّلِ إلى رأسمالِيَّةٍ ربَوِيَّةٍ تُفَضِّلُ الأرباحَ السَّهلةَ والسَّريعةَ المَضمونةَ النَّاتِجةَ من إقراضِ العالَمِ على الأرباحِ النَّاتِجةِ من الصِّناعةِ، ومن بَيْعِها السِّلَعَ للعالَم. وها هي إدارةُ الرَّئيسِ بايدن تُخاطِبُ شَعبَها قائلةً: إنَّ لَدَيْنا في كوريا الجنوبيةِ عَشَراتِ الآلافِ من الجُنودِ؛ فَتَخيَّلوا أنَّ كوريا الشماليةَ “فَعلَتْها”، مُرسِلَةً إلى سَماءِ كوريا الجنوبيةِ سُحُبًا من غازِ السَّارينِ، فَتُمطِرُ على قواعِدِنا العَسكَرِيَّةِ هناكَ. قُصارى ما أُريدُ قولَهُ هو التالي: اعرِفوا أينَ تَقَعُ الولاياتُ المتَّحِدةُ حتى تَفهَموا معنى قولِها إنَّ المُقاوَمَةَ الفلسطينيةَ في غَزَّةَ تُهَدِّدُ أمْنَها القَوميَّ.