العدم فكرة غبية!
بقلم : د .ادم عربي
تاريخ النشر: 05/09/24 | 18:46“العدم” هو مفهومٌ معقدٌ ومثيرٌ للتفكير، يتجلَّى في العديد من الأديان والمدارس الفلسفية والنظريات الكونية. ومع ذلك، لا يوجد اتفاقٌ عامٌ على معناه. من الناحية الدينية، يُعتبر العدمُ جزءًا أساسيًا من مفهوم الخلق، حيث يتكون الخلقُ من ثلاثة عناصر: الخالق، المخلوق، و”العدم”. في هذا السياق، يُقال إنَّ الخلق لا يمكن أنْ يحدث إلّا بوجود خالقٍ يخلق المخلوقاتِ من لا شيءٍ أو من “العدم”. يُعتقد أنَّ اللهَ كان موجودًا قبل كلّ شيءٍ، ثم خلق كلّ شيءٍ من لا شيءٍ لأسبابٍ قد تبدو غير منطقيةٍ. في الخَلْقِ القرآنيِّ للكون، الذي يُعَرَّف في القرآن بأنه السماواتُ والأرضُ وما بينهما، لا نجد مفهوم الخلق من العدم. بل كانت السماواتُ والأرضُ موجودتين منذ الأزلِ، ولكنهما كانتا “رتقًا”، أي ملتصقتين، ففصلهما الله. هذا يعني أنَّ الخلقَ الإلهيَّ في ستة أيامٍ لم يتجاوز فعل الفتق. قبل خلق السماواتِ والأرضِ وما بينهما في ستة أيامٍ، التي حار المفسرون في تفسيرها ولم ينجحوا في ذلك حتى الآن، كانت السماواتُ والأرضُ موجودتين كشيئين ملتصقين. وكان اللهُ موجودًا، وكان عرشُه على الماء. فمع اللهِ كان عرشُه والماءُ الذي عليه عرشُ الخالق. حتى الأمرُ الإلهيُّ “كُنْ” يثبت وجودَ اللاعدمِ ولا ينفيه؛ فالأمر، منطقيًا، يتطلب وجودَ آمِرٍ ومأمورٍ. فإذا كان الآمِرُ هو اللهَ، فمن يكون المأمورُ؟. تخيل أنك تريد خلقَ قمر أو القمر بأمر “كُنْ”. ستأمر شيئًا ما قائلاً له: كُنْ قمرًا، فيكون. الدينُ لم يستطع أنْ يكون مؤسسًا لفكرة الخلق من العدم لأن تصورَ العدمِ لم يكن في متناول الذهن الديني. هيجل، رأسُ الفلسفة المثالية الموضوعية، تجاوز عقبة العدم في الدين. فقد تصور الخالقَ كفكرةٍ لا تحتوي على شيءٍ من المادة، لكنها متحدةٌ اتحادًا لا ينفصم مع مبادئ وقوانين الديالكتيك. ونظر إلى الطبيعةِ (أو المادةِ) كأنها رداءٌ لهذه الفكرة، مفسرًا تطورَ الطبيعةِ على أنه انعكاسٌ لتطور الفكرة المطلقةِ نفسها. ورأى في الإنسان، أو في هذا الحيوان العاقلِ، الفكرةَ نفسها وقد وعَت وأدركت نفسها بنفسها. “إله هيجل” لا يحتاج إلى فكرة الخلق من العدم، فهو إلهٌ ديالكتيكيٌّ يتطور. ونحن البشر لا نرى تطورَه الديالكتيكيَّ، لكننا نرى انعكاسَ هذا التطورِ في الطبيعة. تطورت النظرياتُ الكوزمولوجيةُ في اتجاهٍ دينيٍّ ــ مثاليٍّ، حيث تهافت منطقُ الأفكارِ الدينية والمثالية بفضل تطور علم الكونِ في القرنين التاسع عشرِ والعشرين. هذا التطورُ جعل القائلين بهذه الأفكارِ يشعرون بالعجز عن الإجابة على الأسئلةِ الكوزمولوجيةِ الجديدة، مما أدى إلى تراجع ثقةِ الناس بالفكر الدينيِّ والمثالي. ومع ذلك، اشتملت نظريةُ الانفجار الكبيرِ على العديد من العناصرِ والمفاهيم التي تتوافق مع الفكر الدينيِّ والمثالي، مما زود هذا الفكرَ بأسلحةٍ جديدةٍ في حربه ضد المادية. لننظر الآن كيف أسست نظريةُ الانفجارِ الكبيرِ لمفهوم “العدم” الفيزيائيِّ. لفهم هذا المفهومِ وطريقةِ التفكيرِ التي قادت إليه، دعونا نتخيل أنَّ الكونَ بدأ ينهار على نفسه. هذا الانهيارُ يصل إلى نقطةٍ يسمونها النقطة الكونيةَ لانهائيةِ الكثافةِ، حيث تختفي فيها كلُّ مادةِ الكون. في هذه النقطة، يُعدَم الحجم، مما يجعل النقطةَ لانهائيةَ الكثافةِ. تمادوا في إعدام المادة، ففي هذه النقطةِ ينعدم الزمانُ والمكانُ، فلا يحدث أيُّ تغييرٍ فيها. لا تتصوروا هذه النقطةَ على أنها شيءٌ أصغر من الإلكترونِ بملايينِ المرات؛ فهي بلا حجم. فيزيائيًا، لا يوجد سببٌ يدعو إلى هذه النهايةِ لانهيار الكون على نفسه، ومع ذلك، قدموها كمسلَّمةٍ فيزيائية. إذا سألتهم قائلاً: هل هذه النقطةُ مادةٌ؟، سيجيبونك: كيف تكون مادةً وهي تنعدم فيها الزمانُ والمكانُ والفضاءُ والقوى؟ وهكذا، نجد أنَّ نظريةَ الانفجار الكبير قد أصبحت وسيلةً لتبرير الأفكارِ الدينية والمثالية، مما أدى إلى تداخلٍ غيرِ مسبوقٍ بين العلمِ والدين. قبل أنْ يبتكروا نظريةً فيزيائيةً حول “العدم”، كان من الأجدر أن يقوموا أولاً بتحديدِ ماهية “المادة”. فليس من المنطقيِّ، ولا من المسموح به، أنْ تدعي أن “أ” جاءت من “ب” دون أن تكون قد حددت بشكلٍ واضحٍ ما هو “ا”. وبنفس المنطق الفيزيائيِّ، لا يمكنك القول إنَّ “المادة” نشأت من “العدم” إذا لم تكن قد انتهيت من تعريف “المادة” بشكلٍ دقيق. بدلاً من ذلك، قاموا بتشويهِ مفهومِ “المادة” واستمروا في تشويهها، محولين إياها إلى “مادةٍ غير ماديةٍ”، ثم قالوا لك: هذه ليست مادةً. فهل ما زلتَ تصرُّ على أنَّ “المادة” لا يمكن أن تُخلق من العدم؟ لقد قدموا رجلَ الدين بزيِّ عالم الفيزياءِ ليتمكنوا من إدخال الأفكارِ الدينية إلى عقلك باعتبارها أفكارًا فيزيائيةً عميقةً وعبقريةً.